سلطة الديماغوجيا.. ديماغوجيا السلطة
د. خضر محجز | فلسطين
استهلال:
“إِنَّ الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه، كما تتخلل الباقرة بلسانها”
حديث صحيح أخرجه كل من أبي داود والترمذي
تعتمد الديماغوجيا خطاباً غير منطقي وغير عقلاني: يخاطب الغرائز ويخدر الشعور. فالديماغوجي لا يلجأ إلى البرهان، لأن من حق البرهان أن يبعث على التفكير، وأن يوقظ الحذر. والكلام الديماغوجي مبسط يعتمد على جهل سامعيه وسذاجتهم؛ ومن هنا قدرته على السيطرة، التي يمارسها على المخيّلة الجماعية، لدى الجماهير البسيطة. ولعل في هذا التعريف ما يجيب على السؤال المركزي في ديموقراطيات العالم الثالث: لماذا يحظى الديماغوجيون بحضور لافت بين البسطاء؟.
هناك تعارض وتناقض بين الحضارة والغرائز. أدرك ذلك الإنسان مبكراً. وأدركت ذلك الشرائع السماوية، منذ آدم ونوح إلى محمد صلوات الله عليهم. لكن الخطباء الديماغوجيين لا يهمهم هذا الإدراك في شيء، لأن كل ما يسعون إليه هو اقتناص السلطة بكل وسيلة. وخلال رحلتهم الماكرة، في تغييب العقل والعلم، يستعينون بالغرائز:
فالشرائع تطالب الإنسان بالعفو، لكن الديماغوجيا تركز على الثأر، واستثارة الغرائز الأولية، الدافعة إلى السبق بالقتل حفاظاً على البقاء.
والشرائع تجعل الجنس وسيلة وهدفاً في آن: وسيلة لحفظ النوع، وهدفاً للمتعة السامية. لكن الديماغوجيا ـ الدينية على وجه الخصوص ـ تحول الجنس إلى عملية جماع (مستمر) لأكبر عدد من الجميلات.
والشرائع تبيح الإثراء الحلال، بشرط مراعاة حاجات المحرومين، والديماغوجيا تحول الوطن إلى (منهبة كبرى) تمنع السؤال عن أصل الثروة، خشية اكتشاف ما لا يسر الخاطر.
والشرائع تأمر بحب المخالفين والحرص على إقناعهم، فيما تأمر الديماغوجيا باستبعاد الآخر وإلغائه، باعتباره (كالأنعام بل هم أضل سبيلا).
والشرائع تأمر بالوفاء بالعهود والمواثيق، حتى لو رافق ذلك شعور بالغبن، فيما الديماغوجيا لا تمانع في نقض العهود ونكث الأيمان المغلظة ـ حتى لو كانت في حجر الكعبة ـ مبررة ذلك بما يمكن أن تسميه (مصلحة الجماعة)…
ولئن كان أول شيء فعله الإنسان ـ بمجرد أن نزل عن الشجرة ـ اختراع القوانين، ومنح سلطة تطبيقها للهيئة الاجتماعية، والتعهد باحترامها؛ فلقد جاء وقت رأينا فيه جميعاً كيف عمد هؤلاء الخطباء الديماغوجيون إلى ضرب سلطة القانون في الصميم، بحيث لم يعد من الغريب أن ترى شخصاً (شديد التدين) يستقل سيارة لا تحمل لوحة أرقام، مستعيضاً عنها بعبارة (لا إله إلا الله)، مخطوطة على ورقة مقواة، ومعلقة مكان (اللوحة الجاهلية)!.
وأنا لا أعرف كيف يمكن لشرطي أن يضبط سيارة مخالفة لا تحمل إلا (لا إله إلا الله)، ثم لا يتهم بالكفر؟!. وفي هذا الصدد لا أرى بأساً في الاستشهاد بحادثة رأيتها بأم عيني، حيث حول خطيب ديماغوجي ذات احتفال بيوم العيد إلى مأتم، ومظاهرة عدوانية، لمجرد أنه رأى بعضاً من الناس يهزجون ويرقصون الدبكة ويغنون. حيث جمع ثلة من أمثاله، وحرضهم على الهتاف الصاخب: (الله أكبر)، ليشوشوا على الاحتفال. فلهذا ولغيره، لا يجب أن تؤخذ الحقائق من أفواه الخطباء. ومن لم يصدق فلينظر حوله الآن ليرى كيف انقلبت الديماغوجيا على كل شعاراتها المعلنة.
إن الخطاب الديني هو خطاب عقلاني في الأصل، حتى وهو يستعين بالعواطف. لأن العواطف التي يستعين بها هي عواطف سامية، لا مجرد غرائز متوحشة، وتظل محكومة بالعقل. لكن الخطيب الديماغوجي ـ الذي لا تهمه القوانين ولا مسيرة الحضارة ولا حتى الأديان السماوية ـ لا يرى ذلك ولا يسمعه، لأن همه مركز على تحقيق مصلحته في الوصول إلى السلطة. إنه يمتهن كلمة الله، ويشتغل بها، بغض النظر عن الحقائق الموضوعية.
الديماغوجيا تكره الديموقراطية، لأنها دولة مؤسسات تقدم الكفء على غيره، بينما الديماغوجي لا يملك غير لسانه الصاخب وحركات ذراعيه البلهاء. وهيهات للسان وحده أن يبين كيف حصل هذا الشخص على كل هذه الثروة، رغم أنه منحدر من عائلة فقيرة، وأن دخله المعلن لا يكاد يكفيه لرحلات اللحوم المشوية، التي يمارسها سبعة أيام في الأسبوع.
قل لديماغوجي: من أين لك هذا؟. ثم راجعني لتقول لي بماذا أجابك. هذا إن تمكنت من المشي على قدميك بعدها.
قل لديماغوجي: من أين اشتريت قطعة الأرض الفلانية، وأنت لا تعمل إلا موظفاً بسيطاً، في دائرة مراقبة أموال الأيتام؟. ثم راجعني لتخبرني بجوابه، إذا تمكنت من الإفلات من خطبة عصماء يلعن فيها سنسفيل آبائك، باسم الدين.
قل لخطيب ديماغوجي: لماذا استوليتم على أرض فلان، ولماذا لا تعيدونها له؟. ثم تعال إلي لتخبرني كيف اتهمك بأنك (دحلاني) انقلابي تحب (العلمانيين).
قل لخطيب ديماغوجي: كيف تدعو الناس إلى القناعة، وتكييف أنفسهم على خمسة شواكل يومياً، ثم لا تخجل عندما تنهي خطبتك بركوب سيارة ثمنها عشرات الآلاف من الدنانير؟!. ثم تعال إليّ، مشياً على قدميك، إن استطعت إلى ذلك سبيلا!.
قل لخطيب ديماغوجي: لماذا توظفون في أجهزة القمع فئة معينة من الناس، ثم تبيحونها محاباة أشكالها من المخلوقات، وقمع باقي الفئات (التي هي أرقى منها في سلم التطور الاجتماعي)؟. ثم أخبرني بربك ماذا حدث لك، أو ماذا لم يحدث لك؟.
الديماغوجيا تكره علم الحساب، لأنه يقرر أن واحد زائد واحد يساوي اثنين. بينما الديماغوجي يقرر أن الرزق من عند الله، وأن عليك أن تقتنع بأن حاصل جمع مرتب موظف بسيط، يتيح له استبدال السيارة بأفضل منها، والزوجة بأجمل، منها والبيت بأوسع منه، وأن عليك كذلك أن تثق بـ(أمناء الأمة) ليأكلوك، ويشربوك، ويزردوك، ثم يخرجوك مع فضلاتهم، باسم نصوص لا تعرف من أين جاؤوا بها، ولا كيف يفسرونها.
لقد رأيت من الديماغوجيين من يقول لك عند اعتراضك على بعض تصرفات إخوانه: التمس لأخيك عذراً، فإن لم تجد له عذراً، فقل: لعل له عذراً لا أعلمه!. فبالله عليكم، هل رأى أحد من الناس شيئاً يشبه هذا عند غير الديماغوجيين؟!.
ولقد رأيت من الديماغوجيين من يقول لي بأن علي أن أذهب إلى (بنك الله) لأقبض مرتبي الشهري حلالاً، بدلاً من مال محمود عباس (الحرام). وعندما طلبت منه أن يتوقف بدوره عن العمل في أجهزة القمع، ثم يذهب معي آخر الشهر إلى (ذات البنك) الذي دلني عليه، ليرى إن كان الله قد صرف له حساباً باسمه هناك. ولكنه بدلاً من أن يفعل ما أمرني به، حدق في بعينين غاضبتين تقولان: والله لأطخنك ذات يوم.
الديماغوجيا تستبدل التاريخ بالأسطورة، وتقرر أننا أفضل الخلق، رغم أننا أرذلهم؛ وأننا بُعثنا لهداية العالمين، بينما نحن نصدر أولادنا إلى لندن، ليأكلوا من أموال دافع الضرائب البريطاني، ثم يفرشوا ساحة (بيكاديللي) بكتب حول (عذاب القبر ونعيمه) و(حقيقة السحر والجن) و(التداوي بالأعشاب)… وفي آخر النهار لا يرون بأساً في أن يدسوا المتفجرات في الحافلات العامة، التي تقل أناساً يأكلون من خيرهم، ويأمنون على أنفسهم من طغيان حكامهم في بلادهم؛ مجادلين بأن هؤلاء لم يعودوا (أهل كتاب) وأنه (لا ذمة) لهم ولا عهد ولا ميثاق. ثم لا بأس بعدُ من أن يشنوا على اليهود حروباً كلامية زاعقة، حول (نقض العهود) و(شعب الله المختار)…
الديماغوجيا تستبدل الحياة بالموت، إذ تستعين على رفض صحيح الدين بالفتاوى الموروثة من عهود الانحطاط. ولقد لا يعلم الكثيرون أن أغلب الفتاوى، التي يتم ترويجها اليوم، ليست من زمن الخلفاء الراشدين أو الأئمة الأربعة، بل كلها منقولة عن (علماء العصر المملوكي). وكأن الاجتهاد البشري توقف عند عهود السلاطين، الذين لم يرثوا السلطة إلا بالسيف!. وكأن الحياة العربية باتت عقيمة عاجزة عن إخراج من يناقش مسائل البنوك، وهل هي مؤسسات ربوية أم لا؟ ومسائل التأمين الاجتماعي، وهل هي قمار أم لا؟ ومسائل تداول السلطة ومراقبتها ودواعي الخروج عليها…
إن الديماغوجيا لا تحسن ذلك كله، أو بعضه، لأن كل ذلك هو فن الحياة. وفن الحياة لا يعرفه الديماغوجيون. إنها لا تحسن إلا أن توجهك إلى مؤسساتها المالية، لتدفع الربا أضعافاً مضاعفة باسم الدين. جرب أن تذهب إلى أي (بنك إسلامي) لتحصل على قرض بهدف شراء بيت، ثم جرب أن تفعل ذلك مع (بنك ربوي) لتكتشف أن فوائد (البنك الإسلامي) أكبر بكثير، رغم أنها تلبس فوق رأسها عمامة دونها عمامة شيخ الأزهر.
الديماغوجيا لا تعترف بأن (الناس سواسية كأسنان المشط). ورغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو من قال ذلك ـ كوديعة ثقافية لا تقبل النقض في آخر ما نُقل عنه من كلام ـ إلا أننا نرى كيف تقسم الديماغوجيا الشعب إلى درجات: فالحكام في الطبقة الأولى، وعلماء السلطان في الطبقة الثانية، بينما الباقون مجرد عامة، أو دهماء، أو سوقة، أو رعاع، أو سفلة، أو غوغاء…
عندما يقتنص الديماغوجي أصوات (السفلة)، في انتخابات ما، فإنه يكون قد قرر في نفسه، مسبقاً، ضرورة خداعهم: باعتبارهم عامة لا يعلمون. كما يكون قد نوى في نفسه، مسبقاً، أكل أرزاقهم؛ باعتبارهم دهماء كالحيوانات التي يكفيها العشب. وبالتأكيد فإنه يكون قد عقد قلبه، مسبقاً، على نية قهرهم على (النظام) الذي يقرره لهم ـ بمعزل عن مصالحهم ـ باعتبارهم رعاعاً يستحقون أن يُجبَروا على طاعة أولي الأمر. ولا شك أنه قد وعد نزعاته الموروثة القديمة، مسبقاً، باستخدام العنف في تأديبهم؛ باعتبارهم سوقة فضائحيين. ولا ريب كذلك أنه كان قد اعتقد، مسبقاً، بأنه يستطيع بالفعل أن يسخر من عقولهم بسرد القصص المضحكة، على اعتبار أنهم مجرد غوغاء تعجبهم الأصوات دون الأفعال… وهكذا.
ولكن ما يجري في الواقع هو، في الغالب، غير ما يعتقد الديماغوجي وما يفعل. ورغم أن جهل الديماغوجي ـ الذي هو طبيعة لازمة له ـ لا يدله على أن للكلام تاريخاً، وأن الألفاظ لا تُلقى هكذا على عواهنها، دون اعتبار لما فعلته الدنيا بها؛ ورغم أن الديماغوجي لا يزال متصوراً أن الكلام مجرد نشاط صوتي يُلقى من فوق المنابر كالضجيج؛ إلا أن الحقيقة سوف تبقى هي الحقيقة، وسيظل الكلام نشاطاً إنسانياً معبراً عما يدور في الوعي:
عندما تعتبر شخصاً ما مجرد مخلوق سوقي، فسوف يغدو مباحاً لنا أن ندرك أن تعبيرك هذا يحمل في طياته الرغبة في التأديب العنيف. إن معجمنا اللغوي ليدل على شخصيتنا الحضارية. فماذا سوف أعتقد عندما أسمع شخصاً يشتم الرئيس المنتخب ويتهمه بالخيانة، إلا أنه قد أهدر دمه؟. وكيف سأصدق أن من يخرج (ببغاواته) لتردد لازمات كلامية قبيحة عن (سلطة رام الله) يريد بالفعل حواراً وحلاً ووحدة لجناحي الوطن!؟. ألا يمكن لي حينئذ، وألا أستطيع، أن أستذكر ما قالته الديماغوجيا حول يهودية ياسر عرفات وخيانته، ثم انقلابها على نفسها من بعدُ، لتترحم عليه، وتقتنص منه الأموال، ثم أقارن كل ذلك بما يقال اليوم عن (حكومة دايتون)!؟. وكيف لي أن أنسى الحرمة المزعومة للدخان، وأنا أرى كيف تتاجر به الديماغوجيا اليوم. فيما نعلم جميعاً كيف وقفت ذات يوم لتعادي كل معتقل النقب، وترمي الدخان في المراحيض، خشية اضطرارها إلى إهدائه لعناصر ليست من حزبها؟.
أما الآن فلنحاول إحصاء بعض ما وعدتنا به الديماغوجيا، وبعض ما أخفقت في تحقيقه:
وعدتنا الديماغوجيا بالتغيير من الأسوأ إلى الأفضل. فهل اختارت للمجلس التشريعي من يناقشون ويحاسبون، أم اختارت مجموعة (خطباء) يحسنون حمل العصي ومنع زملائهم من عقد الاجتماعات المقررة؟. إنها لديموقراطية، إسلامية، شورية، من نوع فريد، هذه التي ننعم بها تحت سلطة الديماغوجيا!.
وعدتنا الديماغوجيا بمحاربة الفساد. فهل بدأت برؤوس الفساد من كبار الديماغوجيين، أم أننا لا زلنا نرى المتنفذين (المتدينين) الذين أتوا بالحصار غير محاصرين، والذين رفعوا الأسعار غير جائعين؟. فليطولن حرماننا إذن، وليمتدن جوعنا، ما امتدت سلطة الديماغوجيا في هذه البقعة الحزينة من أرض الله!.
وعدتنا الديماغوجيا بالأمن. فهل نحن الآن آمنون، أم أننا لا نزال نسمع ـ في كل ساعة من نهار ـ أن فلاناً قد خُطف من بيته، ولم يعلم أحد من فعل به ذلك؟. فإذا كان ما نعيشه اليوم هو الأمن. وإذا كانت عيني لم تكذباني وأنا أرى طفلاً من (جماعة المسلمين)، لا يتعدى عمره الثانية عشرة، يحمل بندقية مهيأة للإطلاق، يدور بها في الشارع؛ فيا لطول (أمننا) هنا، ويا لطول ما تنالنا طلقات حاملي البواريد الصغار!
وعدتنا الديماغوجيا بخفض الأسعار. فهل صارت أنبوبة الغاز بعشرين شيكلاً، بدل ثلاثين كنا ندفعها في زمن (سلطة دحلان الفاسدة)، وهل صار كيس الطحين بستين، بدل مائة كنا ندفعها في زمن (سلطة عباس الفاسدة)؟!. أم أن أنبوبة الغاز صارت بخمس وخمسين، وكيس الطحين صار بمائة وأربعين؟!. دع عنك المحروقات والمواصلات والخضروات والعلف والدجاج واللحوم، فكل هذا لم يعد ضرورياً لنا في ظل سلطة الديماغوجيا!.
وعدتنا الديماغوجيا بتأمين السلع. فهل تم ذلك، أم أنها اكتفت من الغنيمة بإلقاء اللوم على الجهات المحاصِرة؟. وهل ستظل الديماغوجيا تتبرأ من مسؤوليتها في تأمين السلع الأساسية للناس، طوال مدة حكمها؟. إننا إذن لأتعس شعب، مارس أتعس انتخابات!.
وعدتنا الديماغوجيا بالفرص المتساوية في الوظائف والعمل. فهل تم توظيف بواب واحد، في وزارة واحدة، من خارج حزبهم؟. إننا إذن لمرغمون على التحول إلى مناصرين للديماغوجيا، لكي ننال خبزتنا!.
وعدتنا الديماغوجيا بتقديم المجرمين للعدالة. فهل تم تقديم قتلة أطفال (بعلوشة) و(الموسه) وغيرهم للعدالة. أم أنها اكتفت من العدالة بالتمثيل بجثة (سميح المدهون) أمام جهات العالم الأربع، رغم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “لا أمثل، فيمثل الله بي”. فهل بات الديماغوجيون مقررين رفض الاستماع إلى أوامر من بالاستناد المزعوم إليه نالوا سلطتهم؟.أم اتخذت الديماغوجيا قرارها باستبدال المحاكمات القانونية بالمحاكمات الشوارعية والتمثيل المتلفز؟!. إننا إذن لواقعون ضحية من لا يخجل ولا يرحم.
وعدتنا الديماغوجيا باستنهاض العمق العربي، وتحفيزه للوقوف مع قضيتنا العادلة. فهل فعلت ذلك، أم اختارت التحالف مع قوى إقليمية بعيدة، لتنال سخط الجوار العربي واحتقاره، ومشاركته ـ من ثم ـ في فرض الحصار علينا؟. إنه إذن لحصار سيطول، ما ظلت لغة الخطاب الديماغوجي هي السائدة!.
وعدتنا الديماغوجيا بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب. فهل اختارت لسلطتها المختصين والخبراء، أم أنها فضلت أن تعين في المناصب العليا (أهل الثقة من قريش) ولو كانوا مجرد حمقى وبلهاء؟. فهل بات على القضاة وحراس القانون أن يشتغلوا حمقى وبلهاء، ليقع عليهم الاختيار لشغل المناصب العامة؟!. إنها لدولة فريدة هذه التي سيحكمها أمثال هؤلاء، بتفويض من الديماغوجيا!.
وأخيراً:
هل سمع أحد في العالم بحكومة كحكومتنا؟. وشعب كشعبنا؟. وعلاقة بين الحاكم والمحكوم كعلاقتنا؟. لقد علمنا أن وظيفة الحكومة، في الدولة الحديثة، خدمة الشعب ورعاية مصالح الناس، وأن وظيفة الناس مراقبة الحكومة ونقد أخطائها، ومطالبتها بالمزيد من الشفافية والمحاسبة. فما بال الهرم الآن وقد أصبح مقلوباً على رأسه، في ظل سلطة هؤلاء الذين يقولون عن أنفسهم (حكاماً متدينين)؟!. وهل أصبح دور الشعب مقتصراً على خدمة الحكومة وتأمين مصالحها، ثم البحث لإخفاقاتها المتكاثرة عن الأعذار؟!. وهل تحول دور الحكومة من سلطة تنفيذية، ترعى تطبيق القانون، إلى مجموعة (دعاة) ينادون بضرورة الالتزام بقانون، هم أنفسهم لا يلتزمون به؟!.
فإذا كان ذلك كذلك، فلتصدر الحكومة (المتدينة) قرارها بتحويل الشعار المشهور من (الشرطة في خدمة الشعب) إلى (الشعب في خدمة الشرطة). فهذا والله أقرب إلى واقع الحال، هنا في غزة، بعد سيطرة (المتدينين) عليها، ذات نكبة متجددة.
وبعد؛
فإنني أدعو السيد إسماعيل هنية، إلى المداومة على أكل الزعتر دون زيت، ليس لمجرد التأسي بمتوسطي الحال، الذين لم يعودوا يجدون ثمن الزعتر المصبوغ بالألوان السامة؛ بل تطبيقاً حقيقياً وشفافاً لدعوته المبكرة لنا بالاكتفاء بالزعتر. إن عليه أن يفعل ذلك أولاً، ثم يتخذ من الوسائل ما هو كفيل بطمأنتنا أنه لا يفعل إلا ذلك، ثم فليطلب منا الطاعة التامة، كما فعل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مع الأعرابي الذي اعترض على طول ثوبه من الغنائم. أليس هو عمر هذا الذي كنسوا بفضله أصوات البسطاء؟!. أم أن لهم عمراً آخر، لا يحسن إلا قطع أعناق المرتدين؟!.
إنني أدعو الوزراء، في حكومة الأمر الواقع في غزة، إلى الاقتداء بالسيد إسماعيل هنية، في ذلك، وأن لا يثوروا عليه ولا يستعينوا عليه بسلطة الحزب، الذي يقولون إنه (حزب إسلامي على نهج النبوة)، لأن من أسباب تحقق الصمود أن يطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منهم. أم أن السيد إسماعيل هنية هو من أولي الأمر علينا، نحن الشعب المنكوب فقط، دون كوادر حزبه المتدين؟!.
إنني أدعو هؤلاء الذين وظفهم إسماعيل هنية، بأن يمتنعوا عن اقتناص كوبونات الفقراء لجيوبهم، لأن لها أصحاباً، الله سوف يسألهم عنهم ذات يوم قريب.
إنني أدعو كبار المشايخ، الذين يقبضون مرتباتهم بآلاف الدنانير، أن يتبرعوا بكل ما زاد عن تكاليف الخبز والزعتر، ليطعموا به الفقراء من جيرانهم، الذين اقتنصوا أصواتهم ذات انتخابات بائسة.
لقد ربط رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بطنه حجرين، ذات مجاعة. ولم تمتد يده لتأخذ من المال، الذي يستحق خمسه بنص القرآن. فهل ربط نواب التشريعي وأغنياء الحزب المتدين على بطونهم المتدلية حجراً واحداً؟. أم أنهم تمادوا في الثريد والعسل، ثم اكتفوا برشوة ضمائرهم بقليل من ربطات الخبز، التي يوزعونها ـ من المخابز المملوكة لحزبهم ـ على أعوانهم بالليل.؟!
فيا أيها الناس: حتى الخبز يحتاج إلى قليل من الزعتر، كما أفتى بذلك السيد الجهبذ إسماعيل هنية. ويا أيها الناس: حتى من ليسوا أعضاء في حزبكم الميمون يحتاجون، في معيشتهم إلى الخبز، والقليل من الزعتر.
أم أن عليهم بالفعل دفع ثمن انتخابهم لكم، ذات انتخابات تخللها الكثير من الديماغوجيا المتسربلة بالدين؟!.
“يا أيها الذين آمنوا، لم تقولون ما لا تفعلون؟!. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” صدق الله العظيم