الدهليز
تهى العبرية | كاتبة عُمانية
اللوحة للفنان: روب جونزلفز 1959-2017
مروراً بكتاب ” الحياة بعد الحياة”، كتاب استوقفني لوهلةٍ حتى اسْتشِفّ أموراً عديدة بين سطور “دايموند ماودي ” وهو معتنق للمسيحية، عِشتُ معه عالماً آخر مع نفسي استذكِرُ فيها أُناساً ارتحلت أقدامهم وأصبحت في الغابرين، غادروا مقاعدهم وانتهى دورهم في حياتنا لحظة ما غطى التراب ملامحهم رغم تشبّت أرواحهم داخلنا. بعد سَرْده لتجارب كثيرة مع الفريق المختص من خلال الجلوس مع مرضى كانوا على شفا حفرةٍ من الموت، ولكن بُقدرة قادر كُتب لهم حياة جديدة وخرجوا من المشفى. كان السؤال المكرر لهم: ماذا رأيتم وما تتذكرون لحظة مكوثكم في الغيبوبة أو تحت تأثير المخدر؟! تشابهت حواراتهم جميعاً عمّا رأوْهُ بشكلٍ غير طبيعي، تكلموا عن الدِهليز الأسود المظلم في الفضاء والذي يركضون وكأنهم يسبحون فيه، الشبيه بالبئر أو أنبوب المجاري، ولا يُفكرون لحظتها بأي شيءٍ سوى الشعور بالراحة والاستقرار والسلام والهدوء، تشابه وصفهم أيضاً عن النور الأبيض المُنبعث رُويداً رُويداً ليقترب منهم بِدفء وحنانٍ دون أذى للعين، عن الصوت المدوّي والطنين وغيرها من الأمور.
رَفرفتْ أشجاني بين هذه القصص والتي نقلت مشاعري مثل تباين أصوات مفاتيح البيانو صعوداً بالرقيق الخافت ونزولاً بالفخم والصاخب، حَدثَت في عقلي معركة من الهواجس والأفكار والذكريات وبعض الهمسات في قلبي لأمور عدة، فتحاور العقل والقلب بأمور نذكرها تباعاً متفرقات.
قد نُقنع أنفسنا أن هذه ماهي إلا مجرد هَلوسات وخرفنة صاغها العقل تحت تأثير المخدر وقت الغيبوبة، وقد تكون مصادفة، ولكن يبقى المثير هو تشابه التفاصيل بينهم في الحكايا، والعلم عند رب العالمين. ولا بأس أنْ يتذكر الانسان نهايته مهما بلغ ووصل، كل واحدٍ منا قطع شوط من حياته وقد سجّل شريطاً حافلاً بمواقف وذكريات وأفعال بعضها ما جعلت منه إنساناً ذو مكانة في علمه وعمله، ومنها ما جعلته يلتهب ناراً من الحسرة والندم على سوء تصرف أو فعل او قلة وعي واهتمام. أين أنت اليوم في حياتك؟ هل أنتَ راضٍ بما حققت؟ أم مازال بداخلك بصيص أمل يجّرك للمواصلة والأخذ بيدك للاستمرار والعطاء؟
خُلق بني آدم كخليفة على هذه الأرض وعلى اعناقه رسالة وُجب عليها صيانتها وصياغتها واتباعها ورسم مستقبله وِفق المنطق والدستور من خلال إِعمار الأرض وصنع الحياة، ماذا عمِلتَ لنفسك، لحياتك، لمجتمعك؟ ماذا تود أن تحقق بما يُرضي ربّ العباد؟ المرء شغوف بحياته يشبك ويخطّ وينتقي ليبحث عن حياة كريمة محفوفة بالرفاهية والراحة، يُحقق فيها متطلباته والعيش الرغيد لنفسه ولأبنائه وعائلته، يلهَثُ ويتعب ليجني، ولِيَصل، حتى يتلذذ الصعود للقمة. وقد تعترضك أُموراً عكس السير فتُغيّر من مسار احلامك، ولكن لا تحزن مهما كانت خسائرك في العمر، فلم يفُتْكَ شيء مهما كانت ظروفك، فالله يرى ويسمع وسيعطيك فوق ما تحلم ولو تأخر، ما دمت تدعوه وتُحسن الظن به، فلا يهتز ايمانك به، فهو السند الدائم الباقي والوحيد، ولن يموت الانسان إلا وقد استوفى حقه كاملاً الذي كتبه الله له، بدون نقصان.
تنوعت القلوب وتلوّنت بالأساليب والأفعال بين الناس وكل مرءٍ بما كسب رهينة ، فتهذيب النفس وتزكيتها مطلب شرعي في قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا)، تغطية التقصير وعدم الخوض في المحظور من أقل سُبُل المحاسبة، فلا تضع في قلبك شوبة شائب من الظلم والحقد والحسد، فالحياة محطات ورحلات ولا شيء يساوي في الدنيا هذه الدراما التي تصنعها مع الناس، أنتَ من يخسر نفسك ومكانتك وأجرك ،وصحتك ونفسيتك، تُهدرها سُدى دون جدوى، وازن دائماً في أفعالك، وجالس قلبك وعقلك واستشرهم فهم رُفقاؤك، حتى تعيش سعيداً وصافي البال.
” لكل إنسان وجود وأثر… ووجوده لا يُغني عن أثره؛ ولكن أثره يدل على قيمة وجوده” (د. على الحمادي)” اتْرك أثراً وغادر، ليُشار إليه بالبنان، علّق قلبك باليقين والثقة والإرادة في نفسك وبربك واصنع ما جادت به يداك ، وليس للإنسان قيمة إن ظلّ قابعاً في غيابةِ السكون، البعض منهم رحل ومازال حياً يُذكر بعمله وبصمته التي تركها خلفه ، وإليكم قصص العصور المنصرمة والتي خلّفت وراءها أُناساً أضاءوا بفكرهم حتى الغرب ، وصنعوا حضارة أمّتهم فخلّد التاريخ ذكراهم. دَعْ عنك اغلال الخمول واكتشف نفسك وهويتك وخلّف لك أثر، فالأنفاس تعدُّ وتُحصى، والموتُ حق وكلنا جنائز مؤجلة، فلا تترك منفذ، اقتنص واجني.
طيّب الله البقاء..عمّر الله الأثر.