تنمية التحرر وتعزيز الصمود في فلسطين

نهاد أبو غوش | فلسطين

لوحة جورج كوراسوف

كثيرا ما تطرح قضية التنمية في فلسطين بوصفها هدفا للحكومة والسلطة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والشعب الفلسطيني بشكل عام، دونما اي ربط بين إمكانية تحقيق التنمية وهدف التخلص من الاحتلال وقيوده، بل ينظر إلى الاحتلال باعتباره “عقبة كأداء” وليس قوة مدمّرة وسالبة لجميع فرص التنمية وأهدافها التي حددتها الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والدولية ذات الصلة، وهذا المقال سيتحدث عن دور المجتمع المدني الفلسطيني في هذا الصدد. لا أظن أن المجتمع المدني يمثل جسما موحدا متفقا على جميع المسائل الاجتماعية والاقتصادية، وثمة خلافات جدية وملموسة تحديدا في قضية التنمية بين من ينظر للتنمية من زاوية التغيرات الكمية التي تطرأ على حجم الاقتصاد والناتج المحلي الإجمالي (شاملا المساعدات الخارجية) ومعدلات الدخل وسائر الحسابات الاقتصادية ذات الصلة، وبين التنمية الانعتاقية التحررية التي تتبناها بعض أطراف المجتمع المدني وبعض القوى السياسية والمجتمعية.

مفهوم التنمية التحررية الانعتاقية يسري حتى في الدول المستقلة، حيث تسعى قوى الاستعمار القديم والقوى الرأسمالية الكبرى إلى فرض تقسيم دولي للعمل، يبقي بلدان العالم الثالث موردا للمواد الخام وسوقا مستباحة ومفتوحة للشركات الاحتكارية والدول الكبرى ، وفي الوقت نفسه تواصل الدول الكبرى احتكار التكنولوجيا وتصوغ قوانين التجارة الدولية على مقاس مصالحها، وتخرقها عندما تستدعي مصالحها ذلك كما جرى في الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على الصين.

في فلسطين تتخذ التنمية التحررية الانعتاقية معنى محددا وملموسا يتلخص في هدف الانفكاك عن الاحتلال، والتحرر من التبعية التي فرضها اتفاق أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي من خلال إقامة غلاف جمركي موحد، يسير في اتجاه واحد لصالح الاحتلال الذي ما زال يستبيح السوق الفلسطينية (فيبيع فيها أكثر من 5.3 مليار دولار) ويسيطر على الموارد والمياه والحدود والموانىء والأجواء بما في ذلك المجال الكهرومغناطيسي، ويسعى بشكل محموم لفصل القدس عن باقي الجسد الفلسطيني بكل ما تحمله هذه المدينة من رمزية ومكانة سياسية وروحية واقتصادية واجتماعية، فهي تاريخيا إلى جانب يافا مركز للنشاطات والمؤسسات الفلسطينية، كما أن القدس هي عقدة المواصلات الفلسطينية. ويواصل الاحتلال نهب الأرض ويطمع في ضم المناطق المصنفة ج ، ويركز على سلب أراضي غور الأردن التي تمثل سلة غذاء فلسطين متذرعا بمبررات أمنية، مع أن الاحتلال أقام مشروعات زراعية ضخمة في غور الأردن وتحديدا لانتاج التمور والفواكه التي تحتاج إلى حرارة وكميات كبيرة من المياه ( يسلبها الاحتلال من الفلسطينيين من خلال سياسات التعطيش)، وسيطر الاحتلال كذلك على الجزء الجنوبي من البحر الميت الذي يقع ضمن حدود الضفة الغربية المحتلة عام 1967، ويقيم على هذه المنطقة منشآت سياحية وعلاجية ويستغلها لاستخراج أملاح البحر الميت ما يدرّ عليه مليارات الدولارات سنويا من استثمار الأرض المحتلة التي يحرم الفلسطينيون منها تماما.

لكل ما سبق فإن التنمية تتطلب سلسلة من الخطوات أولها فرض الأولويات الوطنية على التمويل الخارجي، وشمول القدس والمناطق المصنفة ج، والتركيز على الريف، وعلى الاستثمارات كثيفة العمل، والحد من هيمنة القطاعات الطفيلية والكمبرادورية (وكيلة ابضائع الاجنبية وخاصة الاسرائيلية) وقطاع المضاربات من خلال اعتماد نظام الضريبة التصاعدية على الدخل مع إعافاءات ملموسة للقطاعات الإنتاجية التي تشغل أعدادا أكبر من العمال، وتفعيل حملات المقاطعة، والتركيز على شعار “تنمية الصمود” على قاعدة أن التنمية في ظل الاحتلال مستحيلة، وبالتالي فإن التنمية هي في الجوهر تعزيز فرص بقاء المواطنين على أرضهم، الآن تشتد الحاجة لمثل هذه الرؤية التنموية في ظل تبني بعض الأوساط الإسرائيلية ومنها نفتالي بينيت لخطة أو خيار “تقليص الاحتلال”، وهي خطة مشابهة لخطة لا بيد تجاه قطاع غزة (1) ترمي إلى زيادة عدد التصاريح وتكريس التبعية للاحتلال .

هل العلاقة الحالية مع السلطة علاقة صدامية ام علاقة احتواء ولماذا ؟

الطابع الصدامي أو الاحتوائي بين السلطة ومنظمات المجتمع المدني هما مفهومان نسبيان ومتغيران، فإذا كانت السلطة منتخبة وفي وضع مريح، تكون فرص الصدام محدودة وسلمية في الغالب، بل إن السلطة تشعر بالثقة بالنفس ولا تخشى معارضيها، أما إذا كانت السلطة مأزومة وتخشى من إجراء الانتخابات فسوف تشعر بالذعر من اي حراك يستهدفها أو حتى ينتقدها مجرد انتقاد،وبالتالي تميل السلطة في هذه الحالة إلى محاولات احتواء منظمات المجتمع المدني أو تقليص فعالياتها وتشديد الراقبة عليها وعلى مصادر تمويلها كما جرى في التعديلات المقترحة لقانون الجمعيات الخيرية.

في الإجمال الصدام ليس أمرا سلبيا دائما، فهو تعبير عن الصراع الطبيعي والصحي في أي مجتمع، مثلا من الطبيعي أن يحتج المحامون على اي تشريع يمس ياستقلالية القضاء كما رأينا مؤخرا حيث أن الذين احتجوا من من المحسوبين على حركة فتح التي تقود السلطة، كذلك الأمر الصحفيون حتى الفتحاويون منهم احتجوا على الانتهاكات التي واجهتها الصحافة بما في ذلك قانون الجرائم الاليكترونية وحجب أكثر من 40 موقعا، وتوقيف صحفيين على خلفية النشر. المهم في هذه الحالات أن يكون الصراع سلميا وديمقراطيا ومن خلال الأدوات المشروعة بعيدا عن القمع والتعسف في استخدام الصلاحيات، وهذا يسري على اي خلاف أو صدام بين اي قطاع اجتماعي والسلطة، وقد شهدنا حراكات ليست معارضة للسلطة من ناحية جوهرية ولكنها تعارض بعض القرارات والتوجهات كما في حراك الضمان الاجتماعي، وحراك المعلمين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى