جلسة في مقهى السلام

د. خضر محجز | فلسطين

لوحة زيتية للفنان إدوارد ديبات بونسان

ذات يوم في أحد المقاهي، وأنا داخل ـ لا لي ولا عليّ ـ مثل أعمى بين مبصرين، أو شيخ بين مثقفين، فوجئت بمائدة ممتدة باتساع فضائح المتحلقين حولها.

ولأن مروري من أمامهم كان محتماً ـ أو ربما لأنني أحببت ذلك ـ ولأن رؤيتهم لي هنا كانت مفاجئة، فلم يكن أمامهم من مندوحة سوى دعوتي إلى الجلوس، فجلست كفنجان مقلوب، بين هذه المجموعة من الزهور الاصطناعية، عالماً بما سيكون من شأني وبما سيكون من شأنهم.

والحق أن توقفي كان كما توقعت له، مرغوباً من جانبي، مكروهاً من جانب الداعين، الذين وجدتهم يتحدثون بحماسة عن عملية السلام، وضرورة نبذ الإرهاب، وفوائد توسيع الحوار مع المثقفين الإسرائيليين، المؤيدين لتخلي الفلسطينيين عن القدس وحق العودة!.

استمعت صامتاً، لأنني أعرف النهاية، التي لم أشأ استعجالها، لكنها مع جلوسي ما كان لها إلا أن تحدث سريعاً، وعلى هذه الشاكلة:

سألني كبير القعدة، وكان أحد المشتغلين الجوالين بجمع التبرعات، لدعم الثقافة الفلسطينية على مستوى العالم:

ـ والا إيش رأيك يا شيخ خضر؟.

وقبل أن أتطرق إلى ردي، أحب أن ألفت انتباه القارئ الكريم هنا، إلى أن هذا اللقب “الشيخ” الذي أعتز به، يستخدمه في مخاطبتي صنفان من الناس: الأول من عباد الله العاديين من أمثالي، وهؤلاء ينادونني به تحبباً واحتراماً. أما الصنف الثاني فأغلبه من المشتغلين بالشأن الثقافي، بقصد التقليل من شأني العلمي والثقافي، باعتبار لقب الشيخ يحيل إلى السذاجة وانعدام الواقعية، وضعف القدرة على فهم الأمور.

إذن فاللقب ـ في نظر هؤلاء ـ ذو محتوى أيديولوجي يحيل إلى دال يستصغر شأن المخاطَب به (من اسم المفعول)، في نفس الوقت الذي يضفي فيه على المخاطِب (من اسم الفاعل) سمة العلم والثقافة ومعرفة حقائق الأمور والقدرة على التعامل معها.

إنها عملية تمثيلية تُستخدم فيها الكلمات لقول الأيديولوجيا، وإصدار الأحكام القَبلية.

وبمقدار فرحي وفخري بسماع هذا اللقب من الناس العاديين، يكون مقتي لسماعه من “المثقفين” ـ هذا وقد درجت عادة شاعر صغير، يدعي أنه ضد التطبيع ويتحالف مع أساطينه، على مناداتي بهذا اللقب. كما درجت عادتي، بالمقابل، على كشف سرقاته ومخازيه ـ وعندئذ أشن هجومي عليهم (أي على المثقفين)، ليتراجعوا مكتشفين أن هذا الشيخ ـ الذي هو أنا ـ ليس شيخاً، فيضطرون إلى إظهار الاحترام المبالغ فيه!.

ويا لله كم هو مبلغ فرحي بنفاقهم هذا، وكم هو حزنهم بـ”تبجحي” هذا الذي أصر على رفع وتيرته كلما قابلت أحدهم!.

نعود الآن إلى ردي، في المقهى، على كبير القعدة ومن حوله من “المثقفين” الذين يخطئ واحدهم في كتابة الإملاء، ثم يهاجم محمود درويش لأنه “شاعر مباشر”.

قلت: صلوا على سيدكم النبي.

وفوراً صرخوا: اللهم صل وسلم وبارك عليه.

فقلت: زيدوا سيدكم النبي صلاة.

فردوا بصوت أقوى: اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.

أعجبني “الموال”، وأحببت الاستمرار في “السلطنة والترديد”. ولكني خشيت أن يثوروا ويسبوا الدين نكاية فيّ. فأمسكت بعد المرة الرابعة.

وبعد أن حمدت الله على السلامة قلت: أود أن أوجه لكم سؤالاً قبل كل شيء: هذه المائدة الحافلة بالطعام والمشروبات، من الذي دفع ثمنها؟.

تطلع بعضهم إلى بعض، ثم لم يردوا.

ولقد كان بإمكان أحدهم أن ينبري بالرد، وتحمل مسؤولية “القضية”، ويخرج بها “صقراً” ـ كما كان يفعل المناضلون في السجن، عندما يضحي أحدهم بنفسه معترفاً بأنه هو من أعدم “العميل” الممدد أمام الضابط الصهيوني ـ لكن أَنَّىٰ لـ”مثقف” من هذا النوع أن يكون فدائياً، على هذه الدرجة من نكران الذات، ويتحمل تقريع “الشيخ خضر” على الملأ. لأنه يعرف أنه إن رد فسوف يتم فتح الملفات، التي يعرفها من حوله، وسيكونون هم أول من يتشفى به، رغبة في النجاة من مصير مماثل.

ولا جرم؛ فجلهم لا يعمل في عمل معروف ـ باستثناء كتابة قصائد لا يُعرف أولها من آخرها ـ ولا يتقاضى أجراً معلناً، اللهم إلا إذا اعتبرنا منح مؤسسة شمعون بيريس لدعم السلام أجراً معلناً.

هذا شكل اجتماع من اجتماعات مثقفي هذا البلد المنكوب. وهذا نوع من أنواع الثقافة التي يتداولونها. ورحم الله يوماً دخل فيه أحدهم عليّ في مكتب رئيسي في العمل، ليسألني أمامه سؤالاً محدداً:

ـ ما رأيك في العمليات الانتحارية؟.

ولقد كان من الواضح أن ما أراد أن يثبته هذا الأحد بسيط وسريع الوصول.. لقد أراد أن يثبت لرئيس عملي أنه يشغل عنده شخصاً غير مثقف ـ الذي هو أنا ـ وأن الأولى بوزارة الثقافة أن تشغل أمثاله هو ممن يعرفون كيف تدار الأمور الثقافية.

لم أصحح له اللفظ، ولم أحرر له المصطلح، لأنني كنت يومها خائفاً من هذه الطائرات الجوالة، التي تصطاد الناس في الشوارع. وإذ أمسكني الولد ـ وهو بالمناسبة ولد صغير، تخرج في الجامعة حديثاً، ويدور بزوجته على المكاتب بحثاً عن عمل ـ من مكمن ضعفي, متحققاً من جبني الهالع، فقد لمع في عينيه بريق الانتصار، وقال كأنه فتح القسطنطينية:

ـ أما أنا فأقول بأنها إرهاب!.

خرجت من المكان. وفي تلك الليلة لم أنم، لطول محاسبتي لهذا المخلوق الجبان الذي يسكن في داخلي. وإذ لم أستطع الصبر أكثر، فقد خرجت إلى مكتبي صباح اليوم التالي، حاملاً عكازي الذي أتوكأ عليه من النقرس ـ بالمناسبة النقرس عندي هو من نوع نقرس العدس لا اللحم ـ وأخفيته في درج المكتب، بعد أن قصصت منه ما يمنع من ذلك، وقررت أن أتناوله به على أم رأسه، فور عودته إلى سؤال مشابه، وملعون أبو كل الطائرات الإسرائيلية والأمريكية.

لكنه لم يعد، إلا في مقال تافه انتصر فيه لسيده، الذي دفع له، ثم تخلى عنه، عندما بدأت بقضمه قطعة وراء أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى