تمظهرات الحوار الداخلي في قصيدة (أعماق الوهم) للشاعر أحمد البياتي

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

إنَّ نصَّ الحداثة الشِّعري يُولَدُ عادةً من قطبَين متفاعلَين ومتصارعَين هما: الذات والعالَم, فالنَّص الحداثي لا يبدأ في العُزْلة أو الفراغ, بل في نطاقٍ من العلاقات التي تُرسَمُ بين الشَّاعر, والعالَم أو الواقع بتعارُض مفرداتِهِ وتعقُّد علاقاته[1], إذ من الطبيعي ألَّا توجد في هذا الكون ذات “متوحِّدة”, بمعنى أنَّها تُمارس وجودَها بمعزل عن الآخرين وعن الأشياء, رُبَّمَا تتخذ تلك الذات موقف “الرفض” من العالَم, ولكنَّها لا تستطيع أن تتخذ موقف “النفي” منه, ولا تبرز الذَّات في النَّص الشِّعري نسقاً منعزلِاً عن الآخر كما نلحظها في أثناء مناجاةِ الشاعر لنفسِهِ وغنائيتِهِ الدَّاخلية؛ إذ لا يُمكن النظر إلى تجلِّي الذات متجرِّدةً عن الآخر, فإنَّ من المُحال أن يبرز الآخر في النَّص الشِّعري بعيداً عن الذات؛ لأنَّ الذات تُشكِّل المحورَ الرئيس في العلاقة الثنائية بينها وبين الآخر لتتمظهر في النَّص من قريبٍ أو بعيدٍ فهي التي شكَّلت هذا الآخَر بل هي التي خلقتهُ في النَّص, وأقامت علاقتَهُ مع غيره[2], وأنَّ الوعي الوجداني بالذات لا يتم بطريقةٍ ذاتيةٍ, كما لا يتم بناؤها وتطويرها إلَّا من خلال “الآخر” بإدراكه والوعي به , وتفسير دوره, والصراع المستمر معه, سواء أكان ذلك “الآخر” حقيقةً أم خيالاً , ومهما كان بعيداً أو قريباً[3], ونجد شاعر المعاناة احمد البياتي يناجي الآخر, فنراه يقول

عطش الأيام مثل طير شريد

تناثر رماداً في صمت المخاضات

رافق سراب أزمنة المتعبين

عزف أغنيات الرحيل

بين موتين، احتراق وحنين[4]

نجد التجسيد واضحا في النص الشعري إذ عبر الشاعر البياتي عن عطش الأيام في تشبيه رائع للطير الشريد ,وفي ثنائية جميلة تجمع (الموت/ الحياة) في احتراق الحنين الذي يخلف رمادا في بيته السابق, إنَّ ثمَّةَ أواصرَ متجذِّرةً تجمع بين الذات والآخر, وتَجلي حقيقة كلٍّ منهما, فالموازنة بينهما تُصبِح بمنزلة مرآةٍ قد تكون أداةً وسبيلاً للتعارف والتجاوز, فالآخر طريقٌ إلى الوعي بالذات بقدر ما يُوقِظُ الذات على حقيقتها, ونحن حينَ ننظر إلى الآخر نرى فيه الجانب المغاير والمختلف, ولذلك قد ننكفئ إلى ذواتنا فنحتمي بخصوصيتنا, وتعترينا حالةٌ من النرجسية أو نعود إلى نرجسيتنا الأصلية حينَ تكون العلاقة بالآخر علاقة تحدٍّ ونفيٍ, فالنظر إلى الآخر إنَّما هو اختراقٌ للذات؛ إذ إنَّ الآخر قد يمثل الجدِّية, فيبهرنا بغيريتِهِ, وتجذبنا حقيقتُهُ, ويدفعنا إلى التماهي معه, ولذلك فإنَّ الموازنة معه قد تُفضِي إلى التجاوز ومن ثَمَّ إلى التعارف والائتلاف[5] إنَّ تضخُّمَ الذات وسعيها إلى نفي الآخر, غدت من السمات المترسِّخة في الخطاب الشِّعري, ومنه تسرَبت إلى الخطابات الأُخَر, ومن ثَمَّ أصبحت نموذجاً سلوكيَّاً ثقافياً يُعاد إنتاجه؛ لكونها قيمةً نسقيةً منغرسة في الوجدان الثقافي وهي ما تسبَّبت في إحداث انقسامٍ بين الذات والآخر في الميدان الشعري الذي يؤكِّد على تلازُم الذات بالآخر في إشارةٍ إلى عدم تمكُّن الذات من تقوقُعِها على نفسِها واحتفالها بنرجسيتها وهو ما يماثل رأيَ هيغل الذي يُشير إلى أنَّ الفرد يكتشف “الأنا” الخاصة به ليس عن طريق الاستبطان, بل عن طريق الآخرين في سياق عملية الاحتكاك والنشاط منتقِّلاً بذلك من الخاص إلى العام[6], فنراه يقول:

رمالٌ تنتظر الأمواج

بين أشواق التلال وأزمنة الحلم

وجدٌ يعانق الليل في مدن خائفة

ناغمَ صوت ريح شاخت

رسمَ درباً للفرح دون ضياع[7]

 إذن ثمَّةَ جدل قائم بين الأنا وذاتها من جهةٍ , وبينها وبين الآخر من جهةٍ أخرى, فالأنا تتحدَّد في متكلمٍ بعينه على المستوى اللغوي, وعلى المستوى السيكولوجي, تتحدَّد عبر حالات الوعي الذاتي من خلال بوابة اللغة التي هي أوجب الأفاعيل الوجدانية؛ إذ يتم بوساطتها وعي الإنسان لذاتهِ, أمَّا الآخر فقد يتموضع في ذواتٍ أُخَر تكون مرآةً لأناهُ, وقد يتحقَّق هذا الآخر في الذات الوجدانية  أو في العالم الطبيعي بما يشتمل عليه من كائنات وظواهر على نحوٍ يُبرز التفاعلَ بين الأنا وذاتها أو الذات وذواتٍ أُخَر أو بينها وبين العالم[8], لقد بدأ الشاعر احمد البياتي  في نصِّهِ الشِّعري يتمظهر في نوعٍ من الحوار, والحوار الأعمق بين ذاتهِ, وذات الآخر, وهو حوار من شأنِهِ أن يعمل على تشخيص النقائض والمختلفات التي يتألف منها الوجود الإنساني , فكان نصُّهُ الشِّعري مزيجاً من الداخل والخارج, الخاص, والعام المرئي, واللامرئي, الواقعي والشعري[9], فنراه يقول :-

في مفترقات الحلم

أمسحُ ماتبقى من الذكريات

أحملُ ضحكات طيور حائرة

أعومُ في بحرٍ بلا شطآن

خلف شجن شجيرات الغربة

صرخته انزوت في أعماق الوهم[10]

ويحاول الباحث في قصيدة (اعماق الوهم) للشاعر المبدع احمد البياتي أن يُجلي تمظُهرات الذات, والآخر, وتمركُز الآخر وازدياد حضوره في مواضعَ معينةٍ ليعكس اهتمام الذات به وتوافقها معه؛ إذ إنَّه يصدر عن تجربةٍ شعريَّةٍ لها مسوِّغاتُها نحو الآخر المحبوب أو الغزلي ولذلك فهو من فرط حبِّهِ له وولعه به, نراه يبسط له جانباً كبيراً من عواطفه واهتماماته ليجعله يتمركز على حساب الذات ,فنراه يقول :-

في غابات الهمس

أطوفُ صحبة سواقٍ كفيفة

أتسكعُ خلف سراب الهوى

محملاً بعبير نسيم مسافر[11]

طبيعة الخطاب هنا يكون محمَّلاً بالخشية والخوف من الفقدان والصدِّ والتوق إلى الامتلاك , وأحياناً أُخَر تكون الذات مرآة له يقوم بتشذيبها , ويستعرض فيها ما يتخلل ذهنه من أفكارٍ ورؤى, ولذا فإنَّ الذات هنا تحتلُّ نسبةَ المركز قياساً إلى الآخر الذي يكون حضورُهُ مكمِّلاً لصورةَ الذَّات بما يُحقِّق صورةَ التَّلازم بين الذات والآخر, وبمعنى آخر يكون للآخر حضور نسبي يستدعي وعياً من الذات بدلالة وجودِهِ في المشهد الشِّعري  إذ يتدخل هذا الآخر بأشكاله المختلفة في الضّغط على جزءٍ من الذات المتداخلة وتوجيه وعيها [12]. من خلال ما تقدم يحق لي أطلاق تسمية شاعر المعاناة والحزن العميق على الشاعر المبدع احمد البياتي.

المراجع: 

[1] ينظر : الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية : 6 .

[2] الرؤية والعبارة : 84 .

[3]  ينظر : التجليات الفنية لعلاقة الأنا بالآخر في الشعر العربي المعاصر : 425 .

[4] قصيدة أعماق الوهم : احمد البياتي .

[5] ينظر : التأويل والحقيقة: 57 .

[6] ينظر : النقد الثقافي (قراءة في الأنساق الثقافية العربية): 94 0

[7] قصيدة أعماق الوهم .

[8] ينظر : جدلية الأنا – الآخر : 7 .

[9] ينظر : الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية : 5 – 6 .

[10] قصيدة أعماق  الوهم .

[11] قصيدة أعماق الوهم .

[12] الذات والآخر في شعر الشيخ جميل حيدر : علي حسن عبيد : 65 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى