قراءة في نص: تحت لحية حرب الشوارع في وادي السلام للشاعر عبد الرزّاق الربيعي
قاسم المشكور | العراق
ليس هناك أسوأ من أنْ تفرضَ الحربُ أخلاقياتها على المجتمع؛ فيغدو الإيمان بالحرب جزءا من الإيمان بالحياة.. عندما يصبحُ المجتمعُ عاجزاَ عن كراهةِ الحرب؛ فعليك أن تدركَ انّ الأمرَ أشدُ خطورةَ؛ و سوداويةَ مما كنتَ تتصور.. إن إستسلام المجتمع لمنطق الحرب يخلق وبشكلٍ تدريجي تعايشاَ وتماهياَ مع تداعياتها؛ لأنهم عجزوا عن كراهتها ذاتيا؛ فقادَ ذلك إلى عدم كراهتها من الخارج أيضاَ.. . إنّ أربابَ الكلمةِ الصادقةِ هم وحدهم من ظلَّ خارج هيمنة الحرب؛ فراحوا يطلقون هتافاتهم الشعرية المعززةَ بالإيمان؛ والموشحةَ بفضح مخلفاتها؛وآثارها.
أيها الشاعرُ؛ انت لستَ شاعراَ إنْ لم تزحْ عن ظهرك كل أحمالِ الخوفِ؛ والتردد؛ لانك عند الخطوب لا تقلُّ منزلةً عن نبي.. عندما يقعُ الناس تحت نوبات الحرب التي تصيبهم بلا تمييز إعلم إنها ستكون كما الولادة المشوهة يصعبُ تجميلها.. إنها زلزال أعمى لا يتوقف تأثيرها على الأحياء؛ بل يمتد ذلك إلى الأموات أيضاَ كما يرى شاعرنا_
عندما تسمع دوى الموت يا أبي
وتشاهد الفناء الأحمر يدنو منك
إغلق نافذةَ قبرك جبداً
إغلق الهواء عليك
لا نريد للدخان أنْ يلون بالسواد رئتيك
اللتين تنفسنا عبوهما
شذى العالم
عندما تدق القنابل بابك يا ابي
أدر لها ظهر موتك
وعليك بعظامك يا ابي
لملمها قبل وقوع الإنفجار
نخاف عليك
على يدك الكريمة من التبعثر
عند هبوب الغازات الجوية
عظامك العظيمة مهمة لنا يا أبي
إنها كل ما تبقى لنا
من نخيل العراق
وخصوبة هوائه
وآثاره التي سرقها
لصوص حمورابي
عليك بعظامك العظيمة يا أبي
إنها مهمة
مثل ختم سرجون الأكدي
الذي باعوه بثمنٍ بخس
في سوق الهرج
عظامك مهمة يا أبي
ألم تختبئ
تحت ظلهاعشرات العمائم
والرطانات
واللهجات
والأضرحة؟
اما لحومنا الطازجة
فلا تخش عليها من الإنفجارات
ستطلع لنا لحوما اخرى
ما دمنا على قيد العراق
يا لهذا المشهد الذي رسمته فرشاة شاعر حساس؛ انها صرخة بقاء؛ وإستمراية في الوجود يطلقها بوجوه أعداء الحياة.
في هذا النص انت لا تقرأ شعراَ؛ بل تسمعُ عزفاَ جنائزياَ مهيباَ؛ عزفاَ يتسلل إلى أعماقك؛ فيحدثُ في النفس إنفاعلاَ؛ وفي تفاصيل الجسدِ إرتجافاَ؛ فقد شيع الشاعر كل آماله؛ و أحلامه في لحظةِ إحباطٍ مفجعة.
وفي جزئية أخرى يقول الشاعر_
يا أبي عندما تسمع صخب الملائكة
وهم يعملون بنشاط
تحت لحية حرب الشوارع
إغلق نافذة قبرك جيدا
لكي لا تتسلل شظية
من ملاك عابر
فتلصق التهمة بعظامك
فتقدم الي محكمة الله
وكأني بالشاعر يوجه الإتهام حتى إلى الملائكة؛ وهو تعبيرُ عن الإيمان بالغيبِ؛ فالقادمون من السماء؛ والحاملون بأيديهم شظايا النار؛ والمملوءة أفواههم بكل أهوال الغيب وتهاويله؛ وجحيمه؛ وزئير آلهة الحرب الرهيبة؛ والعاملون بنشاطٍ تحت لحية حرب الشوارع إنما هو تعبير عن الإيمان بالقضاء؛ والقدر اكثر مما هو إدانة؛ وإتهام للملائكة.
إن القارئ لينتطرُ من الشاعرِ أن يقدمَ له نصاَ تتوارى خلف حروفه أسرارهُ؛ وهذا ما فعلهُ الشاعر؛ بيد انه لم يغلفْ نصهُ بالأحجيات المملة؛ بل راح يعرضُ حقائقهُ على طبق من لغةِ الزهرِ؛ وبإنسيابيةٍ عاليةٍ؛ ودون تعقيد؛ لأن البعض يتصور ومعه حقإن المبالغة في التورية؛ وكثرة إستخدام الرموز هو خروج عن تعاليم تقديم الحقيقة؛ من هنا يمكن تفهم عزوف الشاعر عن الغموض الذي يتطلبهُ إستخدام الدلالة الرمزية.
يقول الشاعر_
وإذا ما أقتربوا من رأس الإمام علي
فلا تجاهد يا أبي
إنهم لا يريدون رأسه
إنهم يريدون رأس العراق
إنه إحتجاج عالي النبرة على قوانين الحرب؛ وبطريقة الحوار المسرحي؛ وقد ساعد هذا في تدفق الإنفعالات التي تضمنها النص عبر حقنهِ بجرعاتٍ عاطفيةٍ شديدةِ الحرارةِ؛ فأضحت لغتهُ لاسعةَ يكتوي بها عشاق الحقيقة.