نزهة نهرية في دجلة الخير

رجاء حميد رشيد | العراق


بعد وجبة إفطار بغدادية بامتياز (مخلمة وشاي مهيل على أول خدرته) في المقهى الأشهر والأقدم على ضفاف نهر دجلة في بغداد (مقهى البيروتي)، أخذنا العم محمود في نزهة نهرية لا تتجاوز عشر دقائق ، كان الجو آخذ بالتغير وأشعة الشمس اللاهبة لم تعد كذلك، فقد بدأت تنشر طيف أشعتها الخفيفة التي انعكست على المياه وزادتها بريقاً ولمعاناً يشعرنا بالدفء والإحساس بحلول فصل سنوي جديد وهبوب نسمات منعشة من على ضفاف نهر (دجلة الخير) مقترنا بقول شاعر العراق الأكبر محمد مهدي الجواهري – رحمه الله – ورائعته الشعرية
حييت سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين

دردشة
أخذ القارب يذرع مياه دجلة تاركاً خلفه فقاعات كبيرة وأمواج متحركة أثر قوة دفع الماء لمحركه ، وصوت كاظم الساهر يصدح ” يا أغلى امرأة بين نساء الكون… أحبيني”، أبطأ العم محمود سرعة قاربه عندما شعر بأني وزوجي مستمتعان جداً بالرحلة قائلاً : خففت السرعة من اجل أن تستمتعا بوقت أطول في هذه الرحلة إكراماً لكما ، وهذا ليس بغريب فالعراقي صاحب الشيمة والكرم والأصالة، حسي الصحفي يأبى مفارقتي حتى في أجمل اللحظات فتبادلت أطراف حديث جميل مع العم محمود، الذي يسكن في إحدى المناطق القريبة للمقهى، ويمتهن مهنة صيد السمك التي تعلمها وورثها عن عمه منذ أكثر من ثلاثين عاما، ويعمل في المقهى منذ عامين وبأجر أسبوعي، بعد أن أجبرته الظروف على بيع قاربه الذي يملكه ، حيث كان العمل في هذه المهنة يدر ذهباً ومالاً وفيراً عندما كانت المياه تغطي جوانب النهر وتفيض مما يساعد على توفير بيئة مائية ملائمة لنمو الأسماك وتكاثرها وتنشيط حركة الصيد فيها، ولكن بعد تعرض نهر دجلة للجفاف والعطش وانخفاض مناسيب مياهه أصبحت مهنة متاعب وقلة دخل، وهو أب لأربعة أولاد أبعدهم عن هذه المهنة المتعبة، وأضاف: تقريباً يتوقف صيد الأسماك خلال موسم الشتاء على حد قوله:
(تنام) يعني تدخل إلى أعماق المياه ولا تخرج إلى السطح إلا عند حلول فصل الربيع، فاتخذ من الرحلات النهرية عملاً بديلاً.
استدار القارب للرجوع إلى نقطة انطلاقته عند المقهى دون العبور من تحت مقتربات الجسر الحديدي (الصرافية)، فسألته:لم لا نستمر في رحلتنا إلى الأمام والعبور من تحت الجسر، أجابني :بأنَّ الاقتراب من هذه المنطقة ممنوع والنزهة النهرية محددة بمساحة معينة لا يمكن تجاوزها، جاء ذلك بعد أحداث 2003 وتعرض المنطقة إلى التفجيرات عند دخول القوات الأمريكية إلى بغداد، بأحاسيس ومشاعر مؤلمة عدت أدندن مع كاظم الساهر
(حبك خارطتي… ما عادت خارطة العالم تعنيني).

مقهى البيروتي
تشير المراجع إلى نهر دجلة بأنَّه (ينبع من مرتفعات جنوب شرق هضبة الأناضول في تركيا ليدخل بعد ذلك أراضي العراق عند بلدة فيش خابور، ويصب في النهر مجموعة كبيرة من الروافد المنتشرة في أراضي تركيا وإيران والعراق لعلَّ أهمها وأطولها الخابور، الزاب الكبير، الزاب الصغير، العظيم، ديالى) ،صاحب مقهى البيروتي الذي يقع على ضفاف نهر دجلة هو الحاج محمد البيروتي من أهالي بيروت، سكن جانب الكرخ من مدينة بغداد سنة (1315ه/1897م) وتوفي سنة (1334ه/1915م)، وبعض الروايات تشير إلى أنَّ محمداً هذا ليس لبنانياً وإنما هو عراقي الأصل سافر إلى بيروت وعند عودته سمي بالبيروتي، وكان يلبس الزي البغدادي (الصاية والجراوية)، كما أن عمال مقهاه كانوا مهرة جدا، وكان هذا المقهى يستقبل زبائنه من صلاة الصبح وحتى ساعة متأخرة من الليل، وتذكر الروايات أن معظم مقاهي بغداد تأخذ من روادها مبلغاً مقابل الجلوس في المقهى قدره عانة (أربعة فلوس) ماعدا رواد البيروتي يؤخذ منهم (خمسة فلوس)، وعندما غرقت بغداد غرقت مقهى البيروتي، ثمَّ استخدم الموضع حرسا للزوارق، وفي عام 1965م، هدم المبنى، وهناك رواية تقول: إنَّ المقهى سمي بالبيروتي نسبة إلى مالكه إبراهيم البيروتي الكرخي، وذاع صيته لارتياد عدد من الشعراء والأدباء والظرفاء من أبناء الكرخ مثل الملا عبود الكرخي، والفنهراوي، وحمودي الوادي، وتوفيق الخانجي، الشاعر الفقيه محمد سعيد الحبوبي، ويوسف العاني، وخضر الطائي، وعبد الحميد الهبش، وآخرين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى