رأيٌ نقدي في رواية (ميلانين) للكاتبة التونسية فتحية دبش

د. عاطف الدرابسة | ناقد –  الأردن

هذه البنيةُ اللغويةُ التي بين يديَّ تُثير مشكلاتٍ كبرى، على مستوى المنهجِ، والرؤى النقديةِ:

– الإشكاليةُ الأولى: هل هذه البنية اللغوية رواية؟
– الإشكاليةُ الثانيةُ: هل الساردُ هنا راوٍ أم كاتب؟
– الإشكاليةُ الثالثةُ: على مستوى الرِّسالة، وأعني بالرسالة هنا هو ما يمكن أن يفهمه المُتلقي منها .

أمَّا على المستوى الأول: هل هي رواية أم لا؟ فإنَّني لا أطمئنُّ إلى أنَّها رواية، على الرَّغم من تعدُّد أشكال الرواية: مبنى، ومعنى، ولغة، على الرغم من إيماني المُطلق أنَّ الروايةَ كشكلٍ أدبيٍّ اغتنت كثيراً بفضلِ تطوُّر النظريةِ النقدية، والمذاهبِ الأدبيةِ، غير أنَّها احتفظتْ بهويِّتها شأنها شأن مفهوم الشَّجر، فالشجرُ على اختلافِ أنواعه وأشكاله يبقى شجراً ، فلا يمكن أن نقولُ عنه إنَّه شيءٌ آخر، على الأقلِّ هناك جذع (متن)، تتمدَّد منه الجذورُ ، وتنمو عليه الأغصانُ، وثمَّة نُسغ .

وهذا النَّصُ الذي بين يديَّ كائنٌ أدبيٌّ هجينٌ، لا جذعَ له ولا عمودَ فقري، ربَّما هو جذعٌ مشوَّهٌ، أو كائنٌ اسطوري، خارجَ هذا الزَّمان؛ فقد اختلطتّ عليَّ السِّيرةُ باليوميَّاتِ، بالقصة القصيرة، بقصيدةِ النثر، بالقوالبِ الجاهزة، بترتيبِ الأحداثِ، ببنيةِ الزَّمنِ.

ولعلَّ الأمرَ اللافتَ للنَّظرِ هو خلخلةُ مفهوم السَّرد، كأنِّي لم ألحظْ سرداً، فالراوي تداخلَ مع المرويِّ عنه، والمرويُّ عنه صار كاتباً، والكاتبُ صار مرويَّاً عنه، والمؤلفُ ربَّما هو الكاتب، وهو الرواي، وهو المرويُّ عنه، هو أنيسة، وهو رقية، وهو شيماء، وهو أنطون، وهو نيكولا، وكلُّ هؤلاء مجتمعين هم (فتحية دبش)، هم المؤلف.

هذا النصُّ باختصارٍ هو نصُّ المؤلفِ، أو هو نصُّ الكاتبِ، فحركةُ الضمائرِ على اختلافها، تؤولُ إلى المؤلفِ، وإلى شخصيةِ المؤلف.

هذا النَّصُ أيضاً على (مستوى البناءِ)، هو مجموعةُ نصوص، أو مجموعةُ قصصٍ قصيرة (قصة سهيل)، (قصة شيماء) .

لا أعرف وأنا أقرأُ هذه الرواية تداعى إلى خاطري (جلال برجس)، وهو أيضاً كاتبٌ أردني حصل على جائزتي (كتارا والبوكر)، ربما التشابه في العتباتِ النصية، ربما في تقنياتِ اللغةِ، فهو يُوظِّف تقنية الحاسوبِ في الكشفِ عن المذكرات، وهي تُوظِّف جهاز الهاتف، في تلك القصة المُفتعلة التي تحوَّلت فيها (رقية) إلى راوٍ .

وأمَّا على مستوى الرسالة، فإنَّ الكاتبة كانت تُخطِّط مُسبقاً لعملٍ روائي، ترعاه دولةٌ خليجية كقطر أو الإمارات، وأعتقد أنَّ الكاتبةَ قد تقدَّمت بها لجائزة البوكر ، فقد سعتْ إلى تناولِ قضايا إشكاليَّة،حاولتْ من خلالها تفكيكَ الهويةِ العربيةِ،وسعتْ إلى خلخلةِ البنى الثقافية للشرقِ، ولم تتركْ موضوعاً جدليَّاً إلَّا أثارته، وآخرُ شيءٍ كان يعنيها هو اللَّون، فظاهرُ الروايةِ يُشيرُ إلى التمييزِ بين الجنسينِ(الأبيضِ والأسودِ)، وهي قضيَّةٌ مستهلكة، ويكفي أن ننظرَ لها في الثقافةِ الأمريكيةِ،أمَّا القضايا الجوهريَّة التي طرحتها (دبش) في روايتها (ميلانين) فهي كالتالي :

– قضية العذريةِ في الشرق .
– الداعشية .
– مفهومُ الجهاد على صورتين: صورةِ جاسر الذي تحوَّل إلى إرهابي، وصورة (إدوارد) الأشقر اللطيف، الذي كان من أمٍّ سوداء مسلمة .
– الإشارة إلى مفهوم التعايش (العرب واليهود) كما ظهرت من شخصيةِ (أنطون وشيماء)،وكيف أنَّ (شيماء) العربية قد تزوَّجت من (أنطون) اليهودي، بعد أن استرجعها من وطنها الذي رُحِّلت إليه إلى فرنسا .
– وآخر قضية، ويبدو لي أنَّها تنبَّهت إليها متأخراً، بالقصاصةِ بعد الأخيرةِ، التي انتهتْ إليها الروايةُ بقول رقية :
(كلُّ شيءٍ يمرُّ بسرعةٍ أمامي، الحلم الفاتحُ لي ذراعيه، رقية الجديدة، الطريقُ الذاهب بي إلى مدينةٍ سأعرفها وتعرفني، يسحبني إلى الأمام، وحده وجهكَ، وتجاعيدُ أبي، ووشمُ جدتي، وصمتُ أُمي، ونبضي، يسحبونني إلى الخلفِ).

وهنا واضحٌ تماماً ثنائية (الأمام والخلف)، أي أنَّها تُشيرُ إلى أنَّ الإنسانَ المُتمسِّكَ بهويته ، وموروثه، لا يمكن أن يتقدَّمَ خطوةً إلى الأمامِ، دون أن ينقطعَ عن موروثه، فالموروثُ هنا إشارةٌ رامزةٌ للتخلُّف .

إنَّ هذه القضايا، والتي يمكننا أن ندحضَها بسهولة ، تُشيرُ إلى أنَّ هذه الرواية تدعو إلى خلخلةِ مفهومِ الهويةِ، فلا العقلُ العربي، ولا الوجدانُ العربي، ولا الموروثُ العربي، يقبلُ هذا الأمر ، فالأشجارُ لا تعيشُ بلا جذور .

وأمَّا مفهومُ العذريةِ، فهو مفهومٌ مرتبطٌ بالعائلاتِ المحافظةِ، بعيداً عن العرقِ، والدِّين، كما في أميركا ، وأوروبا. بل عندهم مفهوم العذريةِ، أشدُّ ممَّا هو عندنا .

وأمَّا الداعشيةُ فقد عُرِفَ كيف زرعت في المجتمعِ العربي، ويبدو أنَّها لم تستمعْ لاعتراف (هيلاري كلينتون)، بأنَّهم هم من أوجدوا داعش، ورعوها، كما أنَّ ترامب نفسه قد فضحَ الأمر، لكن هذه القضايا التي احتشدتْ كلُّها في هذه الروايةِ، وإظهار الثقافة الشرقية على أنَّها ثقافة متخلِّفة ، هي الطريقُ القصيرُ لجذبِ الانتباه للروايةِ، وبالتالي الفوزُ بالجائزة .

ويبدو لي أنَّ الكاتبةَ تعرفُ تماماً، كيف يعملُ الخطابُ، وكيف يُنتَجُ الخطابُ، وكيف يُسوَّقُ الخطابُ، وكيف يُرعى صاحبه، وكيف تُحدى الجوائزُ كالإبلِ .

هامش :

هذه الومضاتُ النَّقديَّة لم ترد عليها الكاتبةُ (فتحية دبش) على روايتِها (ميلانين) ، في أمسيةِ على الزوم تحت رعايةِ (غرفة 19) ليلة البارحة ، وأعطتْ الأمر بُعداً شخصيَّاً، وقدَّمت نفسَها بوصفِها ضحيَّةً، واعتبارِ هذا الكلامِ مؤامرةً عليها ، والهدفُ منه تجريحها، وهي تُحاولُ أن تهدمَ بفأسِ حرفِها منظومةَ قِيمٍ ، يحترمُها كلُّ العالم .

د. عاطف الدرابسة – الأردن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى