وقفة تأمّليّة لدى حديث نبويّ شريف

محمد موسى العويسات | فلسطين

عن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: ” سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تعالى في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمامٌ عَدْلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاها، حتَّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاه.” صحيح البخاريّ.

وهذا حديث شريف صحيح، جاء الطّلب فيه على صيغة خبر، أي هو أوامر للمسلمين بهذه الأمور السّبعة، وحثّ لهم على التزامها، وتعظيم لجزاء المتّصفين بها. وأن يظلّهم الله بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، هو كناية عن رحمته لهم يوم القيامة، وحمايتهم من أهوال ذلك اليوم، فلا حامي ولا راحم ولا مجير من شدائد ذلك الموقف إلا الله تعالى. والظلّ في اللغة يأتي بمعنى القرب والدّنو، بدليل قوله عليه الصّلاة والسّلام في خطبة له في آخر شعبان: قد أظلّكم شهر عظيم، أي دنا منكم شهر رمضان، ومنه قوله: الجنّة تحت ظلال السّيوف، أي أنّ المقاتل على قرب من الجنّة، ما بينه وبينها إلا ضربة سيف تقتله.

أمّا قوله عليه الصّلاة والسّلام: ” سبعة” فلا يعني الحصر في هؤلاء السّبعة، فهناك فضائل وأعمال صالحة أخرى لا تحصى تقتضي الرحمة والحماية والأمن يوم القيامة والقرب من الله عزّ وجلّ. بدلالة أحاديث أخرى، ثمّ إنّ العدد (سبعة) في لغة العرب لا يدلّ على عين العدد بل هو كناية عن التّكثير، وهذه من لطائف العربيّة، فقولك سبعة أو سبعين أو سبعمائة تعني التكثير والزيادة، وشاهد هذا القرآن، قال تعالى مخاطبا رسوله في الاستغفار للمنافقين: ” اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ” (التوبة:80) أي إن تكثر من الاستغفار لهم فلن يغفر الله لهم. ومن هذا ما روي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال” : كلّ عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف… الحديث” فالمقصود بسبعمائة ضعف أضعاف كثيرة، وليس عين السّبعمائة،  ومن اللّطائف الجميلة ما كان في قوله تعالى: ” فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ، ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” (البقرة:196) فالمتمتّع في الحجّ عليه هدي (ذبح)، ولكن من لم يجد الهدي، أي (لا يستطيع أن يشتري ذبيحة) فعليه صيام، ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة عندما يرجع إلى أهله، والعرب تعرف أنّ ثلاثة وسبعة جمعها عشرة، فلماذا قال الله تعالى: ” تلك عشرة كاملة”؟ وهذا ليس من التّوكيد كما يُتوهّم، بل هو من الاحتراس، أي كي لا يذهب الذّهن أنّ المقصود بالسّبعة هو التّكثير والعدد المفتوح، كما تفهمه العرب، يعني المقصود بالسّبعة هو العدد نفسه. فجاء قوله تعالى: ” تلك عشرة كاملة”.  وهكذا يكون المقصود بسبعة في الحديث الآنف، ونصّه عليهم وذكرهم بالتّفصيل غرض يستدعي التّفكّر، فقد تناول سبعة جمع فيهم أمورا عظيمة في حياة المجتمع، فأخذ من كلّ جانب بجزء، فكان كلّ واحد له دلالة أوسع من المعنى الذي يحمله اللّفظ، فقد راعني أن وجدت بعض أهل العلم يستدلّون على البكاء من خشية الله بقوله: ” ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه” ويحصره في هذا فقط، وهو أوسع دلالة وأعظم. لذا رأيت أن أضع كلّ فرد من هؤلاء السبعة في دائرته، فهي سبعة دوائر:

الأولى: السّياسة والحكم، والحاكم هو رأس الأمر في المجتمع والأمّة وبصلاحه تصلح الرّعيّة وتصلح حياتها، فقال عليه السّلام: ” إمام عَدلٌ” وعدل صفة مشبّهة، وتأتي بمعنى الذي يحكم بالحقّ المَرضِيّ في حكمه وقوله، فهي أعمّ من عادل، فقد يكون الحاكم عادلا في رعيّته، وإن لم يحكمهم بالحقّ. ويجوز أن نضيف لفظ (حاكم) إلى عدْل، فنقول: حاكمُ عدْلٍ، على أنّها مصدر بمعنى غير جائر. ولا يُمارى في أهمّيّة الحاكم العدل، الذي لا يجور في رعيّتها، ويحكمها بالحقّ، ويكون مرضيّا لديها. سألت المرأة التي نهاها أبو بكر رضي الله عنه، عن الإصمات في الحجّ، إذ حجّت مصمته على عادة القبائل الحُمْس في الجاهليّة، سألته: قد كنّا في جاهليّة وشرّ فجاء الإسلام فأصبحنا في نعمة وخير، فما بقاؤنا على هذا الأمر؟ فأجابها: ما استقامت عليه أئمّتكم.

الثانية: التّربية وحسن التّنشئة، التي تقوم على عبادة الله وطاعته، فعبّر عنها صلّى الله عليه وسلّم بـــ (شاب نشأ في عبادة الله)، وتأخذ كلمة عبادة المعنى الأوسع من عبادة التّقديس كالصّلاة والّصيام لتكون عبادة طاعة أيضا. وهذه التّربية هي الضّمان الثاني لمجتمع قويم راقٍ في معاملاته وأخلاقه وسائر شؤون حياته، فالنّظّام لا يكون إلا بأحد أمرين صلاح حاكم وصلاح رعيّة، وصلاح الرّعيّة لا بدّ له من تربية قويمة.

الثالثة: وتتعلّق بأهمّيّة المسجد في الحياة المجتمعيّة، فالرّسول عليه الصلاة والسّلام يوجهنا لملازمة المسجد والتعلّق به، وهذا يكون في صلوات الجماعة الخمس والجمعة، وهذه لا تنحصر في الجانب التعبّديّ فقط، مع أنّ الجانب التعبّديّ هو المقصود، ولكن يترتّب على هذا الاجتماع أمور كثيرة تربو على الحصر، فالمسجد فيه توثيق للعلاقة بين أفراد المجتمع، وتعميق للأخوة، والتعرّف على أحوال الناس ومناقشة قضايا المسلمين، وهذا أحد أسرار خطبة الجمعة، التي يُستنّ فيها أن تعالج أبرز قضايا المجتمع والأمّة في أسبوع منصرم، والتّذكير والوعظ، ثمّ إنّ للمسجد جانبا تربويّا وتعليميّا عظيما، وقد كانت المساجد مدارس ومعاهد علم، وتحوّلت إلى جامعات، كجامع الزّيتونة في تونس، ومسجد البصرة من قبل وغيرها.

الرابعة: وتأتي هذه في إطار الرّابطة بين أفراد المجتمع، ولا تكون الرّابطة صالحة للرّبط بين النّاس إلا إذا كانت عقديّة، تقوم على فكرة كليّة عن الكون والإنسان والحياة. فأشار إليه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: ” ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه”، اجتمعا على حبّه أي متحابّين في الله، وتفرقا متحابّين في الله، وهنا إشارة إلى ديمومة هذه الرّابطة، فلا تكون آنيّة ولا مصلحيّة. والجار والمجرور (عليه) في محلّ نصب حال. ولا يخفى ما لرابطة العقيدة من أثر في العلاقات المجتمعيّة، فبها تحفظ الدّماء والأموال والأعراض، ويسود الوئام والتّكافل. وهناك أحاديث كثيرة جدا تفصّل فيما يترتّب على هذه الأخوة منها: ” المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة”.

الخامسة: حفظ الحياة الاجتماعيّة في المجتمع وهي العلاقة بين الرّجل والمرأة، وضبطها، وأبرز ضوابطها هو أن تسودها العفّة، وعبّر عنه الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بقوله: ” وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّه”، وقال ذات منصب وجمال لبيان الزّيادة في الإغراء، والوازع في الامتناع هو خوف الله، وهو أعظم وازع، لأنّه يعمّ السّرّ والعلن. ولا يخفى ما لهذا الشّأن من حفظ للعلاقات والأنساب، وطهر للمجتمع وعفّته، وحال المجتمعات التي تبيح الزّنا معروفة وجليّة.

السادسة: وتأتي في إطار الاقتصاد، وما تعلّق به من غنى وفقر، فجاء قوله عليه الصّلاة والسّلام: ” ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاها، حتَّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ”، والإنفاق هنا ليس الزّكاة، وإنّما هو التّطوّع في البذل والعطاء والتّصدّق على الفقراء، ويعدّ هذا فردا من أفراد كثيرة تأتي في إطار القاعدة العامّة التي جاء بها الإسلام لتوزيع الثّروة بين النّاس، وهي قوله تعالى: ” كي لا يكون دُولَة بين الأغنياء منكم”، والتي منها الزّكاة وأصناف أخرى من بيت المال، والأعطيات والإقطاع وغيرها. ولا يخفى على متفكّر أثر الإنفاق والصّدقة على المحتاجين والفقراء من الجوانب الاقتصاديّة والعلاقات المجتمعيّة، وتزكية النّفوس، والقضاء على الكثير من الظّواهر السّلبيّة المترتّبة على الفقر. وقد جاء قوله ” حتى لا تعلّم شماله ما تنفق يمينه” ليس إشارة إلى حفظ الأجر والثّواب من الرّياء فقط، بل أيضا لحفظ الفقراء من المنّ الذي يفسد النّفوس، ويتحوّل بالصّدقة إلى غير مقصودها الصّحيح، في الجوانب النّفسيّة والعلاقة المجتمعيّة بين الفقراء والأغنياء.

السّابعة: وهذه الدّائرة الأخيرة في الحديث، هي مراقبة الله في السّرّ، وأشار عليه الصّلاة والسّلام إليه بقوله: “ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاه.”، فإذا كان خاليا فذكر الله فبكى من الخشيّة، فمن باب أولى أن يذكر الله، فيطيعه فيأتي بما أمر وينتهي عمّا نهى. وهذه الدّائرة تعمّ الدّوائر السّتّ التي سبق ذكرها، فهي الإطار العامّ الذي تقع فيه. فالحاكم لا بدّ له من وازع هو خشية الله واتّقائه في رعيّته ليكون عدلا عادلا، وكذلك تنشّأ على هذه الخصلة الأجيال، وكذلك التّعلّق بالمساجد وتفعيل مهمّتها ووظيفتها الدّينيّة والمجتمعيّة، وكذا الرّابطة العقديّة التي تنضبط بمراقبة الله، والعفّة، والإنفاق.

إذن هذه دوائر وحلقات سبع تترابط في تكوين المجتمع الصّالح: الحاكم، التّربيّة، المسجد، الرّابطة العقديّة، العلاقة بين الرّجل والمرأة (الاجتماعيّة)، الجانب الاقتصاديّ، الوازع الدينيّ. والحديث يتسع لأكثر من هذا التّدبّر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى