قراءة في قصيدة (عِشْ قيماً) للدكتور صالح الفهدي.. الأسلوب والدلالة بين الخبر والإنشاء
د. جمال فودة | عضو الاتحاد العالمي للغة العربية – كاتب وناقد من مصر
تسعى الدراسة الأسلوبية إلى البحث عن الخصائص اللغوية التي تخرج النص الأدبي عن إطاره المألوف إلى إطار فني جديد، يتعامل مع الجملة باعتبارها تركيبة لغوية صوتية منسوجة بخيوط دلالية ونفسية، لتجسيد حالة شعورية معينة، ومن ثم فإن فهم النص الأدبي وقف على إدراك التراكيب اللغوية / الدلالية، ونمطية هذه التراكيب وانحرافاتها وسياقاتها الإيحائية، والنفاذ إلى بنيتها العميقة، والكشف عما تحمله من كثافة شعورية، وصياغة فنية جمالية.
ومن ثم فقد قسم البلاغيون الكلام إلى قسمين كبيرين هما: الخبر والإنشاء، وإذا كان الأسلوب الخبري يتسم بثبات المعاني وتقريرها، فالأسلوب الإنشائي يتسم بحركية الدلالة وحيويتها، وبهذه الأساليب تتنامى حركية الشعر وتنشط دلالته، وتقوى قنوات الإبلاغ بين ثالوث الإبداع: النص والمبدع والمتلقي، ويصبح دور الأخير ذا أهمية خاصة في كشف جماليات العمل الإبداعي.
وقد استطاع ” الفهدي ” استغلال هذه الأساليب استغلالاً أضحى واضحاً في إبداعه، وأصبح من الملامح الأسلوبية التي تشكل بنية النص في شعره… يقول الفهدي في قصيدته (عش قيماً):
إِذَا ضَاقَتْ قُلُوبُ النَّاسِ فَاتْرُكْ
لَهَا الضِّيْقَ الكَئِيبَ، وَدَعْ أَسَاهَاْ
حَيَاتُكُ مُلْكُ ما تَرجُوهُ منها
ولا يَعْنِيكَ مِنْ أَمْرٍ سِوَاهَاْ
ولا يُجْبِرْكَ إنسانٌ لِتَحْيَاْ
كَمِثْلِ حياتِهِ؛ فَاتْرُكْ شَقَاهَاْ
يُريدُ لَكَ الْهَوَانَ بِذُلِّ نَفْسٍ
تُطَأْطِئُ رَأْسَهَاْ، وَتَزُمُّ فَاهَاْ
خُلِقْتَ على الْمِحَجَّةِ حيثُ يُغْنِيْ
إِذَاْ ما كُنْتَ ذَاْ عَقْلٍ؛ هُدَاهَاْ
وَمَاْ مِثْلُ الَّذِي يَمْضِي سَوِيًّا
كَمِثْلِ مُضَلَّلٍ بِالْوَهْمِ تَاهَاْ..!
قُلُوبُ الشَّامتِينَ تَضِيقُ لَمَّاْ
تَرَاكَ؛ وَقَدْ مَرَقْتَ عَلَى هَوَاهَاْ
شَقَقْتَ عَصَا انْقِيَادِكَ حيثُ تَمْضِيْ
بِحُسْنِ بَصِيرةٍ؛ تُعْلِيْ جِبَاهَاْ
وَأَنْتَ الْبَاسِلُ الْمِقْدَامُ تَمْضِيْ
إِلَىْ عَلْيَاكَ؛ تَنْشُدُ مُرْتَقَاهَاْ
فَعِشْ قِيَماً، فَمَا الْإِنْسَانُ يَهْنَاْ
بِعَيْشٍ؛ دُوْنَ نَشْرٍ مِنْ شَذَاهَاْ
يفتتح الفهدي قصيدته بأسلوب الشرط كوسيلة من وسائل التضافر الأسلوبي الذي يجعل من العمل الإبداعي عملاً مترابطاً متماسكاً، مما يكسب دلالة النص قوة ونماءً، كما يستخدم الشاعر هذه الظاهرة الأسلوبية لجذب انتباه المتلقي، وتشويقه لمعرفة جواب الشرط، حيث لا يقوم بعرض المعنى مباشرة، مما يتيح الفرصة أمام المتلقي لاستنتاج ما يرمى إليه الشاعر، وهو بذلك يعمق قنوات الاتصال بين المبدع والنص وبين متلقيه.
إِذَا ضَاقَتْ قُلُوبُ النَّاسِ فَاتْرُكْ
لَهَا الضِّيْقَ الكَئِيبَ
تقوم الأداة ” إذا ” ـ وهي ظرف لما يستقبل من الزمان ـ بالربط بين جملتين الثانية منهما ناتجة عن الأولى، فالتحرر من الضيق والتخلص من الأسى لن يتأتى إلا باعتزال ذوي الآفاق الضيقة والنفوس المتشائمة، فضلاً عن ربط الشاعر لجملة الشرط باستخدام الأداة ” إذا “، والربط الدلالي الناتج عن تلازم مكوني الجملة الشرطية، فقد اشتملت الجملة على وسيلة ربط لفظية هي ” الفاء ” في صدر جملة الجواب ” فاترك ” وهذه الفاء توثق الصلة بين جملة الجواب وجملة الشرط حتى لا تكون إحداهما مستقلة بمعناها عن الأخرى.
ثم تتوالى أفعال الأمر لمأمور واحد (الإنسان) بصفة عامة، والباسل المقدام الثائر الحق بصفة خاصة، (اترك، دع، عشْ)، والشاعر لا يأمر غيره من باب الإلزام والاستعلاء، وإنما يطلق صيحات عالية آملاً أن يرتد صداها في الآذان فتوقظ الأمل في النفوس، وتلهب العزيمة في الصدور، فلا آمر ـ هنا ـ ولا مأمور، ففعل الأمر يقوم بدور المنبه ليطمئن المبدع على أن المتلقي على درجة عالية من اليقظة تضمن تتمة دائرة الاتصال بينه وبين النص بوصفه بثاً جمالياً.
كما كان للنهي دوره في بنية القصيدة، وهو أمر في مضمونه بصيغة الكف عن الفعل (لا يعنيك، لا يجبرك)، والتعامل مع بنية النهي يستدعي حضور حالة شعورية وذهنية تبدأ فعاليتها من منطقة الإثبات؛ لأن الكف عن فعل يحصل بشغل النفس بضد المنهي عنه، وهو ما يستدعي تقدم الشعور بالمكفوف عنه؛ لأننا لا نطالب أحداً بترك أمر إلا وعنده عزم على فعله.
فليس المراد بالنهي في هذه الأسطر الإلزام والمنع، وإنّما أريد به النصح والإرشاد، وقد جاء بصيغة النهي رغبة في الاستجابة والامتثال، فهو ينصح مخاطبه ويرشده إلى الابتعاد عن اليأس، وقد جاء النهي ليعكس رغبته وحرصه على أن يمتثل المخاطب ويستجيب لنصحه، فحياة كل إنسان تتحدد ملامحها وفق ما يرسمه في عقله، ويراه ببصيرته لما يكون عليه مستقبله؛ ومن ثم يحققه بإرادته، وما شيء على الباسل المغوار بمستحيل، فطريقه إلى العلياء ينشد مرتقاها وكل الذي يلقاه فيها محبب.
وهكذا استطاع الفهدي أن يوظف الإنشاء (أمراً ونهياً) توظيفاً فنياً، حيث انتقل به إلى دلالات متعددة وإيحاءات ثرية تضفي على النص حيوية متجددة، وحضوراً لا يبلغه النص بدونه، ولا شك أن وجود الأسلوب الإنشائي بهذه الصورة داخل بنية النص قد أدى إلى إحياء التجربة، وحضورها في ذهن المتلقي.
وفي الإطار نفسه اعتمد الفهدي على الأسلوب الخبري الذي يتناسب وتقرير الحقائق وتوكيد الدلالة في سياق الحكمة التي يزخر بها شعره، (حياتك ملك ما ترجوه منها)، (خُلقت على المحجة)، وتوسل الكاتب بالأسلوب الخبري يتماشى مع طبيعة النص الحجاجي، والتنويع بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي في بنية القصيدة، يدفع عنها الرتابة ويضفي عليها التدفق والحيوية.
أما لغة النص فهي لغة تقريرية مباشرة غلبت عليها الجمل الفعلية ( ضَاقَتْ قُلُوبُ النَّاسِ ، فَاتْرُكْ لَهَا الضِّيْقَ ، دَعْ أَسَاهَاْ ، لا يَعْنِيكَ ، لا يُجْبِرْكَ ، َاتْرُكْ شَقَاهَاْ ، يُريدُ ،تُطَأْطِئُ ، َتَزُمُّ ، خُلِقْتَ على الْمِحَجَّة ، يُغْنِيْ ، يَمْضِي ، تَضِيقُ ، تَرَاكَ ، مَرَقْتَ ،شَقَقْتَ ، تَمْضِيْ ، تُعْلِيْ ، تَنْشُدُ ، َعِشْ قِيَماً، يَهْنَأ ) ، وهيمنة الجمل الفعلية خلقت حيوية وحركية داخل النص؛ وذلك وفق لغة خالية من المحسنات البديعية والصور البيانية، تتغيا إقرار المعنى في ذهن المتلقي.
كما استعمل وسائل الاتساق التي تكفلت بتماسك النص، إذ نجد الربط بين الجمل بأداة، (كالفاء والواو)، وبغير أداة كالإحالة باستخدام ضمائر المخاطب، مثل (الكاف التي تكررت سبع مرات)، و(أنت) التي تكررت أيضاً سبع مرات بين ظاهرة ومستترة، مما أدى إلى التعالق الدلالي وترابط بنية القصيدة برباط المنطق من خلال عنوان النص، وعبر خيوط الحكمة التي تتدرج بالدلالة من بدايتها لنهايتها.
وبعد…. فإن الأساليب (الخبرية والإنشائية) تمثل عناصر إبداعية ذات أهمية بالغة في تشكيل بنية النص الشعري، إذ تعمل على كثافة الدلالة وحيويتها، كما تمثل هذه الأساليب بؤرة إشعاعية تنبه المتلقي، وتقوي عرى الاتصال بينه وبين النص، بالإضافة إلى إبراز قدرة المبدع على المراوحة بين فنون الأداء اللغوي بوضع الأسلوب المناسب في الموقف المناسب، وهذا ما نجح فيه (الفهدي).