حركة الكاميرا من الأمام إلى الخلف في رواية (غناء سري) لـ” منذر عبد الحر “
أ.د. مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
لقد اشتغل الروائي المعاصر على دعم نصه بهوية سردية بصرية من خلال التعامل مع الكاميرا التي تهدف من وراء ثباتها وحركتها إلى ترجمة قصد محدد[1], وهو بذلك يعمل على وضع نتاجه ضمن مجال بصري تتراجع فيه اللغة لأجل الصورة, كما هو الحال في السينما فاللغة في الشريط السينمائي تكون مجرد ظهير للصورة [2] إذ يتم الاستدلال على قصد المسرود عن طريق تتبع سلوك التصوير فبتغيير سرعة الكاميرا يمكن التعجيل بالحدث والتباطؤ به [3], وكذلك تتوفر للكاميرا ميزات تمكنها من تبني دور الراوي فهي – فضلا عن عملها أثناء ثابتها – تتمتع في التحكم بتقسيم اللقطات المتحركة بحسب متطلبات وجهة النظر, ومن هذا التحكم تأخذ أهم أوضاعها التي تمكنها من متابعة الروي وهي :-
- الكاميرا تسير محاذية للموضوع .
- الكاميرا تسير إلى الأمام أو إلى الخلف من الموضوع.
- الكاميرا تستعرض الموضوع أفقيا .
- الكاميرا تستعرض الموضوع من الأعلى إلى الأسفل أو بالعكس .
ويمكن استعمال كل حركة على حدة أو الجمع بين حركتين أو أكثر , وكل لقطة تبين مجموعة مختلفة من العناصر التي تكشف عن المعلومات إن استدارة الكاميرا من نقطة ثابتة من التقنيات السينمائية, وهي بتغلغلها في الرواية المكتوبة تكون قادرة على تشكيل وزن سينمائي لهذه النصوص إلى جانب وزنها الأدبي لذا يحقق لدينا نوع من التوازي بين الفنين,وقد تجسدت تقنية الكاميرا في رواية (غناء سري) للأديب المبدع منذر عبد الحر, فنراه يقول : كادت هذه الأحداث أن تكسر ظهر ولعي بك , كدت أفتت ملامحك مع مرور السنوات حتى جئت وها هو عادل يطلق علي سهما من اتجاه لم أتوقعه حيث تعود ذاكرتي , وتلظم مسبحة حساباتها المنطقية سحر ابنة عائلة تركت الجنوب وسكنت كركوك لا لأسباب اقتصادية مثل عشرات العائلات وإنما لأسباب أخرى ربما عرفها عادل وهو أمر غير مهم عندي فالمهم هو أين كانت تسكن عنده ساحل اللغز واعرف أنها امتداد حبيب لك وهو ما سحرني بها من أول نظرة [4], واللقطة الأفقية تشمل حركة آلة التصوير على محورها الأفقي بوضح ثابت , وهنا تقوم آلة التصوير الراوي بمتابعة الحركة بشكل أفقي, لقد تعرف الروائي منذر عبد الحر على هذا الأسلوب المعاصر- السيناريو- ووعى فاعليته في تجهيز الرواية باليات من شانها أن تعطي للمسرود نكهة خاصة تتفاعل مع فعل القراءة ,وتفتحه أوسع أمام تحركات التأويل , يفتح الروائي مشغل سرد رواية ( غناء سري) بدورية سيناريوية تدور حول تهيئة الوضع السردي , وذلك بموضعه الشخوص , وتنضيد وحدات المكان النصي[5] , إذ يقول : بدأت هواجسي تتضح تجاهك , وبدأت اشعر بالانكسار وأنا أحدس بأنك تضيعين من حلمي فيك , كان زميلك يقلقني وهو يكرر رفقتك في حدائق الجامعة وفي نادي الطلاب , بدأت عيناي وحواسي كلها تتابع خطواتكما معا وقد خرج الأمر عن إطار سيطرتي ابحث عنكما فاذرف نظرة احمد الله أن لا احد يتابعني ببراءة مشاعرك ليس بيننا سوى نظرات أستاذ لتلميذة بسن أحفاده , إذن ما بك يا قلبي [6],تحولت عين الكاميرا من منطقة سكن حبيبته الطالبة سحر التي أحبت عادلا وتحولت حركتها إلى عمودية وانتقال المشهد السينمائي من كركوك إلى جامعة البصرة وبداية حب الأستاذ لطالبته التي تصغره سنوات عده , ولابد من الإشارة إلى قدرة الأديب منذر عبد الحر في استخدام التقنية السينمائية الحديثة في روايته (غناء سري) ,التي بدأت من النهاية ,حتى وصلت بداية الرواية ,وقد تحققت تقنية المونتاج السينمائي , عن طريق عرض سيناريو الأحداث التي جرت , وتقطيع المشاهد بحسب الشخصيات الرئيسة المذكورة في الرواية, وحركة الكاميرا أفقيا وعموديا , وتميزت أيضا بالبناء الروائي النادر في زمننا الحالي ,لم يكتب بهذه الطريقة إلا القليل من الروائيين , فنراه يقول : تذكرت سهاد الرائعة وأيام الكلية والعيون التي كانت تراقب خطواتنا وأحلامنا وتذكرت نصوصها الأدبية الجميلة التي كنت اقرأها وأعطيها رأيي الصريح المتحمس بها سهاد التي أحست بتفريطي بها حيث تركتها تسافر وحيدة مع أهلها وكانت تريدني معها زوجا وحبيبا ورفيق درب تفاهم معها وتفاهمت معه [7], إن تشغيل الكاميرا في المتن السردي يعني – قبل كل شيء- استهداف القصد بشكل مرئي , بغية رفع أحساس المتلقي بالمسرود , وتتمكن من تنفيذ استهدافها هذا عن طريق سلوكها الذي تقوم به لصناعة اللقطة , فهي بهذا السلوك أنما تقدم اللقطة على أنها حرف سينمائي متبدل بحسب نغمة التجويد لهذا السلوك , فالكاميرا هي التي تقوم بتصوير الكل بواسطة تجزئته باللقطة [8], هنا بدأت عين الكاميرا تسير نحو الأحداث المتسلسلة ,وتحتوي على عدة مشاهد سينمائية تأخذ اللقطة معنى مزدوجا : أنها تدخل أللاستمرارية, والتقطيع ,والوزن في الواقع امتدادا مكانيا , أن نصوغه في السينما كسلسلة , وذلك عن طريق تجزئته إلى لقطات ومن ترتيب تتابع هذه اللقطات [9] ,فنراه يقول : ابتسمت في داخلي وأنا استعيد أيام الكلية في السنة الأخيرة وأنا وحيد تماما فقد فقدت الرفقة الحميمة لسهاد وجعلتني تجربة السجن رغم قلة أيامها قياسا للتجارب الخالدة في السجون أعيش هاجسا من الأسى ساهمت فيه عدم قدرتي على التواصل مع حارث الذي يدرس الهندسة في جامعة الموصول وقد اقتيد أبوه الشاعر المعروف إلى السجن مرات عديدة بسبب مواقفه فانقطعت عن زيارتهم للبيت [10],إن تقديم الرواية وفق قوانين حركة التصوير يضع الرواية وسط مكاشفة سردية تتعامل مع الضروري , وهذا العمل يعد حتمية تتمثل بــحركة الكاميرا في ميلها نحو الضروري تترك جانبا كل ما هو زائد [11], وبهذا التوصيف تكون الكاميرا وحدة الشعور الفيلمي فهي التي تؤسس الحركة العامة للفيلم وهذه الحركة تتكون من حركة تصوير المنظر , ومن الحركة داخل المنظر وبذلك تؤدي الحركة إلى تغيير التكوين , ويؤدي بنا إلى تغيير التكوين الحركي إلى تغيير الانفعال [12], مها سأخرج اليوم أطوف بغداد اركن سيارتي في اقرب نقطة ممكنة في ساحة الميدان , في قلب بغداد النابض محبة وغرابة وفوضى وعشقا ارصد صور الخراب وأتمشى في طيوف الذاكرة أحدق في أعماق الزقاق المتلوي كأفعى خرافية ليشكل سوق الهرج الذي يئن إهمالا وعزلة ونفح ذكريات ثم أقف لحظات في باب مقهى أم كلثوم الذي كان عامرا بانين شبابنا ولقائنا الأجمل قادمين من الجنوب ثم أتمشى باتجاه مقهى الزهاوي شبه المقفل الخاوي إلا من بعض الجلاس المنسيين واصل مقهى حسن عجمي الذي اعتم وهو يتلو ذكرياتنا المنحوتة على جدرانه الآيلة للسقوط [13], وتتجه عين الكاميرا من الأمام إلى الخلف عن طريق تقنية الفلاش باك والتي تسمى الاسترجاع أيضا فقد نجح الأديب منذر عبد الحر في استخدام تقنية الفلاش باك وقد نقلنا من نهاية حياته حتى بدايتها عن طريق مشاهد سينمائية طبق عليها المونتاج السينمائي في كتابة روايته الجميلة.
الإحالات:
[1] ينظر الكتابة السينمائية : 154 .
[2] في نظرية الرواية :298 .
[3] السينما العملية الإبداعية : 237 .
[4] رواية غناء سري: منذر عبد الحر : 28 .
[5] ينظر جماليات الشعر المسرح السينما : 216 .
[6] غناء سري:9 .
[7] م0ن : 14 .
[8] ينظر جماليات الشعر المسرح السينما : د0 حمد محمود الدوخي : 250 .
[9] مدخل الى سيميائية الفلم : 38 .
[10] غناء سري :42 .
[11] ينظر الخطاب السينمائي من الكلمة إلى الصورة : 260 .
[12] الروائي والتسجيلي :28 .
[13] غناء سري :47 .