ذاكرة مبعثرة.. أيام مع سالم جبران

نبيل عودة

nabiloudeh@gmail.com

ارتباطي الفكري، السياسي والثقافي والاعلامي الواسع مع سالم جبران بدأ منذ عام 1962 حين كنت طالبا في ثانوية اورط – عمال الصناعية في الناصرة. كانت مدرسة جديدة، كنت من طلاب الفوج المدرسي الأول. كان في المدرسة قسمان، قسم لتدريس مهنة الحدادة وقسم لتدريس مهنة النجارة.

كنت من طلاب قسم الحدادة، من منطلق اني من بيت نجارين، جدي واعمامي ووالدي، وانا الى حد كبير اتقن المهنة بالوراثة والممارسة أيضا، فاخترت ان اكسر طابو النجارة…  اخترت الحدادة حبا بالعمل على الماكينات خاصة، اللحام الكهربائي، المخارط، المقاشط ماكينات الفرز .. طبعا الى جانب المواد النظرية مثل الفيزياء الرياضيات اللغات والرسم الفني وغير ذلك من المواضيع التي لا يمكن لإنسان معاصر ان يتقدم في الحياة بدون ان يلم بها.

كان من المفروض ان نبدأ العمل والتعلم على استعمال ماكينات خراطة وغيرها فهي الموضوع الأساسي لحداد عصري، ولكن كوننا مدرسة عربية هي فرع الأول من نوعه لمؤسسة اسرائيلية كان جل نشاطها في الوسط اليهودي، عانينا من نواقص كثيرة، أهمها ان المخارط  وماكينات العمل الفني المهني للحديد لم تصل رغم بدء السنة الدراسية الثانية، أي وقتنا يضيع بدون ان نتطور مهنيا (ملاحظة: أكتب ولا اجد الاصطلاحات العربية المناسبة لهذا النوع من العمل رغم اني بحثت سنوات طويلة عن اصطلاحات عربية في هذه الصناعة المهنية المتطورة، والتي تتعلق بأهم فروع العصر، الصناعة النفطية، بناء محطات توليد الطاقة، بناء منشئات تحلية مياه البحر، بناء المصانع وغيرها من الفروع الأكثر أهمية في الصناعات الحديثة  في مجال صناعة الفولاذ خاصة في مجالات الانتاج الهندسي  الفني، حيث وصلت الى مرتبة عليا متقدمة جدا في المهنة، من مدير لفحص جودة الانتاج، الى مدير عمل ، ثم مدير إنتاج ومدير مصنع.

عدم وصول الماكينات والتجهيزات المختلفة، الحق بنا ضررا كبيرا، خضنا نضالا طلابيا، توجهنا لإدارة المدرسة بإنذار، توجهنا لبلدية الناصرة لمقابلة الرئيس، أعلنا الاضراب واتصلنا مع الصحف المعروفة، الصحيفة التي حضرت كانت مجلة “الغد” الشبابية، حضر رئيس تحريرها الشاعر سالم جبران، وكتب وقتها ريبورتاجا مثيرا تحت عنوان:”وعدونا بالمخارط وكانوا يخرطون”

الموضوع لم ينته هنا…

عرض علينا سالم دعما حزبيا لمطالبنا ومساعدتنا في معركتنا، ثم تطور الأمر ان لجنة الطلاب التي قادت النضال وكنت على رأسها الى جانب صديقا العمر المرحومان سمير خطيب ورياض شحبري… وعدد آخر من الطلاب، بأن بدأنا نعقد لقاءات اسبوعية في نادي الشبيبة الشيوعية في الناصرة للإستماع الى محاضرات ثقافية وسياسية وفكرية مختلفة، كان سالم جبران هو المحاضر، واحيانا حضر آخرون .. ووجدنا أنفسنا ننضم لحركة الشبيبة الشيوعية، ثم للحزب الشيوعي…

كنت كاتبا مبتدئا نشرت اول عمل قصصي لي في مجلة “الجديد” الثقافية الشيوعية (التي رأس تحريرها كما اذكر محمود درويش ثم سميح القاسم وبعده وسالم جبران) مما لفت انتباه سالم ورفاقه لي، فضمني لهيئة تحرير مجلة “الغد”، لأبدأ التدرب على العمل الصحفي في مدرسة لا اعتقد ان الجامعات توفر فرصا أفضل منها لدراسة الصحافة والاعلام غامة نظريا وتطبيقيا.

من هنا صارت الصحافة جزءا من نبضي وتسري بدمي …والأهم ان ارتباطي الفكري والثقافي والسياسي بدأ يتطور في اتجاهات لم تكن ضمن ما خططته لحياتي المهنية. اقول ان ذلك فتح آفاق تفكيري، وحين عدت من دراستي الجامعية في موسكو(1970) عملت لفترة محترفا حزبيا. عام (1973) استقلت من العمل الحزبي. بعد ان اختلفت مع الحزب الشيوعي حول مستقبلي في العمل الحزبي، وبالأساس تجاهلي كإعلامي قام بدورا رئيسيا (وربما الوحيد) في الحملة الانتخابية للجبهة، وكنت من المشاركين النشيطين لتأسيس الجبهة باشراف طيب الذكر سكرتير الحزب الشيوعي في الناصرة في ذلك الوقت المرحوم غسان حبيب. طبعا اختيار شخص آخر مكاني، لم يكن له أي دور اعلامي، فاستقلت وذهبت للعمل حدادا !!

 برزت بقدراتي المهنية والفنية ووجدت نفسي خلال ستة أشهر مديرا لفحص جودة الانتاج في أهم وأكبر مصانع اسرائيل (القضماني)، من وقتها لم اعمل يدويا بشكل مباشر، كان عملي اداريا خلال فترة تمتد على مساحة اربعة عقود على الأقل.

حين تقاعدت عام (2000) بعد اصابة عمل، اختارني سالم جبران نائبا له في تحرير صحيفة الأهالي التي صدرت ثلاث مرات في الأسبوع، مصرا امام صاحب الجريدة، انه يعرف اني أفضل من كل الصحفيين “ذوي الخبرة الطويلة”!!

عام (1993) كان سالم مرشحا لرئاسة قائمة الحزب الشيوعي (الجبهة الدمقراطية) للكنيست، وحدثت مخالفات تنظيمية فظة، ازاحت سالم بحجج لم تقنعني. فقدمت استقالتي من الحزب والجبهة منتقدا ما جرى بحدة، اذ اني افهم ان دستور الحزب يسري مفعوله على الجميع، وقرارات هيئات الحزب لا يمكن نقضها بشكل عشوائي بعد اقرارها من هيئات يشارك فيها الأشخاص الذين اكتشفوا فجأة انها لا تناسبهم، رغم قبولهم لها في هيئات الحزب. وقبل استقالتي توجهت لسكرتير عام الحزب توفيق طوبي، وحذرت من ان الانقلاب على سالم جبران سيدمر الحزب، اجابني لا تقلق يا رفيق، جزبنا قوي وسيكون لسالم دوره الهام في الحزب، وان مواجهة “الانقلابيين” ستشق صفوف الحزب!!

في تلك الانتخابات حدث انتكاس وتراجع وخسارة عضو كنيست!!

انتقدني سالم جبران بشدة على استقالتي من الحزب الشيوعي والجبهة (1993)، أثر اقصائه بانقلاب يليق بالانقلابات العسكرية العربية. لم تكن استقالتي بسبب سالم شخصيا، او بسبب شخص أخر سأني تصرفه، بل كانت استقالة فكرية وضميرية من نهج لست مستعدا لأكون حجر شطرنج على لوحة يلعب بها المتنفذون. وان يكون دوري لا يتعدى الهتاف الأهبل والتصفيق الغوغائي.. وتمرير قرارات تحت الضغط او التهديد.  كنت مستاء جدا مما برز كضعف مخجل ومريب في قيادة الحزب ومنها قيادات تاريخية أسسته.

هذا الأمر يناقض ما تثقفت عليه في صفوف اروع جامعة فكرية ونضالية حضنتني شبلا يافعا لتعطيني زخمها الفكري واخلاقياتها الانسانية في نكران الذات والتضحية من أجل الناس ما اعتبره حتى اليوم من مقومات شخصيتي وفكري.

صحيح اني ارتبط مع سالم بوصفه مثقفا ومدرسة اعلامية ومحاضر وشاعر وقائد سياسي ومفكر مبدع حتى آخر ايامه، وظل سالم يحمل ألمه الشخصي وشعور المرارة من رفاق الدرب، المه لم يفارقه يوما واحدا. كنت أعيش المه الذي حاول اخفائه. كان رفاقه المخلصين، من اليهود والعرب، يواصلون الاتصال به والتشاور معه وابلاغه بما يجري، بل وتبليغه بقرارات حزبية (ليست للنشر)، وقد وصلنا (اثناء عملنا في الأهالي عام 2004) من رفيق عضو مكتب سياسي، برنامج تحويل الجبهة الى حزب (بسبب الصراع الداخلي المحتد وقتها بين قيادة الحزب وقيادة الجبهة) ففجرنا الموضوع اعلاميا رغم توجيه ضغوطات واسعة لنا ولصاحب الجريدة للإمتناع عن النشر حول هذا الموضوع. واعتقد ان نشرنا كان سببا قي اسقاط هذا المشروع. لم يكن سالم ينتقم، بل كثيرا ما وجه رفاقه السابقين الى المواقف الصحيحة من القضايا المطروحة داخل هيئات الحزب.

خلاف حول الاستقالة من الحزب

اعود الى عدم رضا سالم عن استقالتي.كانت رؤيته اني تصرفت بدون تنسيق مع أحد. بأعماق نفسه كان شيوعيا حقيقيا وأكاد أقول لا يرى نفسه خارج صفوف الحزب. الواقع كان مؤذيا. كل ما حوله كان يتفجر بالانتهازية. حاول ان يواصل مهامه الحزبية والاعلامية لإصلاح واقع التنظيم والتثقيف كما قال لي. اختلفت معه حول نظرته، عدد من اصدقائه والمقربين له نصحوه ان ينسحب، لكنه اختار البقاء والاصلاح من الداخل. كان يشعر بالضيق من فكرة ترك الحزب. الحزب بيته الذي اعطاه سالم أفضل سنوات عمره. حرر بعد الثانوية مباشرة مجلة الشباب “الغد” ليجعلها نبراسا تثقيفيا تربويا تنظيميا للأجيال الشابة، وصل توزيعها الى ارقام ضخمة جدا، في الناصرة لوحدها كان فرع الشبيبة (في فترة قيادتي للفرع) يبيع أكثر من 1500 نسخة من كل عدد. شارك ببرامج تثقيف مبرمجة لرفاق الحزب والشبيبة الشيوعية وتنظيم الطلاب الذي بدأنا بانشائه في الشبيبة الشيوعية. كتب دفاعا عن سياسات الحزب ومواقفه في منابر محلية عربية وعبرية وفي منابر خارج اسرائيل اذكر منها مجلة “فلسطين الثورة” التي كانت تصدر في قبرص. فرضت علية الاقامة الجبرية واثبات الوجود اليومي في مركز الشرطة بسبب اخلاصه لطريق الحزب وتحمله المسؤولية الفكرية والسياسية المركزية في تسويق سياسة الحزب وطريقه، في الوسطين العربي واليهودي. قاد فرع الناصرة للحزب الشيوعي ليجعل منه فرعا منظما وبيتا لكل مثقف وطالب وأكاديمي وغيور تهمه قضايا شعبه.

 اعطى للتثقيف النظري والسياسي اهمية اولى في تطوير الفرع. في فترة قيادته لفرع الناصرة تطورت رابطة الجامعيين ابناء الناصرة كجزء مكون لجبهة الناصرة، ليصل عدد اعضائها لأكثر من 600 عضو والتي قامت بنشاطات اجتماعية وثقافية وسياسية هامة، خلقت في مدينة الناصرة جوا اجتماعيا وشعبيا رائعا ونشاط ثقافي واسع، كانت برامج رابطة الجامعيين تجذب المئات الذين تضيق بهم أكبر قاعات الناصرة.

 بدأنا في اصدار مجلة ناطقة باسم الجامعيين ترأست انا شخصيا تحريرها، اصدرنا منها ثلاثة أعداد باسم “الطريق”، توقفت مع انهاء سالم عمله في قيادة فرع الناصرة وبداية مرحلة تراجع تنظيمي وسياسي في رابطة الجامعيين، لأسباب قد اعود اليها بمناسبة أخرى. اليوم لم يعد لها وجود.

 استلم سالم قيادة الجبهة الديمقراطية القطرية التي انجزت نجاحات هامة في فترة رئاسته. اتسعت صفوفها وزاد تمثيلها البرلماني وكان قلم سالم وراء كل المناشير الانتخابية وصياغة البرامج والرسائل للمصوتين، حتى كتابة أخبار الاجتماعات الشعبية والانتخابية بطريقة تثير الثقة بالانتصار.  ترأس تحرير مجلة “الجديد” الثقافية وتعتبر فترته الفترة الذهبية لمجلة الجديد في المضامين والتوزيع والأرباح. ترأس تحرير جريدة الحزب اليومية “الاتحاد” واعطاها كل وقته حتى جعلها جريدة ذات تأثير واسع واهتمام جماهيري بما تنشره واتسع توزيعها وانتشارها والاهتمام بها بشكل غير مسبوق.

أستطيع ان افهم ان الاستقالة بالنسبة لسالم، فيها اشكاليات عاطفية وفكرية صعبة جدا.

لم أقتنع بوجهة نظر سالم ولم أستطع رفض رؤيته وتبريراته. انا لم أكن الا عضوا عاديا نشيطا في المناسبات السياسية وفي المجال الاعلامي والثقافي.

امام موجة التحييد والاقصاء والتحريض الشخصي وقص الأجنحة لم يعد سالم يملك ما يؤثر به على اعادة بناء هيكلية الحزب ومشروعه الاعلامي والثقافي.

حين دعاني للحضور في احدى الامسيات الى بيت أخيه الدكتور سليم جبران في الناصرة، ليتلوا علينا قرارا هاما اتخذه قبل توزيعه على الصحافة، ايقنت ان سالم لم يعد مستعدا لتحمل مسؤولية تفكك التنظيم وتحوله الى تنظيم الشخص الواحد وان البيان هو بيان استقالته.

وصل في قرارة نفسه انه يلعب مع فريق معاد له يعمل على عزله بتواصل ويجرده تدريجيا من كل مصادر تأثيره، حتى بثمن تدمير التنظيم.

لم يتأخر الوقت ليتأكد قطعا ان الجسور بينه وبين التنظيم لم تعد تسمح له بالمرور الحر، فقدم استقالته.  المضحك ان فرع الناصرة (بإيعاز كما يبدو) اتخذ قرارا بفصله من الحزب، وهو قرار غير شرعي لكون سالم جبران عضو هيئة حزبية اعلى من فرع الناصرة (المكتب السياسي وسكرتارية اللجنة المركزية وسكرتير الجبهة، ورئيس تحرير الاتحاد، وهي المناصب الأكثر أهمية في كل التنظيم الحزبي).

الهيئات العليا بهذه الحالة هي المؤهلة لإتخاذ قرار الفصل وهي لم تتخذ مثل هذا القرار. اعتقد ان هذا القرار أظهر الاتجاه الذي بدأ يسود قيادة عاجزة ضعيفة مفككة بلا عمود فقري، تخضع للضغوطات ولا تلتزم بأي نهج تنظيمي او فكري واضح. تحول الحزب الى قائمة انتخابية نفتقد فيها ما عرفناه من نشاطات ونضالات لا تتوقف.

سالم لم يكشف كل الحقيقة في كتاب استقالته. ربما كان يعتقد ان الحزب ما زال قادرا على تقييم ما جرى واتخاذ القرارات الصحيحة لمنع ظواهر مشابهة في المستقبل. قال لي بعد ثماني سنوات من استقالته، عندما بدأت أعمل معه في تحرير جريدة “الأهالي” انه إذا كتب عن تجربته الحزبية سيفجر الكثير من الدمامل. حاولت جاهدا ان أجره ليحدثني ببعض ما يخفي. ما حدثني به أقل مما توقعت. قلت له إني على قناعة كاملة انه ما زال الأكثر شيوعية من كل اعضاء الحزب. ابتسم بمرارة تكاد ترافقها الدموع. كانت مقالاته في الأهالي اثباتا على شيوعيته التي لم تفارقه، كنت أغضب احيانا عندما يحذف بعض ما اكتبه من انتقادات على الحزب الشيوعي.

بالتلخيص ارى انها انتهت حقبة تاريخية مشرفة على المستوى الفكري والنضالي، لشخص تبوأ بنفس الوقت العديد من المناصب المركزية في حياة الحزب الشيوعي وجبهته واعلامه، يحتاج كل منصب الى أكثر من بولدوزر بشري.الألم كان لسالم أكثر من قدرة انسان عادي على الاحتمال. حافظ على ألمه داخل صدره.

بدأت حقبة لا نريدها لهذا التيار السياسي الذي صان شخصيتنا القومية وبنى تكاملنا الوطني من العدم تقريبا. دور الحزب الشيوعي في حياتنا لا يحتاج الى شهادتي الشخصية.

هناك عشرات الشهادات المشرفة كتبها شيوعيون سابقون هم حنا ابراهيم من البعنة، الذي استقال او اقيل لا أذكر وكان رئيسا لمجلس البعنة المحلي وشيوعيا عريقا له تاريخه النضالي المشرف وكاتب قصصي وشاعر مرموق سجل في كتاب مذكراته الرائع:” ذكريات شاب لم يتغرب” تجربته المؤلمة مع حزبه الشيوعي.

استقال سالم جبران من حزبه ولم يستقل من تاريخه، من فكره ومن اخلاصه، محافظا على الكثير من الأسرار التي كان يعتقد ان نشرها ستكون له اسقاطات بالغة الصعوبة لا يريد هو شخصيا ان يتحمل مسؤوليتها. 

كتب سالم قصيدة يعبر فيها عن غضبه من الانقلاب عليه، لم ينشرها في الصحافة، لكنها ظلت في جواريره واضيفت بعد وفاته لكتاب يشمل كل اعماله الشعرية وهذا نصها:

عاشق النهر / شعر: سالم جبران 

عندما تدافعوا إلى المنصّة

مثل قبيلة مندفعة إلى الثأر،

فيهم العربيد والمهرّج

فيهم اللاعق والسارق

فيهم السكران والنصّاب

فيهم الحثالات التي تطرب لصوت تصفيقها

فيهم الهتّافون المحترفون

فيهم مشلولو التفكير العاجزون عن الحلم –

قرّرت أن أنزل عن المنصّة

لا مهزوما ولا هاربا

بل رافضا أن أشارك في المهزلة

رافضا المشاركة في المسؤوليّة عن الفضيحة

هم صعدوا إلى رقصة الانتحار

وأنا لم أنزل، بل صعدت

صعدتُ إلى ذاتي الحرّة، صعدت إلى جبل الحريّة

بقيتُ مع الناس، واحدا من الناس

الشمس في قلبي

لم أستبدل حلمي بحلم آخر

بل نفضت عن حلمي الغبار

ليس عندي وقت حتى لاحتقار

القبيلة التي اندفعت للثأر

بعد انعتاقي فقط،

أعرف تماما الفرق بين المستنقع والنهر

أنا حليف النهر

أنا عاشق النهر !

سالم جبران: الأعمال الشعريّة الكاملة، ص. 237 –  238 (القصيدة لم تنشر سابقا في الصحافة)

لم أكن عدائيا كنت غاضبا

أقول بوضوح أن نقاشي الذي بدى عنيفا أحيانا مع بيتي القديم وبعض شخصياته لم يكن وما كان له ان يكون عدائيا، بل من منطلق المسؤولية التي شكلت قيمة خاصة في نهج حياتي.  نقاشي الفكري معهم لم يتوقف اليوم ايضا، لا اناقشهم من منطلق نفيهم، بل من منطلق رؤيتي ان هذا الجسم قادر ان يجدد نفسه، او يتسارع للتحول الى جسم سياسي ثانوي.

ليس سرا اني عندما شعرت ان قوى الظلام والماضوية تهدد مصير مدينتي (الناصرة) لم انتظر دعوة للتجند النضالي والاعلامي دفاعا عن مدينتي، برؤيتي ان قائمة الجبهة (الحزب الشيوعي) يجب ان تنتصر والا ضاعت هذه المدينة التي نحبها ونريد ان نراها تواصل التطور وتحمي مجتمعنا المدني الحضاري من السقوط ببراثن الطائفية. قناعتي كانت انه على الناصرة ان تواصل تحمل مسؤولية قيادة الجماهير العربية بمكانتها السياسية كعاصمة الجماهير العربية وتقديم نموذج يحتذى به في ادارة شؤون السلطات المحلية.

لا أرى جسما سياسيا بلديا مؤهلا لهذا الدور غير الجبهة.

في احدى المعارك الانتخابية لبلدية الناصرة(2003) وجهني سالم نفسه لإجراء مقابلة مع رئيس البلدية ومرشح الجبهة لرئاسة بلدية الناصرة رامز جرايسي، نُشرت المقابلة بملحق خاص ارفقناه بجريدة الأهالي امتد على مساحة الصفحة الأولى وصفحتين داخليتين. حولنا الأهالي الى منبر اعلامي لتسويق قائمة الجبهة، بل ورفضنا نشر اعلانات لقائمة منافسة، اقنعت صاحب الجريدة ان يتصل برامز جرايسي (رئيس البلدية وقتها ومرشح الرئاسة) ويبلغه بموقفنا، وان يغطي لنا الاعلانات التي رفضنا نشرها بإعلانات أخرى لقائمة الجبهة. أي لم نستطيع ان نحافظ على كوننا صحيفة تجارية مستقلة ولي عودة لتلك المرحلة بحادث هام كان ممكن أن يغير الكثير من الحساسيات والضغائن ويخلق جوا من التفاهم والعلاقات على المستوى الانساني مع سالم.

نعود الى سنوات العقد الأخير من القرن الماضي…

في العام 1998 اذا لم تخني الذاكرة بدأت أنشر سلسلة مقالات عن انتخابات البلدية القادمة، وفتح لي رئيس تحرير الاتحاد وقتها (الأستاذ نظير مجلي) الباب لنشر مقالاتي، نشرت عددا كبيرا من المقالات تميز أكثريتها بالكتابة الساخرة عن القوائم البلدية المنافسة للجبهة، انتقد سالم جبران بعض التعابير في مقالاتي التي رأى انها عنيفة جدا وقاسية جدا وانه لو كان رئيسا للتحرير لحذف بعض جمل مقالاتي او حذفها كلها. اثارت تلك المقالات اهتماما واسعا من القراء ووصلتني عشرات الاتصالات المؤيدة والشاكرة لهذا النشر!!

اريد ان أقول اني لا اكتب مذكرات عن سالم، انما اسجل مرحلة عايشتها.  لا اكتب تاريخ خاص، انما معاناة عشنا مفارقاتها بين كوننا مخلصين لفكر سياسي وفلسفي واضطرارنا لخوض معاركنا لصالحه، من خارج صفوفه ومن خارج اعلامه لاحقا.

نشطت مع الجبهة في الناصرة دفاعا عن مديني اولا. كنت التقي سالم اسبوعيا في مرافقتي له في ندواته. اهتم بمقالاتي التي أنشرها بمعدل مقال او مقالين أحيانا كل اسبوع في الاتحاد. استفدت من ملاحظاته ويجهل القراء وأعضاء الحزب بالتأكيد، ان بعض مقالاتي التقطت أفكارها من سالم نفسه. كان ظن البعض اني انسحبت من “معسكر سالم”. الذي لم يكن له وجود الا في المخيلات المريضة. بل ذهب البعض للظن ان بعض تعابيري هي انتقاد لسالم جبران فاضحكوني بسطحية فهمهم ومحدوديته.

استدعاني في أحد الأيام عضو مكتب سياسي للحزب من قيادة منطقة الناصرة، كان الحديث بيننا ان اجدد عضويتي في الحزب الشيوعي. قلت اخاف ان تكون بعض مفاهيمي الماركسية تختلف عن مفاهيم الحزب. قال الحزب لا يمنع الاجتهاد والنقاش وهناك ضرورة لشخص مثقف مثلي للحزب.

عضو في اللجنة المركزية من الناصرة، تسلم مهام حزبية وبلدية مختلفة، من رفاق الشبيبة الشيوعية في الناصرة في فترة قيادتي لها، قال لي:” اني لن اجد الحزب الذي اعرفه ونشأت في صفوفه ونصحني بعدم التسرع في الانضمام”.

عضو المكتب السياسي أصر وقال انه سيكون المعرف لي. رفاق سابقون لي أبدو حماسهم وقولهم ان الحزب والفرع بحاجة لي لإحداث انطلاقة شبيهة بما انجزناه سوية في الشبيبة الشيوعية في الناصرة في فترة قيادتي لها.

قدمت بعد تردد طلب انتساب للحزب الشيوعي، بل ونشرت مقالا بعنوان “طلب انتساب” في صحيفة الحزب الشيوعي “الاتحاد” دعوت عبره الرفاق المبعدين والمبتعدين للعودة الى صفوف حزبهم… كانت لمقالي ردود فعل طيبة من رفاق قدامى اعرفهم من مختلف مناطق الحزب سارعوا للاتصال معي وتهنئتي قبل الأوان.

بعد أشهر طويلة جدا (!!) من نشاطي في الجبهة والكتابة في الاتحاد، مقالا اسبوعيا على الأقل، وأحيانا كثيرة مقالين ثقافي وسياسي، جاء رد فرع الناصرة على لسان سكرتير الفرع، بأن “اللجنة المحلية قررت تجميد البحث بطلب عضويتي “(!!) قلت لسكرتير الفرع إني ارتكبت حماقات كثيرة في حياتي وهذه أكبرها. شكرا لأن القرار جاء منكم!!

انسحبت بقرف شديد، ضاحكا على سذاجتي وطيبة قلبي!!

 رغم ذلك في كل معركة انتخابات للبلدية في الناصرة أقف الى جانب الجبهة بكل قوتي الاعلامية والتسويقية. ليس سرا اني تعرضت مرات عديدة للتهديد المباشر، أحدها وصل للشرطة ولم يتصل بي الذين دافعت عنهم ليطمأنوا على حالي. بل يمتنعون ويقاطعون نشر مقالاتي الانتخابية، رغم انها لصالح قائمة الجبهة وهم أعجز من أن يكتبوا أفضل منها في اعلامهم الألكتروني او المطبوع. لاحظ ذلك عدد من رفاق الحزب واعضاء الجبهة ولم ينفع تدخلهم الذي لم أطلبه اصلا كي ينشروا لي. انما كنت وما زلت أكتب من منطلق مسؤولية كمواطن في مدينة الناصرة ويقلقني مستقبلها. 

علاقتي بجريدة “الاتحاد” تتوقف أيضا

في تلك الفترة استلم سالم جبران رئاسة تحرير جريدة “العين” التي صدرت في الناصرة، دعاني للكتابة، لكني ترددت بسبب علاقتي مع الاتحاد.اعتذرت. قال لي: “يكفيك دروس الماضي”. لم أقتنع.

 استلم رئاسة تحرير “الاتحاد” في تلك الفترة المرحوم أحمد سعد. لم تكن مشكلة في النشر. علمت ان المحرر الثقافي للجريدة في طريقة لترك الاتحاد والانتقال الى حزب سياسي آخر. والعمل في صحيفته وحل محله محرر ثقافي جديد.

لسبب لا افهمه توقفت الاتحاد عن نشر نصوصي الأدبية. كنت قد ارسلت مراجعة نقدية عن ديوان “انا هو الشاهد” للشاعر الشيوعي حسين مهنا. مضت اسابيع وشهر وشهرين ولم ينشر المقال. نُشرت مراجعات أخرى سطحية جدا عن نفس الديوان.  اتصلت مع حسين مهنا وارسلت له المقال. شكرني بقوله انها أفضل مراجعة تكتب عن ديوانه وانه اتصل مع محرر الاتحاد وطلب نشر المادة في عدد يوم جمعة.

ولم تنشر المادة.

كنت اكتب خلال تلك الفترة مقالا سياسيا اسبوعيا وينشر. ليس سرا ان نبيل عودة كان الأكثر نشاطا ونشرا في الصفحة الأدبية يوم الثلاثاء والملحق الأدبي يوم الجمعة. لم افهم سبب مقاطعتي الثقافية في الاتحاد.

تحدثت مع رئيس التحرير المرحوم احمد سعد. قال انه ينشر لي كل اسبوع. شعرت بأنه يهرب من موضوع مقاطعتي في الصفحة الثقافية. قلت إني أشكره ولكني استغرب مقاطعتي في الصفحات الأدبية. قال انها ليست بمسؤوليته (؟؟!!) ووجهني للمحرر الثقافي. تحدثت مع “المحرر الثقافي”. كان رده سخيفا وصبيانيا وبلا ذرة احترام لنفسه. قال ما معناه:” ان مقالاتي الأدبية لا تلائم بالضبط صفحات الاتحاد الأدبية”. قبل ان يشرح “نظريته الثقافية” أغلقت خط التلفون و”اغلقت” علاقتي مع الاتحاد.

عدت الى سالم جبران في صحيفة العين شاعرا باني ارتكبت بحقه غلطة كبيرة. ولكنه بدماثته واتساع صدره لم يشعرني اني ارتكبت غلطة بحقه. أعلمني انه وصلته معلومات تفيد ان عدم النشر لي تقف وراءه اسماء ضايقها ان يحتل نبيل تلك المساحة الثقافية والاعلامية الواسعة في صحيفة الحزب خاصة وان له تاريخ في نقدهم منذ استقال من الحزب عام 1993 وانتقد القائمة وقتها.

وصلني فيما بعد اتصال من “عليم” بكواليس الاتحاد يعلمني باسم واحد على الأقل كان غاضبا من تخصيص الصفحة الأدبية بهذه الكثافة لنبيل عودة.  تأكد هذا الأمر حين عملت مع سالم في “الأهالي”، اتصل نفس الشخص ليرسل مادة ادبية، لكنه طلب من سالم ألا تكون لنبيل عودة علاقة بمادته. فرفض سالم طلبه مؤكدا ان نبيل عودة هو محرر الصفحة الأدبية وهو المقرر بالنشر.

مراجعتي عن ديوان الشاعر الشيوعي المبدع حسين مهنا نشرتها في صحيفة “العين”، وبدأت انشر اسبوعيا في العين.

ملاحظة

هذه التسجيلات او المذكرات، ليست عن سالم فقط، ولكن سالم يشكل في حياتي علاقة وطيدة استمرت بدون توقف منذ التقيته عام 1962. كانت علاقاتنا مفتوحة لم يفرض علي رأيه او مواقفه، حتى في عملي معه في جريدة “الأهالي” التي رأس تحريرها كان نقاشنا ليبراليا ولم يفرض رأيه على ما انشر.

كثيرا ما رد على مقالاتي بأسماء مستعارة في نفس الجريدة. كان يقول لي انه سعيد لأني أطور رأيا شخصيا وأصر عليه وان الانسان الذي يكتفي بنقل اراء الأخرين سيجد نفسه في وقت ما بلا رأي وبلا تفكير. للحقيقة والتاريخ أعترف اني تأثرت حتى النخاع بأسلوبه، طريقة تفكيره، تحليله للأحداث واسلوب حديثه مع القوى السياسية اليهودية.  استفدت منه على المستوى الفكري، أظن ان اتجاهاتي الجديدة في الرؤية الخاصة للطروحات والنظرية الماركسية والفلسفية عامة، تطورت بفضل حواراتنا الطويلة ولا اقول اننا كنا متفقين على جميع ما كنا نطرحه. سالم مثلا لم يسقط من حسابه موضوعة الطبقات والصراع الطبقي وانا رؤيتي ان مجتمعاتنا الحديثة تجاوزت تلك المفاهيم وان انواع الصراع اليوم اختلفت جذريا وتغيرت مهامها الاجتماعية. كانت رؤيتي ان مواصلة تحليل المجتمع بنفس الطريقة الشيوعية الكلاسيكية أصبحت عبثية. كان يقبل ان هناك تغيرات جذرية ولكن الأسس للمفاهيم الطبقية ما تزال ثابتة. من هنا انا لا اكتب مذكرات عن سالم مباشرة، ليس كل ما اكتبه هو موقف سالم جبران ووجهة نظره، لكن سالم شريك حتى بنقده لنشاطي الفكري والاعلامي والابداعي، الأمر الذي دفعني “كطالب نشيط” في جامعة اسمها سالم جبران، لتطوير ادواتي، عبر القراءات الفكرية والمهنية الواسعة والبحث والتفكير قبل ان اخط حرفا واحدا. مواقف سالم يجدها القارئ بدقة في مقالاته التي تحمل توقيعه والتي نشرها في “الأهالي” والعديد من الصحف والمواقع الألكترونية في العالم العربي، خاصة في العقد ونصف العقد الأخيرين. لذلك اؤكد ان ما أنشره في هذه المراجعات هي مواقف نبيل عودة ووجهة نظره فقط !!

يوميات نصراوي: سالم جبران في قصيدة غير معروفة

يرثي ويتألم وفاة صديق عمره محمود درويش

خبر وفاة محمود درويش كان أشبه بكارثة تسونامي. لدقائق جلست بلا حراك. بلا قدرة على استيعاب صحة الخبر. بعد لحظات بدأت أتنقل بين مواقع الانترنت.بدأت صورة محمود درويش تحتل الصفحات الأولى. بدأت أستوعب قساوة الخبر. كان يشغل فكري في نفس الوقت احد أكثر المقربين لمحمود درويش والذي لا ينفك يحدثني بحب غير عادي لمحمود وشعره وانسانيته وشفافيته والطفل الذي يشكل جانبا كبيرا من شخصيته. حدثني عن زيارة محمود الأخيرة له في بيته قبل توجهه لاجراء عملية القلب الخطرة في أمريكا. كان قلقه على محمود أكبر من قلقه على وضعه الصحي الشخصي.ولم يكن وضع سالم الصحي مطمئنا إطلاقا. انه سالم جبران.. احد رواد حركتنا الثقافية والاعلامية.

حضر اللقاء الأخير بين سالم ومحمود المحامي جواد بولس، ويبدو ان ما سجله جواد بولس هو الوثيقة التي تنقل تفاصيل اللقاء الأخير وعليه أقتبس ما سجله جواد بولس عن ذلك اللقاء:

” وصلنا بيت أبي السعيد (سالم جبران) وبدأنا بهبوط درجاته. محمود، وبدعابة مألوفة بين أصدقاء “عتاقى”، أخذ ينادي: سالم يا سالم، أبو السعيد …ثوان كنا في صالون أبي السعيد. كان سالم يحاول أن يجيب على النداء بالنداء، لكن الصدر خانه والصوت كان عاجزًا خنيقًا. تقابلا، نسمة على كتف نسمة، فكان العطر فواحًا. لا دمع في المآقي، لكنّه، هكذا شعرت، تصبب بين الحنايا وعلى أطراف الضلوع. تحدثا، صديقان لم يقوَ الزمن على قطع ما عقداه من حبل للمودة، وعهد لم يفسده طول بعاد، ودرب أقوى من الشتات، وهمٍّ أعند من الشقاء.

كان اللقاء خاصا وحميميًا. لم يتحدثا عن قضايا العصر الكبيرة. سالم، بهدوء زائد عن هدوئه العادي وباختصار، شرح عن تردي حالته الصحية وسأل باهتمام واضح وقلق بادٍ عن حالة محمود، ومحمود أجاب بقصاصات حقائق ليعود إلى سالم ليطمئنَّ وليُطَمئِن.

لعبة الألغام أسميتُها فمحمود يعيش ولغم في صدره لا يعرف أحد ميعاد انفجاره، وسالم بعد عملية كاسحة ومزيلة للألغام من صدره. كلاهما يسعى لإبطال وتسخيف لغمه ليضمن سلامة شريكه/رفيقه.

رغم محاولته إخفاء ذلك، إلا أن الوَهن كان باديًا على أبي السعيد. أقلقَنا ضعفه وأخافنا حزنُه البادي. نبرة من يأس خالطت حديثه الممتع وكلما حاول إبعادها عاودَت وسقطَت من طرف لسانه غمّة وهمًّا.

بعد أكثر من ساعة غادرنا بيتَ سالم.الذي تمنى لمحمود عودة سليمة وهو معافى من مرض ومن منفى، ومحمود تمنى لسالم شفاءً كاملًا وراحة بال مصحوبة بسيادة جسد. كانا كنحلتين في مهب الريح محلّقتين على جناحي قدر”. انتهى الافتباس.

سالم نقل لي مشاعره اكثر من تفاصيل اللقاء التي اوردها جواد بولس في مقاله. كان يتحدث شعرا عن محمود وصفاته الانسانية ويستعيد ايامهما المشتركة، أيام الدراسة والشباب المبكر والعمل بالصحافة واللقاء الفكري الأيديولوجي الذي وحد بينهما، والهم الوطني الذي شكل مسارا لابداعهما الشعري والسياسي. واللقاءات بعد انتقال محمود للعالم العربي ..

وكان سؤالا محرجا يستفزني؟

هل سمع سالم الخبر ؟ وكيف سيستقبل رحيل رفيقه ؟

كنت بحاجة الى شخص انقل اليه الخبر . كان اكبر من أن أحتمله وحيدا. ولم يكن في ذهني الا سالم جبران، وكنت أعرف وضعه الصحي الحرج .. ولكنه أقرب الناس الى محمود درويش. قلت لنفسي ساحاول ان أبلغه بان الخبر غير مؤكد. ليبحث بنفسه ويعرف الحقيقة المرة. ومع ذلك كان شيئا يقول لي ان سالم على علم بالخبر المفجع.

بتردد اتصلت تلفونيا بسالم. تعوق في الرد. ثم جاءني صوته باكيا ، بل يجهش بالبكاء. لم اعد اعرف ماذا علي ان أقول. حبست دمعي. وخفت ان نطقت بكلمة ان انفجر انا ايضا بالبكاء. بعد ان تغلبت على حزني قلت: هناك خبر مؤلم ، محمود مات. وصلني صوت سالم : اجل مات. وغابت كل الكلمات من ذهني فاغلقت التلفون.

سافرنا في اليوم التالي لتقديم التعازي لأهل الراحل محمود درويش المقيمين في قرية الجديدة، التي لجأوا اليها من قرية البروة بعد ان هُدمت مثل اخواتها البلدات العربية الخمسمائة، كعلامة لا تنسى على بشاعة وحجم النكبة الفلسطينية.

لم يسق سالم . بل سلمني مقود السيارة وهو يقول: لا استطيع التركيز على الشارع   وأضاف: أحلم ان أصل بيت أهله ليقولوا لنا ان الخبر غير صحيح.

كان سالم يحلم باستحالة الموت المبكر لرفيقه وصديق عمره محمود درويش. لأول مرة اشاهد سالم يتعلق بوهم ، ويستغرق به بكل وجدانه.

تحدثت مع سالم يوميا تقريبا،لأطمئن على وضعه، عدا زيارته في المستشفى . شعرت بعد زيارة التعزية ان شيئا يعذبه ويغضبه. فاجأني بعد اسبوع بقوله أنه كتب قصيدة عما يؤلمه من وفاة صديقه. قرأها على مسمعي عبر التلفون بصوته الضعيف المبحوح. طلبت منه ان يعطيني نسخة لأوزعها. قال :”ليست للنشر”.

اصررت يوميا تقريبا ان أحصل على نسخة، وانه على ضوء ما يكتب عن محمود درويش في وسائل الإعلام يجب نشرها، ليفهم القارئ العربي ان هناك مبالغات وأكاذيب وأوهام أكثر من الحقائق.

كان يصر على رفض النشر. أُصبت بحالة يأس. وبدأت التنازل عن إصراري على نشر قصيدة سالم.

كنت اخبره بما اقرأ في مواقع الانترنت عن تدفق المقالات التي تبني محمود درويش كما يحلو لها، محمود درويش آخر أكاد أجهله. لم تكن دراية لسالم باستعمال الشبكة العنكبوتية، وكان اعتماده الأساسي علي ثم على زوجته بمرحلة متأخرة.

بعد اسابيع قليلة، قال لي سالم انه سينشر القصيدة. قلت متحمسا: ممتاز، ساوزعها بشكل واسع. قال: ولكني لن أنشرها باسمي. قلت الأفضل باسمك، واذا كان ذلك يمنعك من نشرها فلا بأس باسم مستعار. قال: سأنشرها باسم “سعيد الحيفاوي”.

هذه القصيدة لم تدخل في كتاب الأعمال الشعرية الكاملة لسالم جبران، الذي صدر بعد وفاته. وهذا نصها كما وزعتها على مواقع الانترنت:

قصيدة لم يكتبها محمود درويش

شعر: سعيد حيفاوي ( سالم جبران)

” القطارُ الأخير توقْفَ عند الرصيف الأخير “

هنالك ليلٌ أشَدّ سوادا

” هنالك ورد أقلُّ “

” أنا يوسف يا أبي “

أمامي طقوس كثار وليلٌ طويلٌ طويلْ

” أنا يوسف يا أبي “

ويسعدني ان بحرا من الناسِ حولي

من الطيبين،

من البسطاء،

من الصادقين

ولكنني يا أبي في امتعاضٍ حزين

فكل الذبابِ يحاول ان يتقدم

وكل الذئابِ تحاول أخذ مكان

بجانب نعشي، وتتلو صلاة الغياب

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو بازاحة أمي واخوتي الطيبين

وحولي من الزعماء اناسٌ

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو قَدروا اقتلعوا بعض رمشي

ليبقى لهم

وبه يعلنون ارتباطي بهم

عندما يقرب الانتخاب

ولو قدروا مزقوا لحم روحي

انا يوسف يا أبي

انا طيب، غير اني

قليل السذاجة، يا أبتي

مثلما كنتُ دوما قليل العتاب

انا يوسف يا أبي

كل الناس بلادي وكل بلاد

رفاقي وأهلي

ولكنني لا أزال وسوف أظل الى أبد الآبدين

عدو الذباب!

البعض كالعادة السائدة منذ فترة غير قصيرة، حملني تهمة كتابة القصيدة وأضاف اسم سعيد الحيفاوي لأسماء عديدة تنسب لنبيل عودة. واليوم انزل عن كتفي اسما عزيزا على نفسي. كنت اتمنى لو كنت قادرا حقا على كتابة نص شعري بهذا التألق.

القصيدة ترجمت أيضا للعبرية ونشرت بالعربية والعبرية في موقع “زاوية أخرى” العبري.

ديوان شعر غزلي مفقود

كتب سالم جبران بين عامي 2003- 2004 ، اثناء عملنا سوية في تحرير جريدة “الأهالي” مجموعة قصائد غزلية، احتفظ فيها بدفتر مدرسي عادي. وقد قرأتها وهي خارجة من “الفران”، وقرأها سالم امام عدد من الأصدقاء الأدباء في جلسات خاصة.

ورغم محاولتي الحثيثة على اقناعه بالبدء بنشرها في جريدة “الأهالي” التي كان يرأس تحريرها، الا انه أصر انه لن ينشر شعرا غزليا وقد قارب من السبعين. قلت: “الدهن في العتاقي”. وبررت ضرورة النشر بان كل شعراء العربية واصلوا كتابة الغزل وهم بعد السبعين. وها هو نزار قباني على رأس شعراء الغزل. هل يضر به الأمر أم يزيده تألقا شعريا؟

لم يتحرك عن رفضه.

القصائد كتبها سالم بأسلوب الشعر المنثور. واعتقد كما أسر لي ذلك كل من سمعها، انها من أجمل قصائد سالم، وان نشرها قد يشكل نقلة شعرية نوعية في شعر سالم وفي شعرنا المحلي، وفي شعر النثر العربي كله. لديه صور شعرية مبتكرة، وخروجا عن النمطية في اللغة والصياغة، وقوة الصور الشعرية وموسيقى الكلمات تعانق الروح.

كلامي لم يساعد ولم انجح بإقناعه على نشر أي قصيدة . وسالم عندما يصر على موقف لن يغيره الا بعد ان يقتنع بشكل شخصي بدون تدخل “قوى ضغط خارجية”.

وظلت نثرياته الغزلية في كهف الدفتر.

بعد وفاته بدأت العائلة تجمع أعماله الشعرية، وجدت زوجته، الى جانب دواوينه الثلاثة، عددا من القصائد تشكل ديوانا رابعا. الا الدفتر. لم يُعثر عليه.

رغم البحث في مكتبته، واوراقه، ما زال دفتره الشعري الغزلي مفقودا.

هل اكذب نفسي؟ هل يكذب من استمع الى قصائده الغزلية أنفسهم؟

كنت الشاهد الأول على ميلاد تلك القصائد. وعبثا حاولت ان أقنعه بنشر بعضها حتى باسم مستعار. وحثثته مرارا ان يطبع قصائده النثرية بملفات وورد ويحضرها للإصدار في كتاب للمستقبل، فلدينا في “الأهالي” فني غرافيكا وهكذا يحفظها جاهزة للوقت الذي يقتنع فيه بنشرها.

لم تنجح جهودي.

أسجل هذه الحادثة، لعل الدفتر يقع بيد أمينة، او لعله ما زال تائها في مكتبته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى