انشطار الذات في مواقيت الصمت للروائي خليل الجيزاوي

محمد قطب | ناقد مصري

تحمل رواية مواقيت الصمت (الدار العربية للعلوم، بيروت 2007) تجربة متميزة في الموضوع والبناء معًا، وهي علامة مضيئة في مسيرة الأديب خليل الجيزاوي، تُضاف إلى أعماله الروائية الأخرى والتي تُشكل معًا رؤيته للذات والموضوع في درجات التماس والتنافر والجدل المشتجر بينهما، وعالمه زاخر بالتنوع، ففي روايته يوميات مدرس البنات تفيض التجربة بحيوية السرد والأسلوب، وخصوصية العلاقة – التي تلتبس كثيرًا – بين المعلم والتلميذات؛ ولعل حميمية هذه العلاقة ترجع إلى الصدق الوظيفي – إن صح التعبير – الذي تسرب عبر النص فأكسبه عمقًا وتأثيرًا.

وفي رواية أحلام العايشة يتلون الفعل الروائي بالمنظور السياسي الذي يتبدى في مواقف الشخصيات التي ترى أن الحلم الذي صاحب حرب أكتوبر 1973 قد تلاشى وخلّف عبثًا سياسيًا وخللًا اجتماعيًا وأخلاقيًا، وأعلى من زعامات سرقت بهجة النصر وأغفلت تجربة الحرب والمعاناة التي عاشها الجندي علي رمال سيناء، وهو نفسه الذي رصد آثار النكسة وخروج الجماهير لتؤازر زعيمها، جمال عبد الناصر، رافضة للهزيمة ومطالبة بالثأر في روايته الألاضيش .
شغلت تجربة الحرب مساحة عريضة في إبداع الكاتب وما ترتب عليها من مُتغيرات في السياسة والاجتماع وما صاحبها من افتقاد للسواء النفسي والقيمي في المجتمع، وهو ما رصدته أيضًا رواية مواقيت الصمت ، حيث طال المتغير كُلًا من القيم الروحية والمادية معًا، حتى بات الأمر يستدعي أن يعلو التساؤل: لِمَ كل هذا الصمت؟
والكاتب في أعماله لا يتخلى عن نقداته السياسية والاجتماعية التي يبثها عبر الحوار والمواقف الجزئية، وهو ما يعني انشغاله بهموم الذات والجماعة معًا، فهو يكشف عن الانحراف الأخلاقي – الظاهر والمستتر- ويتوقف أمام التفكك الأسرى والمتغير الاجتماعي كسببين رئيسيين لهذا الانحراف، وذلك الخواء العقلي لدى الشباب.

تُرَى من المسؤول عن سطحية ثقافة هذا الجيل؟ ويُعرّي الفاسدين والمُرابين الذين يكنزون المال ويحتجزونه؛ في حين يكتوي الفقراء بفقرهم، ويقف مع الذين أتوا بالنصر واكتووا بما طرأ على المجتمع من تغيرات في السياسة والاقتصاد استثمرها الفاسدون، ولعلنا نلاحظ على أعمال الكاتب نوعًا من الوحدة في الأداء، كالميل إلى شعرية الأسلوب والجمل القصيرة وتنحية أدوات العطف والولع بالصور الجزئية، وبالمفردات التي تصنع مشهدًا كليًا.

والكاتب في تشكيله البنائي والدلالي للنص يلجأ إلى الإفادة من نصوص أخرى يُوظفها فنيًا عبر الأحداث أو على لسان الشخصيات أو يستولد بها دلالة كلية، وهو ما يعطي للنص بعدًا دلاليًا مؤثرًا، فضلا عن تصدير الفصول بمقتطفات من نصوص أخرى، أو جمل مستقلة، مما يعني أن هذا التوجه نسق يتغياه الكاتب في كتاباته.

التشكيل الدلالي وانشطار الشخوص

الموضوع في رواية مواقيت الصمت يقترب من الدرس النفسي والطقس الشعبي، فالرواية تجيب عن سؤال كبير:

ما الذي يحدث حين يموت أحد التوأمين؟ أهو نذير بالشؤم والخراب؟ أم هو سبب للتداخل مع القطط في خيال شعبي

غرائبي؟ أم هو مدعاة لسيطرة الميت علي الحي، وهو الجانب النفسي في الشخصية.

الرواية لا تقوم على أحداث كبيرة، ولكنها تتبع الحدث الصغير في تجلياته النفسية والمادية على السواء، إذ إن الشخصية هند تتوزع بين عالمين – الظاهر والباطن – وهو ما أدى إلى الانشطار الذي سعت الرواية إلى جبره والتئامه عبر عروج الذات إلى السواء النفسي مُرورًا بالتعلم والمصالحة مع النفس وخدمة المجتمع.

إن هند هي التي تحكي في الحقيقة، لكنها في داخلها تصر على أنها هبة، ومن ثم حدث التداخل والمطاردة والهيمنة، وكأنها روح تبحث عن جسدها الحقيقي، عبّرت الرواية عن هذه المناوشة والمزاحمة، وهي تقف أمام المرآة: أتأملني تُواجهني الأخرى، أبتسم، تسخر مني، أرصد ملامحي، تُواجهني الأخرى بملامح جامدة ، وجاء التعبير واشيًا بالتداخل: حين أسكن، تتحرك هي، أقفل أنفي، أحس بها تأخذ نفسها من فمي ، ومن ثم كان صادقًا هذا التساؤل الذي جأرت به: من أنا.. هبة التي أعرفها، أم هند؟. (الرواية ص 31).

ولقد كرس الأزمة لدى الشخصية أن الجميع – بمن فيهم الناس في الحي وسعيد المحب وأم شحته المرضعة – يعلمون أنها هند، أما هي فلا تملك إلا أن تسلم بالأمر الواقع وهو أنها تُشبهها فقط، وهبة المتخيلة تكتب رسالة بعد عودتها إلى سعيد تُذكره بما كان بينهما وتعلق عليه الأمل في أن يثبت أنها هبة وليست هند، حتى يخفف شعورها بالأسى حين لم يتعرف عليها أحد في الحي، ولعله يصل بها إلى بر الأمان، فهو كما تقول: الشيء الحقيقي الذي يملك حيزًا كبيرًا في داخلي، ويحتل مساحة كبيرة بحجم نصف عمري وكل ذكرياتي.

راحت تبحث عنه، عن حبيبها الذي ارتبطت به وسقطت معه ودبرت له عملا في شركة والدها الذي رفضه كزوج، وككل شيء تحول في نظرها، وجدته شخصًا جديدًا له ظاهر وباطن، حوت وشيخ، انتكست محاولتها وهي ترى شخصًا مُنقسمًا، وهي التي رأت فيه علة للالتئام، أخلصت لعملها، فبحثت عن نوعية من أطفال الشوارع، ووقفت على أسباب المشكلة التي ترجع في المقام الأول إلى التفكك الأسري، وهو السبب نفسه الذي أدى إلى الانحراف في رواية يوميات مدرس البنات، وكان أمل معظم الفتيان أن يستخرجوا بطاقة تحميهم من مطاردات الشرطة، أو أن يدخلوا الجيش، ويبتعدوا عمن يردون أن يعملوا معهم قلة أدب، والحاجات الوسخة دي. (الرواية ص 118)، وبقوة الإرادة استطاعت أن تقف على مشارف الإفاقة، ورست على شاطئ الفعل الذي يساهم في خدمة المجتمع وانتشال أطفاله المشردين، ومن ثم جاء سردها الأخير تحت عنوان: أنا، الحامل لصوت الذات المُشرفة على الوعي، والمُدركة للحالة التي تلبستها:

أنا هبة منصور الصياد، التوأم الحي، أعيش داخل جلباب هند، صحيح أنني مت بعد عام واحد من ولادتي، لكنني لم أرحل، لماذا هبة تموت بينما هند تعيش؟ أنا التي كنت أقود عقلها الباطن. (الرواية ص 140).

تستعيد هبة علاقتها بسعيد، وسقطتها معه، ورؤيتها لبقعة الدم الشاهدة على الفعل، متلذذة بما حدث، وهو سرد شغل الفصول الأولى، وتستدرك في حالة وعي مزاحمة أن هند هي التي قامت بالفعل، هي التي أحبت وسقطت، وأنها – في حياتها – كانت مدفوعة بنزق هبة المتلبسة لها، تعترف هبة فتقول: في الصباح كنت أزغرد فرحًا عندما شاهدت البقعة الحمراء على سريرها (الرواية ص 141)، ظلت وراءها حتى صنعتها على هواها – إن صح التعبير- أخرجتها من حزنها وانكسارها، بعد أن استوت ذاتًا وفكرًا وتخلصت من المزاحمة والمطاردة، تقول هند:

الآن فقط تأكدت أنني هند منصور الصياد، قُدر لي أن أحيا بعد وفاة نصفي الآخر هبة، طوال حياتي أشعر أنني ممزقة، منقسمة على نفسي، دائمًا هناك أمران داخل رأسي. (الرواية ص 144).

وحصلت على حريتها حين تحررت من قمع الأم وسطوة التوأم.

السّواء النفسي والالتئام

الشخصية المحورية في الرواية – كنموذج إنساني- شغلت المتن ككل، وفرضت هيمنتها وتداعياتها عبر مراحل النمو النفسي والعقلي، شخصية متمردة ظلت تبحث عن الحرية وتسعى إلى الانعتاق من أسر الأم وسطوتها:

أبحث عن حريتي، أفتش عنها، أدافع، أقاوم ديكتاتورية أمي. ( الرواية ص 158).

أخذها التمرد الرومانسي وهي تقرأ رواية أنا حرة للكاتب إحسان عبد القدوس، ورأت أنها قادرة – بما يتراءى لها – أن تصنع ذاتها وفق إرادتها، فتحررت وسقطت، وتجربتها مع سعيد – وفق رؤيتها – ناتجة عن اقتناع خاص بأن الحب عطاء؛ ولذلك فهي لا تؤمن بأن الحرص على العذرية دليل على العفة، وأن الرجال – في مثل هذه الحالة – لا يقدرون التضحية من أجل الحب، وهو ما أثار غضبها من ازدواجية الفعل:

أضرب غاضبة الهواء وألعن كل لحظات الضعف البشري ( الرواية ص 82).

وبالإرادة نفسها استطاعت أن تلملم شتات الذات، وتجبر انقسامها وتصالحت مع هوس التغلغل وفرض الهيمنة – الفانتازية – حتى انسلت صحيحة النفس من متاهة العذاب والتقمص، ثم تعالت وسمت فوق سقطاتها، وإذا كانت – هند، هبة – شخصية مركزية، فإن سعيد الفاتح واحد من الشخصيات المركزية التي لم تشغل مساحة سردية ممتدة، إلا أنها حركت الحدث، وصنعت أبطاله، واقتربت من واقع رجال الأعمال المؤلم، أقام شركة للمقاولات وارتدى ثوب الورع، وراحت حبات المسبحة تسجل أوراده، وتلألأت الزبيبة على جسد يتوق إلى الفعل الفاحش والسلوك المتدني، في رسالتها إليه تقول هند: في كازينو قصر النيل، شاهدت رغباتك الجنسية العارمة، سارعت تدعوني لليلة حمراء في أكبر الفنادق؛ لتذبح فريستك مرة أخرى، وتتساءل مستنكرة:

متى تحصل على حريتك أنت؟ (الرواية ص 157).

تقدمت هند في مشوارها نحو تحقيق حلم إنساني كالعدل، وتقدم هو ليكون نموذجًا للرجل حين يتحول إلى أداة تدمير، هما نموذجان يتجادلان عبر الرواية، فهي تبحث عن الحرية لها وللشعب معًا، ورفع الهزيمة عنه، تصيح غاضبة: لماذا أرى الهزيمة ترتسم على كل الوجوه؟ متى تحين مواقيت الكلام؟ متى يصرخون…؟ متى يثورون..؟!

متى.. متى؟! وتنتقد عنف التردي الذي أصاب المجتمع: الآن يبيعون كل شيء بأبخس ثمن. (الرواية ص 159).

أما سعيد فمشغول بالدخول إلى مجلس الشعب من أجل تكريس المنفعة الخاصة واكتساب الحصانة، وتتمنى له أن يجبر انشطاره، حين يقيم المؤسسة التي وعد بها أثناء الانتخابات؛ لإعادة تأهيل أطفال الشوارع: أناشدك باسم الحب الذي جمع بيننا يومًا ما، أن تصنع شيئًا لهؤلاء المشردين. ( الرواية ص 155).

الصمت ودلالته

أبانت الرواية عن دلالة واضحة، وهي أن الصمت الذي يطول يأتي بالكارثة على مستوى الفرد والجماعة؛ لأنه صمت يؤكد السلبية والتراخي المصحوب بنوع من الخوف والرعب من الجديد الطارئ أو هيمنة السلطة، لمحناه في شخصية منصور مع زوجته التي تعالت عليه ولم تنس يومًا أنه كان بائعًا للكبدة، ورفضت أن تحيا معه في السيدة زينب، وقطنت في فيلا بمصر الجديدة، يقول في حديثه مع ابنته:

أنت شاهدة أنني أنفقت نصف عمري أسامح في الكثير من حقوقي، حتى طالت مواقيت الصمت. (الرواية ص 18).

ومع أنه يغريها بأن نصوصًا امتدحت الصمت إلا أنه وقف على الأثر النفسي له وهو الهزيمة:

آه يا ابنتي ما أشقى الإنسان حين يعيش في بيته مهزومًا. (الرواية ص 23).

ولقد لمسنا الصمت في مواقف الناس إزاء المتغيرات، وتجاه ما يحدث من تجاوزات في حق الإنسان وضروراته، وهو ما أدى إلى أن تتساءل هند في حدة دامغة: متى يثورون؟! وتصفهم فتقول: تتأمل حال الناس في الشوارع، تراهم يسيرون مغيّبين، مهزومين، كأن على رؤوسهم الطير، كأن هذا الوطن لا يمثل لهم شيئًا!. (الرواية ص 159).

واستعان الكاتب لتوضيح الدلالة بجانب توثيقي يتمثل في مرجعية نصوصية، أفاد منها واقتطع ما يساعده في توضيح الهدف الموضوعي الكامن في الرواية، وجاء الفصل الأول حاملا لها، وتراوح الأمر بين المدح والهجاء: قيل يا يونس ألا تتكلم؟ فقال: الكلام صيرني في بطن الحوت! أي رمى به. ونصح لقمان ولده: يا بني إذا افتخر الناي بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك!. (الرواية ص 24).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى