التعليم الجامعي: زيادة فرص التوظيف مؤقتًا وتغيرات ملحوظة في الجامعات

سري سمور | فلسطين 

التوظيف زمن الإدارة المدنية الإسرائيلية

التوظيف في الدوائر الحكومية التي كانت خاضعة للإدارة المدنية التي أنشأتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، لم يكن سهلاً ولا ميسرًا، وأصلاً طاقتها الاستيعابية محدودة جدًّا، بما في ذلك قطاعات حيوية كالتعليم والصحة.

والإدارة المدنية هو اسم خادع؛ فهي مكونة من مجموعة ضباط إسرائيليين من الجيش أو المخابرات، وكانوا أحيانًا يحرصون على اختيارهم من الطائفة الدرزية،ربما لاعتبارات اللغة وغيرها، وهناك مجمع للإدارة في مستوطنة (بيت إيل) قرب رام الله، فيه مثلاً ضابط التربية والتعليم، ومعه بضعة مساعدين، وهناك أفرع للإدارة في مناطق مختلفة؛ فهناك، مثلاً، فرع في جنين، فيه ضابط له رتبة أدنى من ضابط (بيت إيل) ومعه مساعدون، وهؤلاء بالمناسبة يرتدون بزات عسكرية ويحملون السلاح، وهذا الضابط هو المشرف على مديرية (كانت تسمى مكتب) التربية والتعليم، والتي تتولى أمور المدارس والمعلمين والامتحانات وما شابه، وهذا ينسحب على قطاع الصحة، وهكذا.

وغالبًا كانت هناك مجموعة موظفين وموظفات وعاملين وعاملات، من الفلسطينيين، يعملون تحت إمرة وإشراف ضباط الإدارة المدنية، ومعظم هؤلاء لم يكملوا التعليم الجامعي، بالطبع العمل في تلك الظروف والبيئة لم يكن مستوعبًا أو مهضومًا من كثير من الأهالي، خاصة بعد انتفاضة الحجارة، وبداهة فإن هؤلاء الموظفين  خضعوا لفحص دقيق من مخابرات الاحتلال، نظرًا لخطورة وجودهم في أماكن كهذه، وقد تم استيعابهم لاحقًا في وزارات السلطة المختلفة كل حسب مجال وظيفته، نظرًا لخبرتهم الطويلة نسبيًّا، وحاليًّا ربما لم يبق منهم أحد إلا وقد صار في عداد الموتى أو المتقاعدين.

وكان المعيار الأمني هو الحاسم في التوظيف في أي مجال (تعليم أو صحة أو زراعة أو محاكم نظامية) وفي الاستمرار في الوظيفة؛ فلم يكن مستبعدًا أن يفصل معلم لأن له ابنًا اعتقل أو استشهد، بل حدث أن اعتقل أحد المعلمين اعتباطيًّا، لأنه مرّ بالقرب من منطقة مواجهات، وبعد احتجازه أيامًا أو أسابيع قليلة تم إعطاؤه(نصف مركز) أي نصف راتب لمدة محدودة ثم تم فصله نهائيًّا، مع أنه لا علاقة له بأي نشاط ضد الاحتلال، واعتقاله جاء لمصادفة مروره من منطقة شهدت مواجهات.

هذا يعني أن الفرص أمام خريجي الجامعات سواء جامعات الوطن المحتل، أو الجامعات في الخارج، ضئيلة جدًّا للحصول على وظيفة في القطاع العام، محدود الموازنة والكادر أصلاً.

وكانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” تستوعب عددًا من خريجي المعهد التابع لها، وأفرادًا آخرين للعمل في وظائف مختلفة في مناطق عملياتها، ولكن طاقتها الاستيعابية أيضًا محدودة أكثر من القطاع الحكومي العام، مع كون رواتبها أكثر بوضوح من القطاع العام (الحكومي) الخاضع لإشراف وإدارة وهيمنة الإدارة المدنية، ونعلم التقليص والتراجع المتسلسل باطراد حتى آلت “الأونروا” إلى ما نراه اليوم.

ولهذا كان على غالبية الخريجين أن يتوجهوا إلى العمل في الخليج أو الأردن، أو أن يعملوا في القطاع الخاص، وغالبًا سيعملون في غير اختصاصهم أو بعيدًا تمامًاعنه، أو أن يتوجهوا للعمل في الداخل المحتلّ عام 1948، والعمل هناك أغلبه في قطاع البناء والزراعة وأعمال التنظيفات في الشوارع أو المشافي أو المطاعم، مع أن المردود المالي كان معقولاً، ولكن هذا ينفر الأفراد من التعليم العالي، بل من العملية التعليمية برمتها.

وقد تقلصت الفرص كثيرًا بعد بدء سلطات الاحتلال بوضع عوائق وفرض إغلاقات منذ 1992 تقريبًا أمام العمال الفلسطينيين القادمين من الضفة وغزة إلى الداخل، وكان نصيب غزة من التضييق والإغلاق أكبر نظرًا لجغرافية قطاع غزة وسهولة إغلاقه.

استلام السلطة للقطاع العام وأثره على التعليم

من النتائج السريعة لاتفاق أوسلو نقل الصلاحيات المدنية إلى السلطة الفلسطينية، والتي فورًا أنشأت وزارات مختلفة كثيرة وهيئات لمجموعة من القطاعات العامة والخدمية، وكانت سلطات وإعلام الاحتلال يتجنب استخدام كلمة (وزير/ وزارة)  لوصف وزراء ووزارات السلطة، واستخدم إعلام الاحتلال (وذكرت في مقال سابق أنه كان متابععًا بكثرة): فلان (مسؤول حقيبة الصحة أو التعليم أو الزراعة…إلخ) ولكن لاحقًا كف الإعلام الإسرائيلي عن هذا السلوك.

وأعادت السلطة جميع الموظفين والموظفات الذين فصلتهم سلطات الاحتلال، ووظفت عددًا كبيرًا في القطاعات الأمنية والمدنية، وكان الحاصل على شهادة بكالوريوس يستطيع الالتحاق بأحد الأجهزة الأمنية بعد اجتياز دورات معينة برتبة ملازم أو ملازم أول، وفتحت الوزارات أبواب التوظيف على مصراعيه، ومع أن الرواتب كانت قليلة ولكن هذا التغير شجع كثيرين على التعليم الجامعي، فازداد الإقبال على الالتحاق بالجامعات في الداخل والخارج عند الذكور والإناث وصار ينظر إلى التعليم على أنه ضرورة وأولوية، خاصة مع وجود جامعات آمنة نسبيًّا من مداهمات واقتحامات جيش الاحتلال، طبعًا يستثنى من ذلك الحواجز العسكرية التي ظلت سلطات الاحتلال تضعها على الشوارع والطرق الرئيسية وغالبًا تستهدف طلبة الجامعات.

ولكن طاقة مؤسسات السلطة وقدرتها على استيعاب وتوظيف الخريجين سرعان ما استنفدت أمام جيش الخريجين، ومحدودية فرص العمل في القطاع الخاص، وعدم وجود بدائل كثيرة في الخليج وغيره مثلما كان الحال سابقًا، فصار لدى السلطة عدد ضخم وجيش موظفين أكثر من اللازم في قطاعات عدة، وازدادت نسبة بطالة الخريجين تزامنًا مع زيادة الإقبال على التعليم الجامعي.

وبدأت حالة التعليم تتغير، في مجالات شتى، مثل إضرابات العاملين في جامعات مختلفة مطالبين بزيادة وتحسين مخصصاتهم، واحتجاجات وإضرابات الطلبة على سياسة رفع الأقساط التي كانت عادة تتخذ بناء على توصية/ قرار من مجلس التعليم العالي، مما أربك انتظام الدراسة لفترات مختلفة خاصة مع بدء العام الدراسي على مدار أعوام عدة.

وعادة ما كان يتم التوصل إلى حلّ بعد مفاوضات ماراثونية مع إدارة الجامعة المعنية وممثلي الطلبة (مجالس الطلبة والكتل الطلابية) ليخرج ممثلو الطلبة بما يشبهونه بأنه (إعلان انتصار) بإجبار الإدارة على التراجع.

والحقيقة أن الإدارات كانت تتعامل بذكاء حيث تعلن عن رفع الأقساط بقيمة معينة، ثم تتراجع لقيمة أقل، بعد الاحتجاجات والمفاوضات، وتعود الكرة في أعوام دراسية لاحقة.

بالتوازي مع استلام السلطة مهماتها ومرور الزمن باستمرارها في إدارة الأمور فيما يتعلق بشؤون السكان، فقد افتتحت كلية (حقوق/ قانون) في جامعة النجاح الوطنية في نابلس وكلية الصيدلة (1994) في ذات الجامعة، وكانت الأولى من نوعها في الضفة الغربية، وهو ما يعني أن هذا التخصص بالنسبة لمن يرغب بدراسته ومعدله في التوجيهي يسمح له، صار متاحًا دون الحاجة إلى السفر إلى الخارج.

كما تم لاحقًا افتتاح كليات طب أسنان وطب بشري، وافتتاح فروع جديدة لكليات الهندسة، وهذه أيضًا تخصصات لم تكن موجودة في البلاد. طبعا هذا يعني طوابير خريجين جديدة تنتظر فرص العمل.

وتم توسيع مجالات (الدراسة الخاصة/ التعليم الموازي) وهو أن يدفع الطالب مبالغ مضاعفة لدراسة تخصص يرغب به لم تقبله الجامعة ولكن لا مانع وفق لوائح التعليم العالي أن يدرسه. مثلاً: نظرًا لكثرة الراغبين في دراسة الصيدلة فإنه يتم اختيار ذوي المعدلات الأعلى فقط بسبب محدودية الاستيعاب، ولكن لا مانع من قبول طلبة جدد معدلاتهم عالية مسموح أن يدرسوا هذا التخصص وفق لوائح ومحددات التعليم العالي (مثلا 85% فأعلى في التوجيهي) ولكن شريطة أن يدفع الطالب رسومًا مضاعفة للساعة المعتمدة.

جامعة القدس وجامعة القدس المفتوحة

لا بد لي أن أشير إلى موضوع أراه مهمًّا؛ فأحيانًا يختلط على الناس وجود جامعتين باسم جامعة القدس، الأولى جامعة القدس المفتوحة وهي الأشهر والأكثر طلابًا، ولها فروع كثيرة في غزة والضفة وتتبع “م.ت.ف” وبدأت التدريس في الأراضي المحتلة فعليًّا أوائل التسعينيات، (كان يفترض، برأيي، أن تتخذ لها اسمًاغير القدس، والوقت لم يفت، فيمكن الآن تغيير اسمها لأي اسم له دلالة وطنية أو تعليمية، منعًا للالتباس الذي لا يزول بكلمة المفتوحة).

والثانية جامعة تحمل اسم (القدس) كان قرار إنشائها في مؤتمر قمة عربي- إسلامي في 1931 بعد 6 سنوات على افتتاح الجامعة العبرية في القدس، ولكن لم يتحقق الحلم/ القرار إلا أواخر سبعينيات القرن العشرين، وكان منقوصًا وزخمه محدودًا.

فقد تشكلت جامعة القدس من عدة كليات في مواقع مختلفة وكان لكل كلية مجلس طلبة خاص بها، وقوانين إدارية خاصة بها، وربما موازنات خاصة بها، أي أن الرابط بينها بسبب التباعد الفيزيائي وعدم وحدة النظم والقوانين، جعل جامعة القدس تجمعًا لعدة كليات (4 كليات حتى أوائل التسعينيات).

الكلية الأولى وهي نواة جامعة القدس هي “كلية الدعوة وأصول الدين” لتدريس العلم الشرعي، وفق برنامج منح درجة البكالوريوس، لتخريج معلمي تربية إسلامية وأئمة وخطباء مساجد، وقد درس فيها طلاب وطالبات من مختلف مناطق فلسطين، وكان من أهم  وأقوى وأبرز ميزاتها أن مقراتها وقاعات التدريسفيها كانت في المسجد الأقصى ومرافقه وأبنيته وملحقاته، وهذا له بعد ديني وسياسي ووطني مهم، ولكن بسبب الإغلاقات التي انتهجتها سلطات الاحتلال انتقل مقر الكلية كاملاً إلى مبنى “كلية العلوم والتكنولوجيا” في بلدة أبو ديس الملاصقة للقدس في 1993، ولاحقًا سيؤتى بما تبقى من كليات وما سيضاف لجامعةالقدس من كليات إلى أبو ديس، وسيتم توسيع المباني والمنشآت، وستصبح جامعة القدس موحدة فيزيائيًّا وإداريًّا وماليًّا وغير ذلك، ولكن ليس في داخل مدينة القدس.

ولاحقًا بعد انتفاضة الأقصى فإن جدار الفصل العنصري سيعزل بلدة أبو ديس ومعها كليات ومباني جامعة القدس، عن شرق المدينة المقدسة، بمعنى ألا وجود لمؤسسة تعليم عال فلسطينية تشبه أو تناظر/ تماثل ما في مدن الضفة الغربية، في مركز المدينة المقدسة أو في أحيائها داخل الجدار!

وصار الناس شعبيًّا يشيرون إلى جامعة القدس باسم (جامعة أبو ديس). قد يكون هناك سؤال: حتى لو كان هناك جامعة فلسطينية كبيرة في القدس، ألن يكون مصيرها كمصير كلية الدعوة وأصول الدين، بفعل القهر الاحتلالي؟

ربما، ولكن كان على العرب الإسراع في تثبيت أركان تعليمية في القدس، وحين تكون هناك مؤسسة كبيرة ستصمد في وجه التهويد، ولتكن مهمتها تدريس أبناء القدس وأهلنا في مناطق 48 وليكن في أبو ديس أو رام الله أو غيرها فروع لبقية الطلبة، ولكن الفرع صار أصلاً في حالة جامعة القدس، وهذه مأساة أخرى تضاف إلى ما تلقته القدس من ضربات ونكبات في تاريخها.

وسأتحدث بمشيئة الله في مقال/ مقالات قادمة أكثر عن التعليم الجامعي من زوايا أخرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى