ارتواء الغليل، وتكليل النيل، بالتراث الأصيل

د.  مدحت عبد الجواد | مصر

لقصيدة الشاعرة الدكتورة /د. ريم سليمان الخش قدمنا فيما مضى قمرين، وهذا هو القمر الثالث، حديثنا اليوم عن قصيدة رائعة، بدأتها الشاعرة الدكتورة، ولقبتها فيما مضى ( رمح القدس)، وهى قصيدة نحتاج إليها، في ظل أزمة (جدار الموت) الذي تصنعه أثيوبيا، والذي سيدخل مصر في معاناة أخرى، ندعو الله أن يقف معنا في ظل هذاالبلاء، ويدفعه عنا، وكأني أتمثل أبيات شوقي ( رحمة الله عليه):

رَبِّ إِن شِئتَ فَالفَضاءُ مَضيقٌ

وَإِذا شِئتَ فَالمَضيقُ فَضاءُ

أَنتَ أُنسٌ لَنا إِذا بَعُدَ الإِنـ

  ـسُ وَأَنتَ الحَياةُ وَالإِحياءُ

وقد تأثرت الشاعرة بهذه الفجيعة –  والشاعرة سورية – وهذا يثبت أخوة العروبة، فكتبت هذه القصيدة الرائعة، تشاركنا الفجيعة، ونحن – المصريين – نقدم لها كل الشكر، والاحترام، والتقدير، وندعو لسوريا بالأمن والرخاء، والقصيدة تقدم توظيفًا للبعد التراثي، وتعمق الاحساس بالمصاب، وتربطه بالتراث.

والآن مع القصيدة الرائعة :

أمطر على الأخدود سجيلا

وزلازلا إنْ كمموا النيلا

لهفي على مصرَ السليمة إذْ

يغدو كفاف الماء مسؤولا

***

إنْ تأتها بالعرش مكرمة

تلقَ الرضا بالحمد مجبولا

***

قلبي على المسكين يذبحه

جارٌ عظيم الجور تنكيلا

تبني جدار الموت رغبته

لكأنها ضحت بهابيلا

***

وجعي على الصياد إنْ جنحت

تصطاده الأوجاع مأكولا

يرمي شباك النيل مؤتملا

ليعود باللاشيء محمولا

***

ولكم صلاه الشحّ مستترا

خلف اصطياد الصبر تعليلا

في صدره الأوطان يشعلها

موال حزن الليل قنديلا

***

غنّى ونهر النيل مسكنه

لايبتغي (لو جفَّ) تبديلا

ألحانه ياربّ تطعنني

من صمت قلب الكون مقتولا

***

قسماته ياربّ طيبةٌ

سيماء من يرضاك معلولا

فاجبر بماء الحب كربته

ليرتل الإشراق ترتيلا …

.

يتبع إن شاء الله تعالى

ملاحظة: الأخدود هو الأخدود الأفريقي وفيه سيكتمل سد الحبشة… وهو منطقة زلازل

– تبدأ الشاعرة بأمر غرضه الدعاء، لكنه دعاء فيه مفارقة بيانية ، فلم تطلب منع المطر بل طلبت لهم مطرًا  خاصًا من أحجار جهنم، فتأمل الربط بين الدين، والعمق التراثي في الكلمات، (أمطر) وعلاقته بآيات العذاب” فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) الحجر، كما أن المطر استخدم للعذاب في آيات كثيرة، ثم تربط بين ( الأخدود: وقصة أصحاب الأخدود) وما حل بهم من العذاب، وهو ما يضاعف من استحقاهم العذاب، وتأمل أن الفعل الرابط بين الاثنين هو حدث ( الحفر)فهناك حفروا الأخدود؛ لتعذيب المؤمنين، وهنا حفروا الأخدود؛ لتعطيش المصريين، فالفعل واحد(الحفر)، والقصد واحد (القتل)، فاستحقوا العذاب نفسه؛ لتكرار الفعل، ثم تأمل لما كان الفعل هو الحفر ارتبط بمراعاة النظير والتناسب مع ( زلزالا)وبالطبع هنا حذف يعضد المجاز فالمقصود: ابعث عليهم زلزالا، لكن الكلمة ترتبط بعمق أشد حيث ترتبط بالرهبة من جهة، والتشابه مع أحداث يوم القيامة ” إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)” الزلزلة، وما يثيره من فزع، ثم يأتي سبب هذا الدعاء من خلال استعارة رائعة ( إن كمموا النيل)، وكأنه إنسان يمنعون حريته، ويغلقون فمه، وهنا حريته بأن يسير؛ ليصل إلى مستحقيه، والعلاقة الترابطية بين السد والتكميم، فكلاهما منع للحياة، فتكميم الفم يعني الموت؛ لأنه يمنع التنفس، والسد يمنع المياه، وهذا معناه الموت؛ لأن الماء يمثل الحياة، فتأمل الترابط ودقته.

– تتحسر الشاعرة على مصر، لما أصابها، والتعبير بكلمة ( السليمة )، هو تعبير اعتادت العرب أن تستخدم ألفاظًا للفأل محل المصاب والحزن أو الخوف، من باب التبشير بالخير، يعبرون عن الصحراء بالمفازة، تبشير لمن يمر بها بالفوز والنجاة، غير أن هذه الكلمة لها معنيان ( جريح/ وصحيح)، وهي هنا مقصودة؛ لتعبر عن المصاب، وتقدم البشرى بالنجاة، فيصبح القليل من الماء، بقدر يستحق، ويعادل مسؤولية الحياة، وتأمل فرط التفجع والحزن الذي توحي به الكلمات، وترابط الاستعارة مع التحسر، والأجمل أن هذا التعبير يستخدم للتحسر على شيء مضى وحدث، لكنها تتحسر على شيء لم يقع بعد فكأنه في حكم الواقع، وهنا المفارقة فهى تحذر من مصير في المستقبل يستوجب التحسر، فلم يعد التعبير يعبر عن التحسر فقط بل تجاوز ذلك ؛ ليقدم لنا إشارة تحذيرية، وكأنها نداء للعالم، وللمصريين بالتحرك؛ لإنقاذ حياة المصريين.

– ولأن الحديث عن النيل، فكان الحديث عن العرش، ومصر قدمت عروشا كثيرة في الماضي من ملكات (عروس النيل) التي كانت من طقوس المصريين، وكأن الواجب أن يعود لها عرشها، والعرش هنا يقدم إشارة أخرى لسيادتها على النيل، وملكيتها له، وأحقيتها بأن تكون الآمرة الناهية في حكمها، غير أن طبيعتها هى الرضا والحمد، وهى الأخلاق التي جبلت عليها، وهنا ترسم الشاعرة صورة حية، وكأنها أمام عرش حقيقي، وتعتمد على الاستعارة، وأسلوب الشرط؛ لتنفذ إلى أخلاق مصر، وكأنها ملكة وليست دولة، فتأمل كلمة ( مجبولة)، التي منحتها الأصالة في صفة الحمد وخلق الرضا؛ لأنها صفات قديمة وليست مكتسبة.

– ثم تعود وتغوص في العمق التراثي والأسطوري معًا، فتشير إلى قصة قابيل وهابيل، وكيف قتل أخاه دون ذنب يستحق، ولكنها تشير لقيم أخرى تتمثل في الجيرة، ومعاملة المساكين والضعفاء، وتصنع تركيبًا رائعًا يمزج بين التحسر واللهفة والحزن، وبين مضاعفة هذا الحزن؛ لأنه يقع على مسكين ، ويزيد من فحش الجريمة أن ظالمه لم يراع حرمة الجيرة، تضاعف من وصف ظلمه بكلمة( عظيم الجور)، ثم تبين أنه ينكل بجاره؛ لتظهر شدة حقده، وتأمل كأنها تصنع مشهدًا تمثيليًا لك أن تتخيل مدى الصراع النفسي، الذي وضعت فيه المتلقي، ورسمت بكلمات قليلة العدد صورة عظيمة القدر تصبح قصة خالدة بين الماضي والحاضر، وهى قصة الصراع الأبدي بين الخير والشر، ونوعت بين الأسلوب الإنشائي، والأسلوب الخبري .

– وتصف السد ب(جدار الموت) في تشبيه رائع، وإشارة ذكية إلى( الجدار العازل) في إسرائيل، وكلا الجدارين أقيما على باطل وظلم؛ لهدف القتل، أوالتجويع، وتبين أن رغبة القتل أصيلة لدي العدو الظالم، كأنه يضحي بهابيل، وهي تربط بالبيت السابق إلى أحداث القصة الخالدة، وهنا إشارة إلى شدة الجرم وبشاعته، فهى أول جريمة قتل في البشرية، وتأمل كيف وظفت التراث.

ولنا وقفة أخرى في حديثها عن الصياد- إن شاء الله-

– فهى تتابع الأبيات في الحديث عن الصياد ومعناته، غير أنها ترسم له لوحة فنية تجسد الألم والبحث عن الرزق، وتصنع الحركة واللون والصوت، وتتنوع المشاعر، وتختم بالدعاء له، وهى تطلب من الله له الرحمة في مشاعر كلها شفقة على ما سيصير إليه حاله، وكما صنعت في أبياتها السابقة من علاقات، وصور وتراكيب رائعة، كان تناولها لقصة الصياد، كما أنها وعدت باستكمال القصيدة، ويبدو أنها ستصبح ملحمة فريدة – إن شاء الله – بارك الله في الشاعرة الرائعة، ودام تألقها، وحفظ الله مصر، ونيلها، وشعبها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى