قراءة في مسرحيّة ” دعني أعش دعني أمُتْ “. للكاتب الفلسطينيّ خيري حمدان

د. روز اليوسف شعبان | فلسطين

بروتوكولات الموت في الأبديّة

في لغة تشوبها الفكاهة ويجنح فيها الخيال، يصوّر الكاتب الحالة النفسيّة التي يمرّ بها محمود بعد أن  فارق العالم الدنيويّ، فيقف أمام  سالم وهو شخص من العالم الآخر، الذي يبدأ في استجوابه عن حياته، وأخطائه وعن الأحزاب السياسيّة التي انتمى إليها ويسجّل ذلك في بروتوكول فيحسّ الميّت وكأنّه في محكمة ينتظر فيها  إصدار القرار بدخوله إلى الأبديّة. فيستغرب محمود هذا الأمر ويسأل سالم بسخرية:” ماذا تفعلون حين تقع الكوارث؟ هل تطلبون من آلاف الضحايا الانتظار طوال هذه المدّة لتسوية بروتوكولات الموت؟

فيردّ عليه سالم:” أنا عبد مأمور لا يمكنني مساعدتك، هل تريد أن ترى بأمّ عينيك الدستور وحزمة القوانين الداخليّة المنصوص عليها في المعاملات الأبديّة؟ هناك طلب كبير على الموت هذه الأيّام؛ لأنه بمنزلة الخلاص من التعب والإرهاق وضغط الدم وفقر الدم والسكري والسرطان”.ص4

ثمّ يحدّث محمود  سالم في سخرية عن عدّة مواضيع حدثت في بلاده وفي العالم العربي فنجده يقول:” كيف يمكن لجيش عربيّ أن يكون عبثيًّا؟ المخاطر تحيط بنا من كلّ جانب، والمعارضة تزداد قوّة، ولا بدّ من تلقينها درسًا في الطاعة لاستتباب الأمن”.ص3

ومن خلال الحوار بين الاثنين يتمّ التطرّق إلى عدّة مواضيع  ينتقد من خلالها الكاتب الواقع المرير مثل : حقوق الإنسان التي هي حبر على ورق، البيروقراطيّة، غزّة التي يقول فيها محمود ما يلي:” كارثة غزّة ستلاحقني في القبر أيضًا. العالم العربي بين مناصر وشامت لمصير القطاع. هل قتلى غزّة شهداء أم مجرّد عابرون في الحلم الإسرائيليّ؟ بالمناسبة أين تبدأ الدولة وأين تنتهي المقاومة؟ لماذا جبهة المعارضة باردة؟”.ص10

ثم ينتقد محمود الحريّة في الوطن العربي ويقارنها مع الحريّة في الغرب. ثم يدور حوار بين سالم ومحمود عن احتلال العرب لأسبانيا،فيرى محمود أن احتلالها خطأ فلو  بقيت دمشق أو بغداد أو القاهرة مركز الحضارة لكان ذلك أفضل. أما سالم فيعترض على ذلك ويرى أن احتلال الاندلس كان صائبًا وأن المشكلة كانت في بذخ الملوك ولهوهم وانشغالهم عن أمور الدولة.وهكذا يستمر الحوار حتى يضيق محمود ذرعًا ويتمنّى أن ينتهي هذا الجدال الذي أرهقه وأتعبه،  وهو يتأرجح بين الرغبة في الموت والرغبة في الحياة فيقول:” لديّ رغبة كبيرة بالكتابة، لكنّ الوقت لن يسعفني” ص15.

تحين ساعة الوداع وتسقط ورقة الحياة ويموت محمود.

تذكّرني المسرحية برسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي، وهي من أعظم كتب التراث العربيّ النقديّ وقد كتبها ردًّا على رسالة ابن القارح، التي أرسلها  له، وكتب فيها عن عدّة أمور،  خاصّة شكاويه من أهل عصره ومن وزراء وسلاطين زمانه ومن هرمه وشيبه ومن الهموم والأحزان ، ومن المصير المأساوي لزنادقة الاسلام وغير ذلك.

فيردّ عليه أبو العلاء المعرّي برسالة الغفران فيصف فيها ابن القارح في موقف الحشر، حيث ينتفض من قبره ليجد نفسه في الساحات يوم القيامة،ليتذكّر أنّ حسناته قليلة وقد لا تنفعه توبته، فيستجدي خازن الجنّة ليدخله لكنّه يرفض، ثم يحصل على الشفاعة من النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فيدخل الجنة وفيها يلتقي بالعديد من الشعراء والفلاسفة فيحاورهم  ثم يزور ابن القارح جهنّم ليتعرف على من دخلها من فلاسفة وشعراء ويحاورهم، ثم يعود الى الجنة ليصل الى نعيم الفردوس الذي أعدّه الله تعالى.( ويكبيديا الموسوعة الحرّة).

أسلوب المعرّي ساخر في رسالته هذه واستطرد فيها إلى عدّة مواضيع ففيها علم كثير بالشعر وروايته ونقده وبالتاريخ وبالاماكن والأفراد والقرآن وتفسيره والحديث وغيرها….

وفي مسرحية “دعني أمت دعني أعش ” نجد استطرادًا للكثير من المواضيع، بعضها وجدته مُقحمًا في الحوار بين محمود وسالم، مثل ذكر المتنبي، محمود درويش نجيب محفوظ، تشيخوف،ادوارد سعيد، ناجي العلي، جوزف كونراد، إضافة الى ذكر عدّة مواضيع  تتعلق بالسياسة، الحكّام العرب، الثورات، الحريّة، انتقاد الزعماء العرب، التخلّف الذي يسود العالم العربي، خشيتهم من الموسيقى،  هجرة الكثير من العرب إلى الغرب وغرق الكثير في البحر خلال الهجرة، وغير ذلك الكثير..مما يشتت ذهن القارئ ويبعده عن الفكرة المركزية اللافتة في المسرحية، ألا وهي وقوف الانسان أمام القضاء في العالم الآخر.

مع ذلك فإنّ الكاتب ينهي مسرحيته بالأمل فالنهاية بداية لحكاية أخرى .ص14.

والغريب  في المسرحية أنّ محمود يكشف عن فلسفة وجدانيّة في ساعة موته فيقول لسالم الذي سأله :” وماذا بعد أن تخيّم العتمة من حولنا؟ يجيبه محمود:ينبلج الضوء من قلب الظلام”.ص15

تنتهي المسرحية برغبة سالم في دخول قصر الجنة مع محمود ويقوم بتمزيق البيانات والبروتوكول الذي سجّل فيه إجابات محمود عند استجوابه له، فيقول:” لا بيانات بعد اليوم. لقد تحرّرنا من الوهم يا محمود”.ص 15.

ثم يموت محمود فيكتب سالم: بدأ النزاع منذ عام 1050هجريّة، ساعة الوفاة ما تزال مستمرّة.ص16.

 فهل قصد الكاتب في ذلك أنّ بداية الانحطاط في الأمة العربية بدأت  عام 1050 للهجرة والتي يقابلها 1640م فترة الخلافة العثمانية؟ وأنّ الضمير العربي ما زال ميّتًا إلى الآن؟ 

وهل تمزيق سالم للبيانات وتحرّره من الوهم، دعوة ليقظة الشعوب العربية من أوهامها، ولتمزيق جميع البيانات التي تضعها في موقع المحاكمة  والقضاء أمام حُكّامها وجلّاديها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى