وجعُ السيّاب

عبد الله الميالي | العراق


الوسَاوس تزهر في تلافيف دماغي، تتناسل بطريقة (أميبية) جدران بيتي تتشقق، تكاد تنهار فتدفنني حياً، تحولتُ إلى ميدان معركة تتصارع فيه روحي وجسدي وأفكاري، حممُ برُكاني تبحث عن فوهة الخلاص، أسرع بالمغادرة حيث لا أدري، اختطفتُ من البحر لغته فتلاطمتْ أمواجي، بالكاد استطعتُ أن أعبر شارع قد سكنته (حُفر) كبيرة جَعَلته ملاذاً آمناً، من بعيدٍ أرمق سيارة تدفع رشوة لإشارة المرور، ومن ذلك البيت نافذة صامتة، وفي تلك المقهى عجوز يرتشف قهوة باردة، لم أشعر بانتهاء مفعول سيجارتي إلا بعد أن أحرقتْ أصبعي، هل أرمي بجسدي في “شط العرب” لكي أغتسل من هذه الأفكار السوداوية التي غَشتني دون سابق إنذار؟ استعنتُ ببوصلة حذائي فأناخت قدمي قرب تمثال استوطن رصيف الحزن، يبحث عن شراع الأمل، تلسعه شمس تموز بسياطها، وهو لا يزال مرتدياً (ستْرَته) خجلاً أن يخلعها بعد أن تورّط بمدح شمس بلاده: “الشمس أجملُ في بلادي من سواها” وقوفه وحيداًغريباً أبكى فؤادي، أحببته مذ كُنّا نَدرس قصائده في درس الأدب في مرحلة الثانوية، لم أنس ما قرأته له:
“إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون، أيخون إنسان بلاده؟”
بدا لي أن أشاكسه قليلاً، فما أجمل أن تشاكس وتشاغب من تُحب! وقفتُ أمامه مُحدّقاً في عينين غائرتين، ورأس مستدير، وأنف كبير، وفم واسع، ووجنتين ناتئتين بدتا كعلامتي استفهام، أتأمل خطوط وجهه وأتساءل ما الذي يُخفيه؟ وما الذي يتوسّد هذا الرأس الصغير؟ الذي بدا عليه أثر رصاصة طائشة لزفة عرس أو نزاع عشائري.
ألقيتُ عليه التحية فلم يرد عليَّ حتى بمثلها، وآثر الصمت، إذاً لم يبق لي إلا أن استفزّه كي أثأر لهذياني من لا مبالاته، فصرختُ:
” أين العراقُ؟
وأين شمسُ ضحاه تحملها سفينة في ماء دجلة أو بويب؟
وأين أصداء الغناء، خفقت كأجنحة الحمام على السنابل والنخيل،
من كل بيتٍ في العراء، من كل رابية تدثرها أزاهير السهول،
لَتبكين على العراق، فما لديك سوى الدموع، وسوى انتظارك،
دون جدوى، للرياح وللقلوع”
تصفيق حاد زاد من حماسي وأنا ألقي مقطوعتي الشعرية التي سرقتها من ديوان السَيّاب ونسبتها لي كما يفعل غيري، التفتُ خلفي لا أجد أحداً، غاب الجمهور! ها.. تذكرت .. نصف الجمهور ذهب يشاهد كرة القدم، والنصف الآخر في جبهات القتال!
وحدهُ السيّاب ينتفض من مُوميائه المحنُّطة، يتحرّك قليلاً ، يمد يده ليخرج منديلاً يمسح ما تصبّب من عرقٍ انساب على وجهه فأزاح ما تعلق به من غبار الشارع، يستجمع قواه لكي يقول شيئاً، الشمسُ تلوّح بتحيّة الوداع، نجحتُ في مهمتي إذاً، أخرجَ ورقة من جيبه وبدأ يقرأ من شعره ليخفف عني لوعة الهذيان:
“لا تكفروا نعم العراق،
خير البلاد سكنتموها بين خضراء وماء،
الشمس نور الله تغمرها بصيف أو شتاء،
لا تبتغوا عنها سواها،
هي جنة فحذار من أفعى تدب على ثراها”
لم يكُمل قراءته فقد أرخى الليل علينا سُدوله بأنواع الهموم ليبتلي، هذياني سيعود بي إلى عصر الجاهلية، طوى ورقته وأرجعها إلى جيبه، عاد إلى مكان وقوفه كيوم ولدته يد النحات، لم استسلم لهجوم الظلام المباغت، كنتُ محتاطاً للأمر، جلبتُ معي شمعتي لمعرفتي أنّ (كهرباء الوطن) في إجازة طويلة، أضأتُها إمعاناً بالمشاكسة كي احرمه من متعة الظلام الذي أنشد له يوماً :
“والظلامُ حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق”
تسرَّبتْ نسمات من الهواء لاعبتْ ضوء الشمعة، أصابها ارتعاش مؤقت كادت تقبض أنفاسها، فأمطرتْ دموعاً ساخنة تساقطتْ على يدَي تلسعها، عاد إلى صمته المطبق، لم يبق لي من أمل في أن يتكلم أو يتُمتم بشيء، فرميتُ آخر سهمٍ في كنانتي:
“سمعتُ وقع خطى الجياع تسير،
تدمي من عثار، فتذر في عيني،
منك ومن مناسمها، غبار”
المكانُ يزداد وحشة، صمتْ السيّاب أوحى لي بأني كنتُ ضيفا ثقيلاً، فقد أيقظته من نومه الهانئ، لملمتُ خطواتي حاملاً على أكتافي جراحات وطن لم تندمل.
استمع لصدى كلمات تنتشر على وجه شط العرب:
“أطفال أيوب من يرعاهم الآنا،
ضاعوا ضياع اليتامى في دجى شات،
يا رب: أرجع على أيوب ما كانا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى