غنى العربية ومشكلات الترجمة وخيانة النص

علي جبار عطية _ دار المأمون للترجمة والنشر – بغداد

الدكتور محمد حسين آل ياسين :
– المتنبيّ حين تُرجم شعره لم يعد متنبيّاً وكذلك شكسبير حين نُقل إلى العربية !
– الشعر يعتمد على الانزياح والضربة واللمحة وهذه لا يمكن نقلها إلى اللغة الأخرى


شبَّه الدكتور محمد حسين آل ياسين الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية بأنَّها أشبه بمن يحاول وضع شيءٍ كبيرٍ في علبةٍ صغيرةٍ!
وضرب مثلاً بشعر المتنبي المترجم إلى اللغات الأخرى فهو لم يعد متنبياً، وكذلك شعر شكسبير المترجم إلى اللغة العربية بأنَّه لم يعد شكسبير!
ورأى أنَّ المشكلة تكمن في غنى اللغة العربية قياساً إلى غيرها من اللغات فنقل الأدب أو الفكر من لغة أجنبية إلى اللغة العربية يكون أسهل كثيراً من نقله من العربية إلى غيرها؛ لأنَّك حين تنقل نصاً من لغة أقل غنىً إلى لغةٍ غنيةٍ تنفتح الآفاق أمامك.
جاء ذلك خلال محاضرةٍ قيّمةٍ ألقاها في دار المأمون للترجمة والنشر ضحى الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر كانون الأول لسنة ٢٠٢١م بمناسبة الاحتفاء بيوم اللغة العربية.
قدمت المحاضرة زينب عبد اللطيف التي اختصرت سيرة المحاضر الطويلة والحافلة بالإنجازات بوعدٍ بنشرها على منصات التواصل، وحسناً فعلت فمن المتعذر الحديث عن شاعرٍ كبيرٍ، وعلّامة لغوي متميّز هو الدكتور محمد حسين آل ياسين الذي يشغل الآن منصب رئيس المجمع العلمي العراقي .
سنقف على محطات في هذه المحاضرة الشائقة.
العربية أول اللغات :
قال الدكتور محمد حسين آل ياسين :
لقد شرَّف الله اللغة العربية بالقرآن وشرَّفها بأنَّها اللغة الأولى في مفتتح النشأة الإنسانية.
الله بعد خلقه لآدم سماه آدم، والقصة موجودة في بطون الكتب السماوية، وكل أمم الأرض تعرف هذا الاسم وتطلقه على مواليدها فإذا سألتهم عن معنى الاسم لا يعرفون معناه، وتكتب وتنطق نطقاً توقيفياً لكن في العربية كلمة (آدم) على وزن( أفعل) وأصلها همزتان.
ويعني آدم : الأسمر، شديد السمرة، وأقل من السواد أما حواء فهي السوداء (فجعله غثاءً أحوى).
وأضاف: أوجد الخالق اللغة العربية مع الإنسان الأول واستمر هذا التكريم لها، وهي أغنى لغات البشر، والإعراب ضَمِنَ من الحرية في وضع الجملة ونظامها ما لا وجود له في اللغات الأخرى،وبسبب هذا الغنى كان عروضها لا نظير له، وهي تستوعب الموسيقى الشعرية.


وأردف: لولا الغنى اللغوي، هل كان القرآن الكريم معجزاً دون سائر اللغات الأخرى.
فالتوراة قبل التحريف لم تكن معجزةً، وكذلك الإنجيل، والكنزا ربا.
غنى العربية جعل القرآن معجزةً ولولاها ما كان القرآن معجزةً.
تأثير العربية على اللغات المجاورة :
وبشأن تأثير اللغة العربية على اللغات الأخرى المجاورة لها قال آل ياسين :
جاورت العربية سواها من اللغات الرومية والفارسية والهندية والسريانية والحبشية وهنا يشتغل قانون حتمي هو الاقتراض المتبادل بين اللغات المتجاورة على الأرض فأعطت وأخذت لكن يعتمد مقدار الإقراض والاقتراض على غنى وفقر اللغتين فمن يحتاج أكثر يقترض أكثر، والغني يكون اقتراضه أقل وحسب الضرورات.
العربية أقرضت مَنْ جاورها من اللغات ما يصل إلى خمسين في المئة من لغاتها.
في اللغات الفارسية، أو الأوردية، أو التركية تجد الكلمات التي تنتمي إلى أصول عربية تتجاوز الخمسين بالمئة وقد تصل إلى السبعين بالمئة.
وأضاف: تقف في محطة بنزين في إيران فتقرأ هذه اللافتة: (استعمال دخانيات أكيداً ممنوع أست) فالجملة كلها عربية إلا كلمة (أست) الفارسية.
ومع انتفاضة شاه إيران اللغوية دعا المجمعات العلمية إلى استخدام مفردات الـ(تخت قمشيد)، و(الشاهنامة)، ولم يستطيعوا أن يجدوا ما يعوض المفردات العربية إلا قليلاً لكن ما اقترضته العربية من غيرها لا يرتفع عن نصف واحد في المئة من عدد مفردات العربية.
التعريب التلقائي
وعن تهمة وجود كلمات أعجمية في اللغة العربية قال آل ياسين : اللغة العربية حساسة في ما يدخل إليها من مفردات غيرها، ولا تقبل ذلك بسهولة حتى مع اضرارها، فتغير في ذلك وتبدل وتعدل وتضيف، حتى تكون وزناً وصوتاً ودلالةً بالخصائص والصفات.
خذ مثلاً لفظة (آب ريجة) اسم آنية فقد أعاد اللسان العربي تكوينها ونحتها لتصبح (إبريق) على وزن إحليل وإزميل فتشترط العربية أن تكون على وزن تعرفه، ووضعت حرف (ق) بدل الجيم (المعطشة) فكأنَّ كلمة (إبريق) توحي بالبرق، وكأنَّ معدن الإناء البرق.
هذا العمل يُسمى بالتعريب، وهو مصطلح دقيق يكون تلقائياً كما اقترضته العربية في اسم (إبريق)، ولم تقم بذلك لجنة إنَّما الحس العربي والذوق العربي قام بذلك وهو كفيل أن يستعمل الكلمة بالذوق العربي.
طائر وافد اسمه (باشُق) صار (باشِق)، و(دَستور) أي كتابة القانون صارت (دُستور) على وزن (فُعلول)، وعُصفور.
التعريب يختلف باختلاف الكلمة.
التعريب التلقائي تقوم به اللغة دون اصطناع وتكلف، وهناك تعريب ممتد إلى اليوم تقوم به المجمعات العربية اللغوية بمختلف مدارسها في مجالات الصناعات والفكر والهندسة فتقوم المجمعات اللغوية باخضاع هذه المصطلحات إلى التعريب فتحاول أن تجد المقابل العربي الدال على المعنى الذي يريده المصطلح فمثلا تعريب المصطلح الطبي لا اتفاق حالياً على صيغة معينةٍ بين المجامع العلمية .
ونوَّه إلى أنَّ قول القائل: إنَّ في القرآن الكريم كلمات أجنبية غير دقيق فليس في القرآن إلا العربية حتى في الكلمات التي اقترضت من اللغات الأخرى.
معنى الترجمة :
ومضى آل ياسين قائلاً : أما الترجمة فهي النقل من لغةٍ إلى لغةٍ أخرى، وأصل ترجم أي ذكر السيرة، وهي الايضاح والبيان وأنَّ تراجم الشعراء مستعملة كثيراً.
يقول عَوف بن مُحـلِّـم الخُزاعي:
إنَّ الثمانين وبُلِّـغْـتَـها
قد أحوجتْ سمعي إلى ترجُمانْ
يقول الشاعر :إنَّ سنواته الثمانين جعلته ثقيل السمع، وفي حاجة لمن يُسمعه الكلام.
(وبُـلِّـغْـتَها) (بفتح التاء) دعاء للمخاطَب أن يبلغ ما بلغت أنا من الثمانين،فاختصر الشاعر بالتاء المفتوحة الدعاء للمخاطَب.
فمعنى الترجمة عام خصصه الاستعمال فكلمة (المأتم) تعني اجتماع النساء في الفرح والحزن لكنَّ الاستعمال خصصه باجتماعهنَّ في العزاء، كذلك كلمة (الصريم) التي تعني القطيع فتطلق على الليل يقطع النهار، وتطلق على النهار يقطع الليل.
هناك ادَّعاء أنَّ العربية قاصرة على أن تستوعب العلم الجديد، والعكس هو الصحيح فأين يتمثل قصورها ؟
متى بدأت الترجمة؟
يجيب آل ياسين : لو عدنا إلى التاريخ نجد هناك نصائح طبية طلب معاوية من طبيبه أن يترجمها، وكذلك فعل مروان بن الحكم فقد طلب من طبيبه هارون الاسكندراني أن يترجم له كتابه، لكنَّه احتفظ به في خزانته ظناً منه أنَّ الفصل الخاص بالتشريح سيثير العامة، لكنَّ عمر بن عبد العزيز أطلق الكتاب وقال: بإنَّ العلم للجميع.
أضاف :استمرت الترجمات حتى عصر الرشيد فصارت الترجمة أوسع من العصر الأموي.
لم تتخذ الترجمة طابعاً مؤسساتياً إلا في عصر المأمون فعني بالأساتذة والمترجمين، وطلب السفر إلى البلدان الأخرى، والتوسع في المعارف والعلوم والاختصاصات وبذل المال في سبيل ذلك فصارت لدينا مكتبات عامة في الفلسفة والعلوم والطب، وظهر أنَّ قسماً من المترجمين المتمكنين من العربية كانوا يعربون مصطلحاتهم أثناء الترجمة في دار الحكمة.
كانت الترجمة إلى اللغة العربية عالية المستوى، دقيقة النقل، وناجحة.
هناك مراحل أدنى فيكون النقل ليس دقيقاً من الكتاب الأجنبي فتكون هفوات وسقطات.
الترجمة واسعة جداً وعبرت الكتب العلمية إلى الأدبية.


وتابع: ابن المقفع ترجم كتاب (كليلة ودمنة) من الفارسية المترجم عن اللغة الهندية.
كتاب (ألف ليلة وليلة) حكايات فارسية وهندية وعربية، والأسماء فيه ليست عربية.
أين المشكلة ؟
يقول: المشكلة تتمثل في غنى العربية قياساً إلى غيرها فنقل الأدب أو الفكر أو العلم من لغةٍ أجنبيةٍ إلى اللغة العربية يكون أسهل كثيراً من نقله من العربية إلى غيرها؛ لأنَّك حين تنقل نصاً من لغة أقل غنىً إلى لغةٍ غنيةٍ تنفتح الآفاق أمامك.
العكس ليس صحيحاً.
أضاف: حين ترجم بعض الشعر العربي إلى اللغات الأخرى فقد الكثير من خصائصه، ففقدَ دهشته ولم يعد مؤثراً.
يحضرني مثلٌ واضحٌ هو شعر (الجواهري) المؤثر الساحر في بعض الأحيان فقد وقع الجواهري عندما كان في فرنسا بحب فتاةٍ تُدعى(أنيت)، ولم تكن تهتم به فقيل لها: إنَّه شاعر العرب الأكبر فطلبت بعض قصائده.
يقول الناقل: سهرنا لترجمة بعض قصائده، وبرغم كل ما بذلناه من جهد إلا أنَّنا حين عرضناه على أنيت أبدت دهشتها من وصفنا للجواهري بأنَّه شاعر العرب الأكبر، وتساءلت : أين ما يدل على ذلك ؟
وضرب مثلاً آخر فقال : لي صديق نظر إلى ديوان لي مترجم إلى اللغة الإنكليزية فقال : هذا ليس لك !
فالترجمة هنا أشبه بمن يحاول وضع شيءٍ كبيرٍ في علبةٍ صغيرةٍ.
فالنص الإبداعي عالي المستوى بالعربية الغنية ينقل إلى لغة غير غنية فلا يبقى منه ما يبقى، وهذا سبب ما نراه من سذاجة النصوص بعد ترجمتها؛ فالشعر يعتمد على الانزياح، والضربة، واللمحة، وهذه لا تنقل.
كيف نترجم جملة (أقام الدنيا وأقعدها) التي تدل على أنَّه أثار الناس فإذا ترجمت بمعناها الحرفي تفقد قيمتها.
الشاعر أحمد رامي يقول في قصيدةٍ له :
في هوى بابل و حب ( النواسي)
جئت أسري على هدى إحساسي
أملأ العين من مباهج بغداد
و أسعى الى حمى العباس
و أرى دجلة التي فاض بالخير
عليها و ماج بالإيناس
و رفاقاً إلى فؤادي أحباء
على العين ودهم و الراس
جمعتني بهم دياري فكانوا
في مراح الصبا أعز الناس
فكيف نترجم شطر البيت (على العين ودهم والراس)؟
إنَّ اللغة العربية قادرة على الإيحاء بمعانٍ لم تنطق كما يقال : نقرأ ما بين السطور
هناك مصطلح عند المترجمين هو (خيانة النص) أي أنَّ المترجم يتجاوز النص إلى ما لايريده الكاتب، وأنا أُفضل مصطلح (التصرف).
مثال على أخطاء الترجمة
وحكى آل ياسين ما حصل معه في ترجمة أشعاره إلى الإنكليزية فقال :
ترجم لي الدكتور سعد الحسني ديواناً إلى اللغة الإنكليزية سنة ٢٠١٠م وكان هذان البيتان مما ترجمهما:
أنا لولا رؤاه لم أكنِ
هو لولا هواي لم يكنِ
قصة الدور باطلاً صدقت
فكلانا بها سناء سنِ
ومصطلح (الدور) عند المناطقة يعني أن يكون أحد الشيئين سبباً في وجود الآخر، وهو باطل لكن في حالتي صدق الدور فكلانا سناء سنِ أي ضياء مضيء، لكنَّ المترجم ظن أنَّ كلمة (سنِ) تعني السنين فترجمها هكذا فانصرف المعنى إلى غير ما أُريد !
(ترجم شعر الدكتور محمد حسن آل ياسين في ثلاثة كتب ثلاثة من أفضل مترجمي العراق هم الدكتور سعد الحسني، والدكتور هيثم الزبيدي، والدكتور عبد الواحد محمد).
إنَّ الشعر لعبة لغوية فانتازية خاصة يجب أن تدرك بالنص لذا نجح الدكتور هيثم الزبيدي في ترجمة شعري لأنه الأقدر على الجمع بين الروح والنص.
ندرة الدهشة أمام نص مترجم :
وبشأن فقدان الشعر لعنصر الدهشة قال آل ياسين : في اللغة العربية طاقة في الإدهاش، وهذه لا يمكن نقلها.
المتنبيّ تصدى لنقل شعره الكثير لكنه حين نقل إلى اللغات الأخرى لم يعد متنبيّاً كذلك الشاعر محمد مهدي الجواهري !
كبار الشعراء المبهرين لا نرى في نصوصهم المترجمة دهشةً فمَنْ ينقل لا يدهش، ويشمل ذلك حتى شكسبير العظيم فليس مدهشاً في ما ترجم عنه مع أنَّ هناك إحصائيات بشأن أكثر الأسماء تداولاً في العالم فكانت النتيجة : المسيح أولاً ثمَّ شكسبير ثانياً !
من النادر أن ندهش أمام نص مترجم لكننا نستطيع أن نتخيل إدهاشه في لغته فربما قد عبر عنه بطريقةٍ مدهشة !
الشاعر خسرو الجاف الذي يعرف اللغتين العربية والكردية يقول: إنَّه حين يقرأ نصوصه المترجمة من اللغة الكردية إلى اللغة العربية : إنَّ الترجمة قبلةٌ من وراء الزجاج !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى