قراءة في قصيدة: تابوت القيامة للشاعر المرحوم فيصل قرقطي
مصطفى معروفي | المغرب
قراءة الشعر عمل عسير، والكاتب يتهيبها، فقراءة الشعر لا يوازيها صعوبة إلا قوله أو كتابته، الشاعر نفسه لا يستطيع أن يقرأ شعره قراءة مقنعة، قراءة جامعة مانعة، فما بالك إذا كان هذا القاريء هو شخص آخر، فكما يستعصي الشعر على الشاعر قرضا كذلك تكون قراءته مستعصية، فالفرزدق مثلا كان يقول: “يمر علي وقت لقلع ضرس أهون علي فيه من قرض بيت شعر”، والمفضل الضبي على علو قامته في الشعر رواية ودراية كان يتهيبه، إن الشعر صعب قولاً وهو أصعب قراءةً، لذا تبقى كل قراءة له هي عبارة عن مقاربة أو مناولة قد تمس بعض جوانبه لكنها بكل تأكيد لن تتمكن من الإحاطة بمضمونه أو على الأصح بمضامينه .
أجمل ما في قصيدة الشاعر الفلسطيني فيصل القرقطي – وهو شاعر متمكن من خلال قصيدته هذه – هو انفتاحها على كل الاحتمالات، قابلة لكل تأويل، إنها بتعبير آخر قصيدة مركبة من أصوات متعددة، كل صوت فيها يشي بمضمون ما، وأكاد أقول إن كل قراءة جديدة لها ستكتشف شيئا جديدا فيها. وبالتالي فهي ليست قابلة لتفسير أو شرح، الشرح يقتل الشعر والتفسير يودي به.
النبرة الغالبة على القصيدة هي نبرة الرفض، الشاعر يعيش واقعا أليما، وهو داخل في صراع معه، الشاعر يريد تغيير هذا الواقع، والواقع يأبى أن يسير وفق رغبة الشاعر،
لنستمع إليه يقول:
حرسٌ وراءَ البابِ
متراسُ شوكٍ في الدروبْ
عرباتُ موتٍ في الطريقِ إلى الإيابْ
يتبدى الواقع المأساوي هنا بكل مكوناته، واقع لا يبعث إلا على شيئين اثنين هما:
1- الارتكاس والنكوص واللجوء إلى المسالمة والمهادنة.
2- المواجهة وعدم الرضوخ ومن ثم السعي إلى تغيير الواقع من واقع سيء إلى واقع أفضل.
الشاعر اختار خيار المواجهة، والحقيقة أن الشاعر الأصيل لا يميل إلى مهادنة الواقع الرديء، وإنما يعمل بكل ما أوتي من قوة على تغييره نحو الأفضل.
يسرد علينا الشاعر بعض معاناته، ويسعى من وراء من ذلك لتبرير موقفه المناويء له، يسرد علينا هذه المعاناة بعبارة حزينة تدعو القاريء إلى التعاطف معه وإلى مساندته في كفاحه ضده:
حرسٌ وراءَ البابِ
يمنعني العبور
عد
فأعودُ من ثقلِ الزنازينِ التي تتشفَّعُ
ومصبراً عيْنَاً
لا حسرةً مِنِّي إليهِ
بل حسرةً مِنِّي عليه
وعُدْ كما كانَتْ جِرارُ الأولينَ
تنامُ في طَقْسِ الظلامِ
هكذا يبدو الواقع المأساوي للشاعر، فالجند الطغاة يتجمهرون على نوافذ روحه، ويهتكون وصية الأبناء، والقهوة تنعس على الشفاه الباكية، لكنه أمام هذا كله يبقى دائما متسلحا بالأمل ويحلم بالغد الأفضل، يقول:
كنْتُ الفلسطينيَّ منهزماً ومنتصراً بإنْسَانيَّتي والأضرحَةْ
الذات الشاعرة تحمل متناقضين معا في لحظة واحدة هما النصر والهزيمة، الهزيمة هنا ليست مبعث إحباط وتخاذل، وليست هزيمة أبدية، كما أن النصر هنا إحساس معنوي، نابع من تصميم الشاعر على المواجهة حتى النهاية، نهاية سيكون النصر فيها حليفه بكل تأكيد، لأنه مليء بالحب لأرضه: “أحبك ما استطعت من الحياة ..الخ.”
شكلا تجمع القصيدة كل مقومات الإبداع، فهي حافلة بانزياحات كثيرة، تكسبها قدرة على بعث الدهشة لدى القاريء، كما أنها مكثفة في
غالبيتها، أقول في غالبيتها لأن بعض المقاطع أحيانا يخونها التكثيف، فتنساق في الانسياب، هكذا المقطع:
“وهنا جراحُ الكادحينَ
هنا دموعُ الفاتحينَ
هنا هيامُ العاشقينَ
هنا سبايا أدْمَنَتْ غزلَ الشبابِ”
لكن هذه الانسيابية هي عفوية، وتأتي كآلية لتخفيف وطأة التكثيف الذي قد يدفع بالقاريء إلى نوع من التأفف والملل أحيانا.
والقاريء للقصيدة سرعان ما يلاحظ لجوء الشاعر إلى الإيحاء، وعدم الارتكان إلى المباشرة والتقريرية، كهذا المقطع:
“ترابٌ جائعٌ للسطْوِ
أحجارٌ تؤرِّخُ مبتَدَاها
ترابٌ جارحٌ في الدربِ
أحجارٌ تؤرِّخُ مُنْتَهاها
هل مَرَّتْ براكينُ العذارى من هنا”
بقي أن نشير إلى أن القصيدة تجري على تفعيلة بحر الكامل، والذي فيه إمكانية تعطي الشاعر مقدارا كبيرا من الحرية في التعبير عما يخالجه، وهذه الإمكانية تتمثل في “الإضمار”، وهو زحاف يدخل على التفعيلة “متفاعلن” فتتحول إلى “مستفعلن”.
هذا انطباع أولي على قصيدة: “تابوت القيامة” للشاعر فيصل القرقطي، وهو إطلالة سريعة عليها. أرجو أن أكون قد وفقت في ملامستها شيئا ما ولو من بعيد.
…..
الشاعر فيصل قرقطي ولد سنة 1954 و توفي سنة 2012 .