العلمانيون والثقافة الإسلامية
محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية
تُعتبر قضيَّة علاقة “العلمانية” بالإسلام أو بالثقافة الإسلامية من القضايا الشائكة التي كثر فيها الجدل، وزاد فيها القول، وتعدَّد بها الرأي، حول من يراها منبرًا للتنوير، وسبيلًا للتطوُّر والتحضُّر، ونافذة على الانفتاح، بينما يراها آخرون من المتدينين أنها منبرٌ من منابر الكفر، ودعوة تُفضي إلى الإلحاد، وتعاليم تتناقض مع الإسلام وتعارضه، وهو ما يرفضه أصحاب هذا الاتجاه قائلين أنهم مؤمنون ويرفضون المزايدة على إيمانهم وعقيدتهم، ولسنا هنا بصدد تكفير هؤلاء أو المزايدة على أولئك، ولكنَّنا في سبيل النظر في بعض الوقائع التي نراها على الأرض، ونبحث كيف نشأت تلك الدعوات، وما تفاصيل تلك الشعارات، وطبيعة كل ما تدعو إليه ، وحقيقة ما تعتمد عليه، حتى نتعرَّف على حقيقة الفكر العلماني وأصله وحقيقة علاقته بالإسلام أو بالثقافة الإسلامية.
والعلمانية هي المذهب الفكري القائم على فصل الدولة ومؤسساتها وقوانينها عن السلطة الدينية وهي في ذاتها ليست معارضةً للدين وتعاليمه، ولا ترفض شعاراته ولا تلغي شعائره، بل تقف أغلب الأحيان على الحياد منه، ولا تتدخَّل في بنوده وتشريعاته، وإنما تكون علاقتها بالإسلام قائمة على أسلوب تطبيق مبادئها التي تختلف من شخص إلى شخص، وهي تكفل كافة الحقوق والحريات والقوانين المدنية. وقد نشأت العلمانية في ثوبها الحديث أولا في أوربا التي كانت غارقة آنذاك تحت تسلُّطٍ كنسي مستبد، وحكم ديني مطلق، منح السطلة المطلقة لرجال الدين، فضاق الأهالي ذرعًا بتلك السلطة التي تقيِّد حرِّيَّاتهم، وتضيِّقُ عليهم حياتهم، وبدأت دعوات تظهر بالتخلص من تلك السلطة الدينية، ودعوا إلى استقلال الدولة من سلطة الكنيسة الغربية، التي تقف عائقًا أمام حرَّيتهم، وتحول دون تحقيق طوحاتهم، وقد نجحوا في ذلك فانتشرت العلمانية انتشارًا واسعًا وتقلَّص سلطان الكنيسة وصار قاصرًا فقط على الجوانب الدينية والروحية.
ومع اتصال الغرب بالشرق وانتقال عددٍ من أبناء الشرق للدراسة في الجامعات الغربية، وتأثُّرهم بتلك الأفكار المستحدثة في البقاع الأوربية – وكانت البلاد العربية آنذاك واقعة في مستنقع الجهل والتخلف لأسباب اقتصادية وسياسية – نجد أنَّ فئةً منهم تأثَّرت بتلك الأفكار، وآمنت بتلك الدعوات. وانبهروا بما وصل إليه الغرب من رقي وتحضر، وما بلغه من ازدهار وتطوُّر، ورأوا أن للعلمانية الحديثة التي نجحت في فصل الدين عن الدولة فضلًا في ذلك الازدهار الذي لا يرونه في المجتمعات العربية، فانبروا على الفور إثر عودتهم ليحاولوا تطبيق هذا الفكر في بلادهم، وينشروا هذا المبدأ في مجتمعاتهم. وانطلقوا يدعون إلى التحرر من الانغلاق، وإلى التطلع إلى تجربة الغرب في الانفتاح، وقد حققوا بالفعل بعض الصدى في دعواتهم، وتأثر العديد بأفكارهم، ولكنَّهم مع أسف وجدوا أنفسهم في خلاف بين المجتمعات الشرقية والغربية يحول دون تحقيق غايتهم، وتمنعهم من إحراز مرادهم. فوجدوا دينًا غير الدين، وأُسسًا أخلاقية غير تلك تلك الأسس، وتقاليد تختلف عن تلك التقاليد، فوجدوا أنفسهم أمام تصادمٍ عنيف مع عدَّةِ قيم أخلاقية واجتماعية ودينية.
إنَّ تقليد تجارب الغرب في مجتمعاتنا الشرقية تقليدًا تامًا تجربةٌ أثبتت فشلها، واتَّضح عدم جدواها، بسبب الخلاف الديني والمجتمعي في نسيج المجتمعات المختلفة، مما يجعل ما يصلح هناك لا يصلح هنا والعكس صحيح، وإنما ما يصلح هو دراسة تجارب الأمم الأخرى والنظر في مبائدها، والتمعُّن في فوائدها وخصائها، والتفكُّر في دعواتها، فنقتبس منها ما يتَّفق مع مجتمعنا، ويتوافق مع أحوالنا، ونرجئ ما قد يعارض أخلاقنا، أو يتصادَم مع ديينا، لا أن نحاكيها محاكاةً تامة. فنرى أن الإسلام قد سبق أولئك في وضع الأسس التي تُبنى عليها المجتمعات من قيم أخلاقية، ومبادئ اجتماعية، بل ودعا إلى الحرية والمساواة والحقوق وسنَّن لمجتمعاته قوانينا تحدِّد علاقات الناس ببضعهم بعضًا، وتوضِّح ما على المرء من حقوق، وما عليه من واجبات، وفرض تشريعات واضحة في الحقوق والحدود والمواريث والأحوال الشخصية.
لم تكن أزمة العلمانية في البلاد العربية في شعاراتها الداعية إلى الحرية والانفتاح، ولا في دعواتها المتمثلة في التطور والإصلاح، فإنَّ الإسلام لا يعترض على هذا ولكن كانت أزمتها في أسلوب تطبيقها من قبل دعاتها، و افتقارهم إلى منهج موحَّدٍ ثابتٍ بين مناصريها، فكم من مجرمٍ سفك دمًا باسم الدين، وكم من مجرمٍ ارتكب جرمًا باسم الوطن، وكم من كذوبٍ استعمل دعاوي الإصلاح من أجل أهدافه الشخصية، وطموحاته الفردية، مبررين بذلك جرائمهم، ومصدِّقين كذلك على سوء أفعالهم، فارتكبوا الرذيلة باسم الفضيلة، فكانوا من الخاسرين.
وما لبث أن وجد العلمانيون أنفسهم أمام قيمٍ دينية يتعارض بعضها مع أفكارهم، وتتناقض مع جزء من معتقداتهم، لهذا انبرى بعضهم لمحاربة ذلك الحائل الذي يحول دون تنفيذ مشروعهم، ونشر أفكارهم ومبادئهم، يظنُّون أنَّ الإسلام حائلٌ بينهم وبين أهدافهم، فنجد مثلا أن الإسلام مثلا قد حرم التعري، ومنع الخمر، وأبى الربا، بينما يرى العلمانيون أن تحريم تلك الأمور يتعارض مع دعواتهم إلى الحرية، وأن للمرء حرِّيَّته أن يختار ما يريد لنفسه، ونادوا بضرورة حصر الدين في البيوت والمساجد والعبادات، وإخراجه من قوانين الدولة والمعاملات. وما لبثوا أن أظهروا تبرُّمَهم من بعض مبادئ الدين وقوانيه، فاعترضوا على أحكام المواريث، وامتعضوا من بعض أحكام الحدود كحد الردة الذي يتعارض مع دعواتهم، ولم يجدوا من أجل تحقيق غايتهم، وإحراز ما يتمنَّون من غايتهم، إلا ان ينزعوا المجتمعات الإسلامية من تراثها الإسلامي، فحاربوا التدين بكل أشكاله، وأهملوا الدين في مبادئهم وأحكامهم، لأنه من وجهة نظرهم يتعارض مع دعواتهم، فإذا نُزع الدين من تلك المجتمعات سهل عليهم تحقيق غايتهم، وتحقَّق لهم ما يريدون من أهدافهم، لذا نجدهم بكل اندفاع يؤيدون جريمة الشذوذ والمثلية، بدعوى أنها حرية شخصية، وبعضهم أيَّد التعرِّي والسُّفور، ودعا المرأة للتبرج والفجور، ومنهم من دعا إلى إلغاء القوانين التي تعاقب على شرب الخمر، ومنهم فريق زعم أن أحكام الإسلام في الحدود والمواريث قديمة وجب تغييرها، ولا تتناسب مع عصورها، ولا تتماشى مع الحداثة ومصلحة الفرد، وكأنَّ قوانين الإسلام كانت مخصَّصة لعصر دون بقية العصور، ولفئةٍ غير بقية الفئات، ومنهم من طعن في بعض فرائضه كالحجاب وتأوَّل الآية الدالة عليه، وأغفل الأحاديث المثبتة له، ومنهم من دعا إلى الحرية بشكل مطلق دون اعتبار للدين أو للأخلاق، ومن شأن الحرية المطلقة غير المقيدة بإطار ديني وأخلاقي أن تفسد المجتمع ولا تصلحه، وتضر بعناصره ولا تنفعه، وكلها دعوات علمانية تتعارض مع الإسلام وقيمه، وتجعل لهذا اللون من العلمانية خصمًا للإسلام وشرائعه، وإن تحققت تلك الدعوات فإن الأمة لن تنسلخ من عقيدتها فحسب، بل ستنتشر الرذيلة، وتستشري الجريمة، وتتحطم كل القيم الأخلاقية في المجتمع إذا ما نُزع منها الدين.
إنَّ الدين بما فيه من قوانين وأسس، وأخلاق وحكم، هو الحائل الذي يحول دون انتشار الجريمة، وهو الذي يدفع المجتمع إلى تطهير نفسه، وإصلاح ذاته، بما يبثه في الروح من عقيدة، وما يزرعه في النفوس من إيمان، فيكون تديُّن المرء هو الذي يحول بينه وبين أن يرتكب جرما، أو أن يصنع ذنبا. فإذا نزع هذا الرداء لم يجد أولئك حائلا يمنعهم من إرتكاب الرذيلة، وافتعال الجريمة، فإذا انتشرت المفسدة في أُمَّةٍ انقطعت بها سبل الإصلاح، وانهارت فيها منظومة الأخلاق، ولم ينجح أحد في تحقيق أهدافه من التطوِّر العلمي والثقافي والفكري إذا انتشرت فيه تلك الأمراض.
ولم يكتف هؤلاء الملاحدة الذين اتخذوا من العلمانية ستارًا لمحاربة الإسلام ومحاولة إقصائه من المجتمع، بدعواهم الهدامة التي تتعارض مع الدين الحنيف، وتخالف نصوص الشرع القويم، بل إنهم لجؤوا في إطار مشروعهم لمحاربة التدين إلى محاربة الإسلام في تراثه، والطعن في رموزه وتاريخه، فنراهم يطعنون في صحيح البخاري ومسلم، ويشكِّكون في قادة الأمة وعلمائها، ويطعنون في تراثها وتاريخها، بل يقومون بتصيُّد النكبات التي حدثت في التاريخ الإسلامي ويحاولون نشرها كفتنةٍ علي ومعاوية – رضوان الله عليهما – ، وحادثة ضرب الكعبة، بغية تشويه الإسلام في تاريخه، والطعن في تراثه وقادته، ولم يكتفِ هؤلاء بذلك، بل إنَّهم طعنوا حتى في صحابة النبي ﷺ فششكوا في نزاهتهم، وطعنوا في عدالتهم، وقاموا بترويج بعض القصص المسيئة لهم استنادًا إلى روايات ضعيفة، وأخبار مغلوطة، حتى وإن كُتب بعضها في كتب التاريخ، وأتت بها بعض الأخبار، فقد سبق الحديث عن كذب بعض الرواة فيما ادعوا، وعدم تدقيق بعض قدامى المؤرخين فيما كتبوا، وإن صح بعضها فالصحابة الكرام بشر غير معصومين، ومن الخطأ غير منزهين، وقد يرد منهم الخطأ أحيانا كونهم بشرا فلا يقلِّل هذا من منزلتهم، ولا يطعن في مكانتهم. ومنهم من تعدَّى على خالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان وحتى أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – ونشروا روايات ليست دقيقة عنهم، وبالغوا وأكثروا وطعنوا في قدرهم. ومن شأن تلك الدعوات أن تطعن في صميم الإسلام نفسه، وتشكِّك فيه وتبطله وتهدمُ أصله. فإذا انتشرت أدخلت الناس في نقاشات عقيمة الهدف، وحالات جدال عديمة المعنى، فانصرفوا عن التدين بعدما يطعن مثلهم الأعلى، وتتحطَّم قِيمهم الأسمى، ويصدمون في تراثهم وقدواتهم فينهدم الدين، والسؤال الجدير بالذكر: ما الفائدة التي ستتحقق للعلمانيين في سبيل دعواتهم إلى الحرية إذا ما نجحوا في تشويه تراث أمَّتهم، ونزعها من تاريخها، والطعن والتشكيك في عقيدتها؟ ما علاقة تشويهم للتراث الإسلامي بدعواتهم إلى الحرية والتحرر؟ وكيف سيخدمهم تشويه التراث الإسلامي في سبيل دعواتهم تلك؟
وقد بذل علماء الأمة دورًا في الرد على تلك الافتراءات، والتصدِّي لتلك المزاعم والدعوات، التي تهدف إلى محو الدين وتحطيم أركانه، والخروج على تعالميه ومبادئه، للتأكيد على سلامة الصحيحين وما فيهما من أحاديث السنة المطهرة، وردُّوا على من ينكر بعض فرائضه كالحجاب الذي فرضه الله على المرأة المسلمة، وردوا على مزاعمهم حول الحدود والمواريث، وأكدوا أن ما أتى به الله ورسوله لا يمكن مناقشته، وتستحيل بكل الطرق مراجعته، ذاكرين حديث النبي ﷺ “من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد” وهو نهي صريح من النبي ﷺ برفض أي دعوة لتغيير شيء من شرع الله، إذ إن انحسار التدين وانهدام الدين لن يخدم أهداف العلمانية المعتدلة التي تستهدف الإصلاح، وتدعو إلى الانفتاح، وتحرِّضُ على الحرية، وتحضُّ على الحقوق، فالعلمانية المعتدلة لن تحقِّقَ شيئًا من أهدافها في سبيل رقي المجتمع وتطوُّره، وانتشار العلم وتقدُّمه، إذا انتشرت الرذيلة، وشاع الفسق، واستحكم الجهل، واستخفَّ الناس بانتهاك محارم الله، فالدين ركنٌ من أركان المجتمع لا يصحُّ إلا بتمامه، ولا ينصلح إلا بصلاح أمره، فهو السياج المنيع الذي يدعو إلى الأخلاق والفضيلة، ويدعو إلى القيم والخصال النبيلة، ويضمن الحقوق والمساواة والحريات، ويوضِّح معالم الحقوق والواجبات، فإن دعوات الحرية والانفتاح إن لم يتم تحديدُ معالمهما بإطار من الدين صارت مفسدةً لا نجاة من شرورها، وانحطاطًا لا فكاك من براثنه.
إن العلمانية إذا نجحت في العالم الغربي، ونجحت في تأسيس مجتمعات قوية ناضجة فلأنها لم تتعارض مع قيمهم الدينية وتاريخهم، ولم تتطعن في قادتهم ورموزهم، ولم تطلب من أنصارها في الغرب نزع هويَّتهم المسيحية على الإطلاق، بل إنَّنا نجد بعض الدول الأوربية العلمانية تضعُ على أعلامها الصليب كعلامة دينية مقدَّسة لديهم، لا يرون هذا يتعارض مع علمانيتهم، ولا يقف حائلًا دون مشاريعهم، فقد تركوا الخوض في المسائل الدينية وتفرَّغوا إلى الأمور الدنيوية وشؤونها، وأخذوا بأسباب العلم والتطوُّر والحداثة والاختراعات والفكر، بينما فزع العلمانيون في البلاد العربية إلى الطعن في التراث، والتشكيك في فرائض الدين، والنيل من صحابة الرسول ﷺ، والخوض في صحيح البخاري ومسلم، وتشويه التاريخ الإسلامي، ونزع الأمة من تراثها الإسلامي بذريعة أنَّه يتعارض مع أهدافهم، بينما لم يقدِّموا مشروعًا واحدًا فيه رؤية ثابتةً، أو نظرةً ثاقبةً، لمعالجة الفقر والبطالة وانتشار الجريمة والجهل والتطرُّف وتضاؤل الحريات والحقوق ولم يقدِّموا مشروعًا ذا ملامح واضحة حول الأخد بأسباب العلم والتطور والحداثة، وهنا يطرح السؤال نفسه الذي نختم به مقالنا: لماذا كفرت العلمانية بمبادئ العلمانية؟؟