رواد التواصل الاجتماعي.. سكان الكهف

د. محمد المجذوب | السودان

عندما كان “أفلاطون” في معرض شرح لنظريته عن عالم المثل (عالم الحقيقة)، والفرق بينه وبين عالم المحسوسات (عالم الزيف)، ضرب مثلاً في صورة قصة عرفت فيما بعد بأسطورة الكهف، مفادها ان الذين يعيشون في العالم المحسوس يشبهون أناسا يعيشون في كهف، ولدوا وتربوا فيه ولم يخرجوا منه أبدا، وهم مقيدون بسلاسل وأغلال تقيدهم داخل الكهف بحيث أن أنظارهم لا ترى إلا الحائط الداخلي للكهف ولا تستطيع رؤية مخرجه، وخارج هذا الكهف توجد أشياء مثل الأشجار والحيوانات والناس الذين يروحون ويجيئون أمام مدخل الكهف، وتعكس الشمس ظلال هذه الأشياء على جدران الكهف؛ لكن لا يعرف أهل الكهف أن ما يرونه مجرد ظلال وأخيلة، بل ينظرون إليها على أنها أشياء حقيقية، وذلك لأنهم لم يخرجوا من كهفهم أبدا ولم يعرفوا حقيقة الظلال، ولا تمكنهم أغلالهم من الالتفات إلى الوراء ومعرفة الأشياء الحقيقية التي تنعكس ظلالها على جدران الكهف ولا معرفة الشمس التي هي مصدر النور الذي يحدث الأخيلة. ويذهب “أفلاطون” إلى أن عالمنا المحسوس الذي نعيشه ما هو إلا ظلالا وأخيلة للمثل والحقائق الموجودة في عالم المثل، العالم العقلي العالي على المحسوسات.

نقتبس قصة هذه الأسطورة لـ”أفلاطون” لنقول إن سيطرة وسائل الاتصال والإعلام على الحياة المعاصرة تشبه الى حد كبير أسطورة الكهف عند “أفلاطون”، كونها تشكل مثالا جيدا ودالا على العالم الموازي الذي تصنعه وسائل الاتصال والإعلام الحديثة، فكهف “أفلاطون”، كما يفسره “أونيل” يخلق عالما وهميا زائفا يعتقد الناس في حقيقته وصدقه. ويلتف الناس حول وسائل الاتصال والإعلام ويظلون مقيدين أمامها تماما مثلما كان أهل الكهف مقيدين داخله، ولا ينقل الإعلام لهم سوى الصور، تماما مثلما كان ينظر أهل الكهف إلى الأخيلة.

اما وجه الشبه بين حالنا وحال سكان الكهف، هو أن شكل الكهف الذي يصفه “أفلاطون” يشبه الكاميرا، التي يعني اسمها الأصلي “الغرفة المظلمة”، تماماً كما الكهف الذي يصفه “أفلاطون” بممره الطويل الضيق الذي ينتهي بفتحة صغيرة، ويكاد أهل الكهف لا يشعرون بهذا الممر؛ وكذلك الكاميرا هي كهف مظلم لا يدخله الضوء إلا من فتحة صغيرة هي العدسة، ومن هنا وجه الشبه بين كهف “افلاطون” ووسائل الإعلام والاتصال المعاصرة.

وتتمثل الدلالة المعاصرة لأسطورة الكهف في أن المتلقي لم يعد يتمكن من معرفة أي شيء عن العالم الخارجي أو عن مجتمعه هو نفسه إلا من خلال وسائل الإعلام، ولم يعد يصدق شيئا إلا إذا تم نقله عن طريقها. فحتى الأحداث الواقعية التي يعيشها الإنسان لا يحيط بها ولا يستوعبها ولا يعطيها مصداقية إلا عبر وسائل الإعلام. فلم يعد هناك اتصال مباشر بين المتلقي ومجتمعه أو بينه وبين خبرات حقيقية معاشة، بل أصبح اتصاله بكل شيء متوسطا عن طريق وسائل الاتصال، التي هي في حقيقتها وسائل انفصال، ولا تعمل إلا في ظل انفصال حقيقي واقعي، بحيث تصبح هي وحدها الاتصال.

والحقيقة فإن كل وسائل الإعلام والاتصال تحيل الى واقع مصنوع ومتحيز من الوجود اذ لم يعد أحد ممن يعيش في كهف الإعلام متصلاً بالواقع الحقيقي بل هو في وسط يشير إلى الواقع الحقيقي فقط. وبذلك فان الإنسان المعاصر وقد رضي بالتغطية الإعلامية للأحداث من حوله من خلال (الصورة) المنقولة، فانه يستعيض بالمؤقت والعرضي الزائف والباطل عن الأصل، وسيادة العرضي على الأصل الحق تعد نهاية لأي عملية اتصالية تسعى نحو الحقيقة ونحو الوجود الأصلي؛ لما لم يعد هناك في الحاضر وجود للحقيقة، بل في زيف يشير فقط إلى العالم ويحيل إليه، فالمباشرة التي كان يتمتع بها الوجود في العالم أخلت مكانها للإحالة والوجود الإحالي بلغة “بودريار”.

والحقيقة ان الامر كذلك في ديانة الإعلام الحديث كونه يعمل الى رد كل شيء إلى إطلاقيه الصورة الحسية، فكل الاحداث والمعارف عن العالم وعن حياة الانسان تجد مرجعيتها النهائية في الصورة الملموسة والمشاهد الحسية والعلامات المادية، بعد ان لم تعد لوسائل الإعلام والاتصال الحديث، خيار اخر – متعال او انساني- يطفى على الوجود الدلالة او المعنى إلا إذا تم التعبير عنه بدالة مرجعية الصورة والصورة وحدها، ومن ثم لا يقبل لأي خبر او نبأ مصداقية إلا إذا تم نقله عن طريق الصورة، بعد ان لم يعد للشاهد والشهود والمشهود وطرق موثيقيتها مدخلاً في نقل الاخبار والانباء المعلومات وبذلك تلغى خبرة المشاهدة والشهادة والشهود لصالح توجهات وتحيزات غرفة التحرير والمونتاج والاخراج، كونه يلغى أي معنى قيمي او متعال لأي حدث إذا لم يمر بالصورة وتقنيات الصورة.

وغاية القول في هذا الجانب وكما يكشف “بودريار” عن جانب تراجيدي في تغطية الإعلام المعاصر، إذ يوضح أن الإعلام الحديث وسيلة للانفصال لا للاتصال، معارضاً الاعتقاد الشائع حول وسائل الإعلام إلى أنها وسائل اتصال ونقل للرسائل والمعلومات وأداة للشفافية، إلا أنها ليست كذلك، اذ يفترض الاتصال وجود حد أدنى من شروط التفاعل وهو علاقة تبادلية بين مرسل ومستقبل، بحيث يتبادل الطرفان الإرسال والاستقبال كما في الحوار بين شخصين؛ لكن وسائل الإعلام مرسلة فقط دون أن تكون مستقبلة لرسائل مماثلة للتي ترسلها، فمع وسائل الإعلام الحديثة نشهد علاقة اتصال ذات طرف واحد واتجاه واحد، وبالتالي فهي ليست علاقة اتصالية حقيقية.

وليس ما يسمى باستجابة الجمهور مما يرقى إلى أن يكون طرفا ثانيا لوسائل الإعلام أو شريكا حقيقيا في علاقة اتصالية تفاعلية، وما يقال عن تغذية مرتجعة تستقبلها وسائل الإعلام من الجمهور ليس إلا قياسا لتأثير الإعلام عليهم على شاكلة القياس السيكولوجي لردود الأفعال المسمى اختبار بافلوف، وحول عدم توافر الحالة الاتصالية الصحيحة في الإعلام وبعده الواحد يقول “بودريار”: “يجب أن يكون الخطاب قابلا للتبادل (بين أكثر من طرف) وللرد عليه كما هو الحال عادة مع النظرات والابتسامات. فهو لا يمكن أن يقاطع أو يجمع أو يعاد توزيعه.

بيد ان تكنولوجيا الإعلام تعد بمثابة النهاية لمشروع الرؤية المادية ذاتها. فاذا كان الفكر الغربي يلتف حول هدف أساسي وهو أن تكون العلامة قادرة على الإشارة إلى عمق المعنى وجديرة بتمثيله، سواء كانت هذه العلامة تصورا أو فكرة أو نظرية. أما في الحاضر فقد حلت الصورة محل أي علامة أخرى يمكن أن تعبر عن المعنى أو الواقع. فللصور قدرة فائقة على أن تحل محل الواقع، وهي بذلك تعلو على القدرة التمثيلية للتصور أو المفهوم. فإذا كان التمثيل يفترض أن العلامة القائمة بالتمثيل والواقع الذي تمثله مقتربان للغاية بحيث تكون العلامة انعكاسا للواقع، فإن المثيل الخداعي الذي هو المحاكاة، وهي العملية التي تقوم بها الصور، تقدم الواقع بأفضل مما هو عليه، أي تقدمه بصورة واقعية أكثر من التي هو عليها.

وعندئذ فإننا لا نملك الا النموذج الهدائي في عملية الاتصال كونه هو وحده ما يملك الحل إزاء جدلية الدال والمدلول باعتباره معيارية اتصال بين المرسل والوسيلة الاتصالية وملتقى الرسالة الإعلامية، لأنه لا يعد سائغاً النظر إلى أن الصورة الإعلامية كافية “كمرجعية” لذاتها او لغيرها كما فعلت وسائل الإعلام الحديثة، بل ان بناء “الموقف المسبق” المبني على المقصد الكلي للرسالة الإعلامية، يكون هو المرجعية النهائية للتأويل والتحليل والتحرير، وذلك كإجراء لتسهيل عملية الاتصال، حتى لا يصبح الإعلام عبارة عن أفعال منجَزَة من القائم بالإعلام يقصد بها أنماطاً من تأثير المتلقي فحسب، وبذلك تصبح مقاصد الرسالة الإعلامية إزاء مرجعية متعالية عليها مؤشرات حاسمة في عملية تحريرها، ومثّل قبولها او إلغاؤها او إلغاء لجزء معتبر منها.

باعتبار ان كل تحرير او مونتاج يتعارض مع مقاصد الهداية الدينية يعد تحريراً فاسداً، أما الاختيار من بين الاحتمالات الدلالية المتعددة للرسالة الإعلامية فينبغي أن يتجه على المعنى المناسب مع الواقع المراد ارساله، ما دام المعنى إنتاجاً لفعل اتصالي لا ينفك عن مقصد الرسالة الإعلامية، وتصبح وظيفة التلقي حينئذٍ هي السعي لاكتشاف مقصد الرسالة الإعلامية واعتباره محدداً للتحريرات المقبولة، من خلال تتبع مقصد الرسالة الإعلامية وفقه الواقع الحقيقي ووفق مقاصد الهداية الدينية كمعيارية نهائية، فالمعنى ينبغي النظر إليه في صلته بالمقصد المراد من الرسالة، وعندها يكون التحرير سمة أصيلة تربط الرسالة الإعلامية بمرسلها ومتلقيها، فرسالة الإعلامية إنجاز تواصلي واقعي وليس بنية مزيفة مبتورة عن سياقها التواصلي. فالمعنى المزيف غير موجود لأن المعنى غير متعلق بأوضاع الكلم المعلوماتي فحسب، ولكن بمقصد الرسالة الإعلامية وإرادتها، فهناك معيارية قيمية مسبقة تطبق على القصد الدلالي من مرسل الإعلام، كما إن الرسالة الإعلامية، لا يمكن فهم المقصود منها إلا بربطها بسياقها التداولي، كونه السياق الذي تحتل فيه المعايير القيمية المسبقة للقائم بالإعلام وللمتلقي مكاناً معتبراً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى