تطور الكتابة التاريخية في المشرق الإسلامي.. ” المؤرخ سيف بن معد الهروي ” نموذجاً
الدكتورة ولاء محمد محمود – كاتبة ومؤرخة من مصر
تنوعت الكتابة التاريخية عند المؤرخين المسلمين في القرنين السادس والسابع الهجريين، فلم تقتصر على كتابة التاريخ العام، بل ظهرت التواريخ المحلية وكتب التراجم والطبقات وكتب الخطط. ومن مؤرخي التاريخ الإسلامي المؤرخ سيفى الهروى المعاصر لحكم أسرة آل كرت في مدينة هراة؛ وهي واحدة من أشهر مدن الدولة الإسلامية في الشرق الإسلامي وتقع في خراسان (أفغانستان حاليا)، وقد قامت بها أسرة عهد (آل كرت) التي حكمت من سنة 643هـ /1245م، وحتى استيلاء تيمور لينك في سنة 783هـ /1381م.
أهتم الهروي بتدوين تاريخ الأسرة في عهد انتهى باستيلاء المغول على المدينة، وذلك فى كتابة “تاريخ نامه هراة”، الذى ترجع أهميته إلى أنه يمثل شاهد عيان ومعاصر لأحداث تلك الأسرة فى واحدة من أهم أماراتها وهي إمارة هراة، فهو يقدم رؤية محلية لأحداث التاريخ لهذه الدول مما يضيف إلى تاريخها في إيران بعداً محلياً، يوضح ملامح تاريخ هذه الفترة ويفسره؛ كما يضيف بعداً حضارياً إقليمياً في تلك الحقبة الزمنية المملؤة بالأحداث، ويُعد المؤلف من خيرة الكتب فى التاريخ مادة وترتيباً.
حياة الهروي: (681هـ / 1282م):
هو سيف بن محمد بن يعقوب الهروى أشتهر في عصرة بأسم سيفي وصار معروفاً فيما بعد بين المؤرخين باسم سيفى، ولد فى مدينة هراة عام 681هـ/ 1282م، وعاش شبابه فيها، حيث تلقى علم القرآن والحديث، كما تعلم آداب العربية مما أهَّلةُ لإتقان اللغة العربية على غرار اتقانه اللغة الفارسية، وقد تعمق الهروي في التاريخ الاسلامي والعربي والآداب العربية، وكان تفوقه سبباً فى قربه من الحكام والأمراء.
وقد شهد سيف الدين الهروي أحداث جسيمة في هراة أشهرها حملة أولجاتيون خان على المدينة عام 706هـ/ 1306م، وكان سيفي من ضحايا هذه الحرب ووقع فى الأسر وزج به فى السجن، ثم عاد إلى هراة بعد أن استطاع الهرب هو وجماعة من رفاقه.
تلقى سيف الرعاية والاهتمام في ظل حكم الملك غياث الدين كرت (707 – 729هـ / 1307 – 1329م)، وهو الذى أمر سيفى بكتابة تاريخ خاص عن مدينة هراة وتاريخ أسرة آل كرت، بالفعل بدأ فى كتابة تاريخها عام 718هـ / 1318م وانتهى من الكتاب عام 722هـ / 1322م، وهذا النوع من الكتابة التاريخية المحلية وليدة الشعور بالقومية، وتعبير صادق عن ارتباط المؤرخ بأقليمه واعتزازة بوطنه.
من الكتب التي ألفها سيفى كتاب (نامة هراة)؛ ويقع الكتاب فى حوالى ثمانمائة صفحة، ولهذا الكتاب أهمية كبرى من زمن بعيد، حيث استفاد منه الكثير من الدارسين، وقد عنى بتصحيحه ونشره محمد زبير الصديقي الأستاذ فى جامعة كلكتا بالهند ، ونشر في عام 1362هـ / 1943م).
منهجه في كتابه:
بدأ الهروي كتابة تاريخ نامة هراة، وقد تضمن أخبار أسرة آل كرت بشيء من التفصيل والتوسع والتوثيق بالاعتماد على النصوص الأساسية المعاصرة للهروي، من خلال دراسة الكتاب تبين لنا المنهج الفكري التاريخي الذى اعتمدة فى كتابته للتاريخ وذلك من خلال الأسس التالية:-
- جاء أسلوب الهروى مزيجاً بين أسلوب المؤرخ والأديب، حيث يضم الكتاب مقطوعات شعرية نادرة باللغتين الفارسية والعربية وهذا دليلاً على ثقافته الواسعة واتقانه الشديد للغتين، ونذكر أن المزج اللغوي كان متعارف عليه في الكتابات التاريخية والأدبية فى ذلك الحين وهو ما عرف بالازدواجية، ويعتبر أسلوب سيفي أسلوباً ومنهجاً فكرياً متميزاً، ولعل السبب في تميزه هو اتصاله المباشر بملوك الدولة، ويبدو أن المؤرخ تأثر في أسلوبه بمؤرخ الدولة الغورية السابق عليه المؤرخ الفارسي “منهاج الدين الجوز جاني) ت 660هـ / 1261م في كتابة (طبقات ناصري)؛ حيث نقل عنه كثير من أحداث الغزو المغولي وحملة تولوى بن جنكيز خان على اقليم خراسان عام 618هـ / 1221م.
- لم يحاول الهروى أن يؤرخ لحقبة سابقة أو قديمة، بل رأى أهمية تأريخ ما شاهده في عصرة وما أطلع عليه لأن تأريخة للفترة التي عاش فيها يعتبر كسباً علمياً باعتبارة معاصراً ومشاركاً للحديث السياسي معتبراً ذلك شرطاً من شروط التاريخ، ومؤكداً على نفعية التاريخ، ولذلك يعتبر كتاب تاريخ نامة هراة من المصادر التاريخية المهمة فى فترة الأحتلال المغولي في إيران بصفة عامة وتاريخ إمارة آل كرت في هراة بصفة خاصة، وتزداد أهمية الكتاب لمعالجته الدقيقة للعقود الأربعة الأولى من تاريخ ملوك آل كرت، حتى غدت معروفة بشكل واضح، وأصبحت معلومات سيفي مصدراً أساسياً لمن جاء بعدة من المؤرخين التاليين أمثال “حافظ أبرو – معين الدين الأسفزارى – ميرخواندا – خواندمير” وهم مؤرخي العصر التيموري في إيران.
- اعتمد منهج سيفي فى كتابة “تاريخ نامة هراة” على السرد التاريخي والمنهج الوصفي ولهذا المنهج أهمية؛ حيث يساعد على دراسة الأحداث التي حدثت في الماضي ويظهر مدى تأثيرها على مجرى التاريخ والمنهج الوصفي يعتمد على أسلوب الوصف للظاهرة التاريخية لدراسة إشكالية وبعد ذلك يصل إلى تفسيرات منطقية يكون لها براهين ودلائل من خلال الحدث تبعاً لتاريخ وقوعه، ولكنه لم يعلق عليه وهنا يختفي شخصية المؤرخ، يبدأ الكتاب بمقدمة أشار فيها إلى دواعي تأليف الكتاب بأمر من الملك غيان الدين (ت 729هـ – 1329م)، ثم يذكر الفهرس العام الذى يجمع محتويات الكتاب، ثم يتحدث عن موطنه مدينة هراة وموقعها الجغرافي وما ورد في ذكرها من الأشعار، ثم تحدث عن حمله تولوى على أقليم خراسان بدءاً من مدينة مرو الشاهجان حتى مدينة هراة، نذكر أن سيفى كان مؤرخاً بعيداً عن الأهواء الذاتية إلى حد كبير، وكان حيادياً عندما أرخ للأمور السياسية، على الرغم من الصلة الوثيقة التي جمعته بالملك غياث الدين، فإنه لم يخف الحقيقة وهو يؤرخ للأحداث فى تلك الفترة.
- صنف الهروى أخبار الماضي وعدد نظريته للتاريخ من خلال الأهمية الحقيقية للكتاب التي تأتي في معالجته الدقيقة لتاريخ أسرة آل كرت، ولولا أن سيفى ترك لنا بين صفحات كتابة معلومات مفصلة عنهم بدءً من الملك شمس الدين محمد بن غياث الدين كرت (ت 730هـ / 1330م) لأصبحت المعلومات التاريخية لهذه الفترة نادرة إن لم تكن منعدمة.