الرغيف الأسود: قصص الطفولة المنسية عند حسن المصلوحي

د. صافي صافي | فلسطين

لا أعرف لماذا لم أشعر بالغربة عن نص المصلوحي، وأنا أتجول فيه. كنت أعتقد أن قضايانا مختلفة لغة وثقافة، وهموما، وآمالا وآلاما. كنت أشعر أن المغرب بعيد عن شرقنا، وأن أفريقيا بعيدة عن آسيا، لكني وجدت أنني أقرأ ذاتي، طفولتي، وأحلامي، وقضاياي، ومراهقتي، وزعرناتي.

فأنا الذي عشت طفولتي في “بيت اللو” قضاء رام الله، وجدت أن المصلوحي عاش في دوار “بوغابات”، وهي نفسها القرية التي بدأت منها ثقافتي بالطول وبالعرض، ولم يتغير سوى الاسم، وبعض المصطلحات التي استطعت فهمها رغم البعد والبعاد. فأنا الذي عشت في “السقائف” (مخيم غير معترف به)، بيوت من الطين والحجارة، وتعلوها ألواح الزينكو، لتشكل لنا عذابا في الصيف والشتاء، والأزقة المغبرة، وقنوات صرف المياه المكشوفة، مع الكائنات الحية جميعاً، تلك السامة، وتلك الوديعة الوادعة. حياتنا تنحصر في ذلك الحي، وفي تلك الحياة الرتيبة، الهادئة إلا من الفقر، والمناوشات بين أبناء جيلنا، وكل جيل، لا نكاد نجد لقمة العيش، فنحتال على الحياة كما تحتال علينا. فنلعب على المقبرة، وبين شواهدها

فالبراكة هي السقيفة، والوحل هو اللاصة، والبغرير هي الفطائر، والأقراص، والتحميرة هي المرمرية/ اللبخة، وأبواب الخشب والزينكو هي نفسها، والزكروم هو الشنكل الخشبي/ الرتاج، والفرن الترابي هو الطابون، والتحواز، والخمسة دراهم اللامعة هو الشلن، والتفروق هي الزلابية، والأسقف القصديرية هي الزينكو، والضاما هي الضاما، والطرونبيه هي الطرنيب، والبيّ هي الجلول، والمجمر هو كانون النار، والبوطة الفتيلة هي لمبة الكاز، وعمال الموقف كما كان في المصرارة، والمقراج هو بكرج الشاي، والعصفور الحريك، وكرة الشرويط هي الشرايط، والجباد هو شعبة الصيد، والنشاشة، وصيد العقارب كما صيد الدبابير وغيرها.

الحياة المرة، والرغيف الأسود، أساس العيش في البيت، وفي الأحياء المشابهة، فلا أسرار، ولا غياب، ولا مستقر كافي في البيت وفي المدرسة، فالفلقة هي نفسها، والصراع بين الطلبة، والظلم الاجتماعي، وحياة اللاحياة.

شعرت بأن المصلوحي كان يكتب طفولتي كما كتب طفولته، فبعد المكان، أبقى على ما هو مشترك بيننا.

علمت أن هذا هو العمل الأول، على شكل سيرة، وكان بإمكانه التأني قليلا، لتصبح الجمل أكثر تعبيرا، وأقل تكرارا، وأكثر تركيزا، وتنسيقا ومونتاجا، فلا يمكن كتابة حياة الفرد مرة واحدة، وليس هناك حياة للفرد خارج المجموعة، خارج سياق المجتمع، وليس كافيا أن يحمل الإنسان قضية، فيكتبها، ولا أيدلوجيا ليعكسها، فالكتابة فن، وإن كانت سيرة، آملا أن تكون كتبه القادمة أكثر اعتناء، وأكثر متعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى