السيميائية.. مدخل نظري ونموذج تطبيقي (1)

د. إبراهيم  محمد أبو اليزيد خفاجة

أستاذ اللغة العربية وآدابها المساعد- وعضو الاتحاد الدولي للغة العربية

مقدمة

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وأخص منهم خير من صدق الحديث ووفى، وختم به الرسل الكرام وأوذي فعفا، سيدنا محمد بن عبد الله خير من وطأت قدماه الحصى، وأشرف الخلق نسبا وأطيبهم مجلسا، صلاة وسلاما عدد النجم في السماء، وفي الأرض عدد حبات الرمال والحصى، والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعلني ومن اتبع هداه  يوم القيامة أقربنا إليه مجلسا، وبعد:

فقد عرفت البشرية على مر التاريخ ألوانا متعددة من الفنون، كالنحت والتصوير، والنقش على الأحجار، وغير ذلك، وكان كثير منها وسيلة اتصال وتواصل مع الآخرين يقف جنبا إلى جنب مع اللغة المنطوقة، حتى استطاع الإنسان بذكائه الذي منحه الله تعالى أن يخترع الكتابة، ويحول اللغة المنطوقة إلى رموز مكتوبة، ومنذ ذلك الحين، استطاع الإنسان أن يدون أفكاره، وعلومه، كما استطاع أن يعبر عن مشاعره وهمومه من خلال هذه اللغة، وينقلها إلى الآخرين، ويسجل تاريخه الإنساني بجميع أحداثه، بأفراحه وأتراحه، ولم يعد الأمر قاصرا على اللغة المنطوقة فقط.

 واستطاع من خلال اللغة – المنطوقة والمكتوبة – أن يسجل أفكاره ومشاعره شعرا ونثرا، وتعددت ألوان التعبير، وتميزت من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل، ومن أمة إلى أمة، وحملت أنواعا مختلفة من الخصائص والسمات؛ وإن كانت جميعا تلتقي في غاية واحدة، وهي التعبير عن الذات الإنسانية، والتعبير عن الإنسان بوصفه إنسان، وما يدور بداخله من خلجات نفسية أو معتقدات فكرية.. ونحو ذلك.

ومن بين ألوان الأدب وفنونه التي اخترعها الإنسان، يبرز فن القصص، كأحد أهم الفنون المتوارثة وأعظمها تأثيرا، وقد اخترت فن القصة ليكون هذا المقال ميدانا له؛ لما له من دور مؤثر، وقيمة عظيمة بين أنواع الأدب وفنونه المختلفة.

أما عن موضوع هذا المقال فقد اخترت له عنوان السيميائية مدخل نظري ودراسة تطبيقية أحاول فيه التعريف بالمنهج السيميائي وأستخدمه في تحليل نموذج من الأدب العربي القديم وبيان أهمية استخدام هذا المنهج باعتباره منهجا جديدا في  التحليل الأدبي للأدب القصصي، ومما دفعني لاختيار هذا الموضوع، هو ما وجدته من قلة الدراسات العربية في هذا الموضوع في الوقت الحالي من جانب، وما فيه من تشويق وإعادة نظر في كثير من نتاج الأدب القصصي وفق معطيات العلوم اللغوية الحديثة، من جانب آخر.

بالإضافة إلى أنه يمكن من خلال التحليل السيميائي للأدب القصصي- علاوة على اكتشاف شخصية الأديب- تفسير تفاعل الشخصيات مع الأحداث، الأمر الذي يساعد في دراسة الدوافع الإنسانية، وخفايا النفوس البشرية التي تجسدها شخصيات القصة بوصفها شخصيات إنسانية، تتصرف وتنفعل وفق ما تمليه عليها طبيعتها الإنسانية.

وقد ذهب كثير من النقاد إلى أن الأديب الذي يستطيع أن يصور المشاعر الإنسانية تصويرا صادقا، ويغوص في أعماق النفس البشرية، هو الأديب الحق، وليس الذي يجلس في برج عاجي بعيدا عن الواقع، متعاليا عن الناس، غير آبهٍ بما يجيش في صدورهم من مشاعر، أو يدور في عقولهم من أفكار.

وتكمن أهمية التحليل السيميائي للأدب القصصي في أنه محاولة جادة لتفسير الأحداث التي تمر بها القصة، كما أنه محاولة لتفسير تفاعل الشخصيات الأدبية ( شخصيات العمل القصصي) بوصفها شخصيات إنسانية تتفاعل مع الأحداث وتنفعل بها ، وتتكشف دوافعها الخفية تجاه التصرفات التي تقوم بها، والأسباب الحقيقية التي تنطلق منها ردود أفعالها.

بالإضافة إلى أنها محاولة للإسهام ولو بشكل ضئيل في إلقاء الضوء على منهج نقدي جديد عرفه النقاد والأدباء العرب في النصف الأخير من القرن العشرين وتأثروا به، وحالوا الاستفادة مما يقدمه لهم من نظريات وأفكار.

تمهيد:

مفهوم الأدب، وفنونه

يطلق مصطلح الأدب على الإنتاج اللغوي البشري المرتبط بالعاطفة والشعور، وهو القالب اللغوي الذي يصوغ فيه الأديب أفكاره ومشاعره شعرا أو نثرا. وقد ترسخ هذا المفهوم لدى الأدباء والعلماء على مر السنين، منذ العصور القديمة، حتى عصرنا هذا، وعرفت الأمم والشعوب على اختلاف بيئاتها وثقافاتها ألوانا متعددة من الآداب. وبرع لديهم كتاب ومؤلفين ما زالت آثارهم باقية، وأقوالهم تتناقلها الأجيال على مر السنين.

والأدب بوصفه إنتاج لغوي يقسم إلى فنين أساسيين هما: فن الشعر، وفن النثر، وهذا الأخير يشتمل على كم أكبر من سابقه من الفنون؛ فمنه الرسائل، ومنه الخطب، ومنه الأمثال والحكم، ومنه القصص، والروايات، والمسرحيات، والمقالات الأدبية. والأدب بوصفه نص لغوي يختلف عن نصوص اللغة الأخرى، لأنه يعتمد على الاستخدام الخاص لمفردات اللغة وأساليبها، استخداما يمكن أن يوصف بأنه استخدام شاعر، حيث يطوع الأديب مفردات اللغة وأساليبها للتعبير عن الأفكار والمشاعر والوجدان تعبيرا مؤثرا،  يختلف في طريقته ومضمونه عن باقي التعبيرات الأخرى.

علاقة الأدب بعلم اللغة

العلاقة بين علم اللغة والأدب علاقة وثيقة الصلة؛ وقديمة قدم الإنسان نفسه، فعلم اللغة يبحث في الوسائل التعبيرية التي يمكن للإنسان استخدامها للتعبير عن أفكاره ومشاعره،   وعلم الأدب يبحث – أيضا -في اللغة الإنسانية بوصفها قالبا تخرج فيه المشاعر والأحاسيس والأفكار والخواطر التي تطفو على السطح في صورة تعبيرات أدبية لغوية، وانفعالات شعورية تجاه المواقف الحياتية والأحداث اليومية، والقضايا المعاصرة، فالمنبع الذي ينشأ منه العلمان واحد، والرحم التي يخرجان منها هي اللغة الإنسانية، فلولا اللغة ما أبدع الأديب، ولما أمكنه التعبير عما يجيش بداخله، فالأدب خليط من الفكر والشعور والانفعال، ثم التعبير عن ذلك في قالب من قوالب التعبير المختلفة([1]).

المقصود بالسيميائية

السيميائية مصطلح مأخوذ من كلمة سمياء وتعنى العلامة، فالسيميائية هي العلم الذي يبحث في العلامات والدلائل (الإشارات) ويقوم بدراستها دراسة منظمة، وينتمي هذا الاتجاه في أصوله ومنهجه إلى البنيوية، ويعود الفضل في نشأته وتمييز ملامحه إلى عالم اللغة الشهير  فرديناد دي سوسير([2])، و برز في هذا المجال أعلام آخرون من أمثال بيرس، ورولان بارت، وجريماس… وغيرهم كثير.

وتحتل السيميائية مكانة مميزة في الفكر المعاصر، فهي نشاط معرفي بالغ الخصوصية من حيث أصوله وامتداداته، ومن حيث مردوديته وأساليبه التحليلية، إنها علم يستمد أصوله ومبادئه من مجموعة كبيرة من الحقول المعرفية كاللسانيات، والفلسفة، والمنطق،  والتحليل النفسي،  والأنثروبولوجيا([3]). والسيميائية لا تنفرد بموضوع خاص بها، فهي تهتم بكل ما ينتمي إلى التجربة الإنسانية العادية شريطة أن تكون هذه الموضوعات جزءا من سيرورة دلالية([4]).

نشأة التحليل السيميائي للأدب القصصي

ظهرت ملامح المنهج السيميائي منذ العصور القديمة، واتضحت ملامحه على وجه خاص في تحليل الأدب القصصي في القرن العشرين، وذلك نتيجة للتأثر بمناهج الدراسات اللغوية والأدبية الحديثة التي قامت في الغرب وانتقلت عبر معابر شتى إلى البيئة العربية.

أهمية التحليل السيميائي للأدب القصصي

سبق وذكرنا أن أهمية التحليل الأدبي للأدب عامة تكمن في محاولة التوصل من خلاله إلى معرفة ما يخفى عن الشخصيات  الأدبية، فالأقوال والأفعال تنبئ عن صاحبها، واستخدام الأقوال والأفعال في التحليل الأدبي  أمر طبيعي متعارف عليه بين علماء الأدب التحليليين.

وبالنسبة للأدب القصصي -على وجه التحديد -نلحظ فيه أحداثا متعددة وشخصيات متنوعة، وهذه الأحداث، وتلك الشخصيات يمكن من خلالها التوصل لمعرفة الجوانب والعوامل المختلفة التي أثرت في الأحداث والشخصيات، كما يمكننا من خلال منهج التحليل السيميائي للأدب القصصي، إدراك العوامل المؤثرة في سير الأحداث، وتفاعلات الشخصيات معها، والأبعاد النفسية التي تنطلق منها هذه الشخصيات في استجاباتها لهذه الأحداث، والتي تتمثل في الفعل ورد الفعل.

كذلك يسهم التحليل السيميائي للأدب القصصي في معرفة الدوافع التي تنطلق منها شخصيات العمل الأدبي، ويجيب عن الاستفسارات المتعلقة بها وما يتعلق بها من تساؤلات متعددة.

والتحليل السيميائي للأدب القصصي يعد محاولة طيبة للاستفادة من العلوم والثقافات ومناهج النقد الأدبي الحديثة، وتطبيقاتها المتنوعة. كما يعد خطوة مهمة في سبيل معرفة كثير من جوانب النفس الإنسانية وكشف كثير من خباياها، وأسرارها التي تنطوي عليها.

عناصر البناء القصصي  (في ضوء منهج التحليل السيميائي)

 لا تختلف عناصر البناء القصصي ومكوناته في منهج التحليل السيميائي عنها عما اشترطه النقاد، وهي البيئة، والأحداث، والشخصيات، واللغة، والفكرة، والحبكة الفنية، ونحو ذلك مما سبق ذكره عند الحديث عن مكونات العمل القصصي وعناصر بنائه.     ولكن منهج التحليل السيميائي  عند تناوله لعمل قصصي، فإنه ينظر إلى هذه المكونات من وجهة نظر مختلفة، ويراعي اعتبارات متعددة.

 فاللغة لها دلالتها بما تشتمل عليه من مفردات وأساليب وتعبيرات مختلفة ومتنوعة، فكل لفظة وكل كلمة وكل تعبير له دلالته التي تشير إليها، لا سيما الكلمات والتعبيرات التي تحوي ألوانا معينة، أو أوزانا خاصة.

 كذلك البيئة بنوعيها الزمانية والمكانية، لها إيحاءاتها ودلالتها التي تدل عليها، فاختيار الزمان والمكان كبيئة طبيعية للأحداث له إيحاءاته ودلالته التي يمكن أن يفسر في ضوئها.

 والشخصيات والأحداث كذلك، لها تفسيراتها، وأغلب اهتمام المنهج السيميائي عند تحليل العمل القصصي ينصب على الشخصيات والأحداث، فالشخصيات لها ظواهرها التي نراها أمامنا ولها أعماقها التي تنطلق منها.

فالأحداث وثيقة الصلة بالشخصيات، وهي ردود فعل مباشرة أو غير مباشرة لتفاعلات الشخصيات معها، ومنها تبدأ وإليها تنتهي.

وعلى كل حال يمكن القول أن منهج التحليل السيميائي يبني من عناصر العمل القصصي ومكوناته الظاهرة عناصر أخرى خفية، يغوص الناقد في أعماقها، ويبحث عن الإشارات الدالة عليها ويستفيد من معطيات جميع العلوم الأخرى في محاولته لتفسير النصوص.

مصادر المقال

1-القرآن الكريم

2-حلمي محمد القاعود، النقد الأدبي الحديث، بداياته وتطوراته، دار النشر الدولي، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى  1427 هـ -2006م.

3-زكريا إبراهيم، مشكلة الفن، مكتبة مصر، القاهرة، 1976م.

4-سامي الدوربي، علم النفس والأدب، دار المعارف، القاهرة، مصر، بدون تاريخ.

5-عز الدين إسماعيل، التفسير النفسي للأدب، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.

6-فؤاد قنديل، فن كتابة القصة، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2002م.

7-محمد طه عسر، سيكولوجية الشعر (العصاب والصحة النفسية)، عالم الكتب، القاهرة، مصر ، الطبعة الأولى 1420 هـ – 2000م.

8-محمد على بيضوت، الحب الخالد (قيس وليلى)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 1424 هـ -2003م.

9-محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الخامسة 1971م.

10-محمد مندور، الأدب وفنون، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، بدون تاريخ.

11-محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، 2003م.

12-محمد النويهي، نفسية أبي نواس، مكتبة الخانجي، القاهرة 1970م.

13-محمد يوسف نجم، فن القصة، دار الثقافة، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.

14-مصري عبد الحميد حنورة، الأسس النفسية للإبداع الفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986م.

 15- ميجان الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء -المغرب، الطبعة الرابعة، 2005م.

([1]) انظر: سامي الدوربي، علم النفس والأدب، ص: (225) بتصرف. دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، د.ت.

([2]) انظر: دليل الناقد العربي، ميجان الرويلي وسعد البازعي، ص: (177-185)، المركز الثقافي العربي –المغرب، الطبعة الرابعة، 2005م.

([3]) انظر: السميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها، الفصل الأول، موقع سعيد بنكراد الالكتروني بتاريخ: 26/3/1428هـ.

([4]) انظر: المصدر السابق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى