السيميائية.. مدخل نظري ونموذج تطبيقي (2)
د. إبراهيم محمد أبو اليزيد خفاجة | أستاذ اللغة العربية وآدابها المساعد- وعضو الاتحاد الدولي للغة العربية
تطبيق منهج التحليل السيميائي على قصة عبد النور الكاتب، في كتاب البخلاء للجاحظ
أولا: نص القصة([1]):
“قالوا: كان عبد النور كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن قد استخفى بالبصرة في ديار يني عبد القيس، من أمير المؤمنين أبي جعفر وعماله. وكان في غرفة قدامها جناح. وكان لا يطلع رأسه منها. فلما سكن الطلب شيئاً، وثبت عنده حسن جوار القوم، صار يجلس في الجناح، يرضى بأن يسمع الصوت ولا يرى الشخص، لما في ذلك من الأنس عند طول الوحشة. فلما طالت به الأيام، ومرت أيام السلامة، جعل في الجناح خرقاً بقدر عينه. فلما طالت الأيام، صار ينظر من شق باب كان مسموراً. ثم ما زال يفتحه الأول فالأول، إلى أن صار يخرج رأسه ويبدي وجهه. فلمَّا لم ير شيئاً يريبه، قعد في الدهليز.
فلما زاد في الأنس، جلس على باب الدار؛ ثم صلى معهم في مصلاهم ودخل. ثم صلى بعد ذلك وجلس. والقوم عرب. وكانوا يفيضون في الحديث، ويذكرون من الشعر الشاهد والمثل، ومن الخبر الأيام والمقامات. وهو في ذلك ساكت، إذ أقبل عليه ذات يوم فتى منهم، خرج عن أدبهم، وأغفل بعض ما راضوه به من سيرتهم، فقال له: يا شيخ إنا قوم نخوض في بعض ضروب، فربما تكلمنا بالمثلبة، وأنشدنا الهجاء. فلوا أعلمتنا ممن أنت، تجنبنا كل ما يسوؤك. ولو اجتنبنا أشعار الهجاء كلها، وأخبار المثالب بأسرها، لم نأمن أن يكون ثناؤنا ومديحنا لبعض العرب مما يسوؤك. فلو عرفتنا نسبك، كفيناك سماع ما يسوؤك من هجاء قومك، ومن مديح عدوك.
فلطمه شيخ منهم، وقال: لا أم لك! محنة كمحنة الخوارج، وتنقير كتنقير العيابين؟!. ولم لا تدع ما يريبك إلى مالا يريبك؟!. فتسكت إلا عمَّا توقن بأنه يسره. قال: وقال عبد النور: ثم إن موضعي نبا بي لبعض الأمر. فتحولت إلى شق بني تميم فنزلت برجل فأخذته بالثقة، وأكمنت نفسي إلى أن أعرف سبيل القوم. وكان للرجل كنيف إلى جانب داره، يشرع في طريق لا ينفذ. إلا أن من مر في ذلك الشارع رأى مسقط الغائط من خلاء ذلك الجناح. وكان صاحب الدار ضيق العيش، فاتسع بنزولي عليه. فكان القوم إذا مروا به ينظرون إلى موضع الزبل والغائط، فلا يذهب قلبي إلى شيء مما كانوا يذهبون إليه.
فبينا أنا جالس ذات يوم إذا أنا بأصوات ملتفة على الباب، وإذا صاحبي ينتفي ويعتذر، وإذا الجيران قد اجتمعوا، إليه وقالوا: ما هذا الثلط الذي يسقط من جناحك، بعد أن كنا لا نرى إلا شيئاً كالبعر، من يبس الكعك؟ وهذا ثلط يعبر عن أكل غضّ! ولولا أنك انتجعت على بعض من تستر وتواري لأظهرته. وقد قال الأول:
الستر دون الفاحشات ولا … يلقاك دون الخير من ستر.
ولولا أن هذا طلبة السلطان، لما توارى. فلسنا نأمن من أن يجر على الحي بلية. ولست تبالي – إذا حسنت حالك في عاجل أيامك – إلام يفضي بك الحال، وما تلقى عشيرتك. فإما أن تخرجه إلينا، وإما أن تخرجه عنا. قال عبد النور: فقلت: هذه والله القيافة، ولا قيافة بني مدلج! إنا لله! خرجت من الجنة إلى النار!. وقلت: هذا وعيد. وقد أعذر من أنذر. فلم أظن أن اللؤم يبلغ ما رأيت من هؤلاء، ولا ظننت أن الكرم يبلغ ما رأيت من أولئك!”.
ثانيا: مضمون القصة:
تدور أحداث القصة في زمن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، وتحكي عن أحد الأشخاص الخارجين عليه ممن يؤازرون العلويين، ثم طلب الخليفة ورجاله له، وهروبهم منهم واختبائه مرة في البصرة بين ديار بني عبد القيس، ومرة أخرى بين ديار بني تميم.
ثالثا: العناصر الفنية للقصة:
تشتمل هذه القصة على العناصر الفينة اللازمة لبناء العمل القصصي، فالبيئة الزمانية هنا هي فترة الحكم العباسي وتحديدًا في عصر الخليفة أبي جعفر المنصور، والبيئة المكانية هي بادية بني عبد القيس، وبني تميم.
والأحداث، تسير صاعدة وهابطة ومتنامية من بداية ثم عقدة ثم نهاية، وجميعها تدور في نطاق البيئة المرسومة لها.
والشخصيات المحورية لهذا العمل هي شخصية عبد النور الكاتب الذي يدور العمل كاملا حوله. أما باقي الشخصيات فتعد شخصيات ثانوية أو مساعدة؛ لأن الأدوار التي كلفت بها كانت من أجل إبراز دور البطل، ومن هذه الشخصيات: أبو جعفر المنصور، ورجاله، ثم الشيخ الطيب في مجلس بني عبد القيس، والغلام سليط اللسان، ثم الرجل الشحيح الذي أقام عنده في بني تميم، ورجال بني تميم الذين كشفوا أمره.
أما الفكرة فواضحة، وهي قصة هروب أحد الخارجين على الحكم العباسي واختفائه لفترات متنقلا بين القبائل، حتى افتضح أمره وحدث ما حذر منه.
أما اللغة فقد كتبت القصة بلغة عربية فصحى واشتملت على العديد من التعبيرات والأساليب البلاغية الرائعة، واستطاع الكاتب أن يربط بين الفقرات ببراعة فائقة، حتى تكاد تتناغم الفقرات النثرية وترسم لوحة فنية بارعة الجمال.
رابعا: التفسير السيميائي للقصة:
1-الشخصيات: أول ما يفاجئنا في التحليل السيميائي لعناصر القصة هنا هو شخصيات القصة، التي لم تحظ بالوصف الخارجي بقدر ما ركز الكاتب على الوصف الداخلي وإن لم يصرح به، فأبو جعفر المنصور، شخصية مستبدة ديكتاتورية، يلاحق هو ورجاله جميع الخارجين عليه ويقتلهم دون محاكمة عادلة، وعبد النور بطل القصة كان يعمل كاتبًا، ولنا أن نفهم من هذا الوصف ما يتطلبه هذا المنصب الحساس في ذلك الزمان من مهارات خاصة ومعارف متنوعة، ثم الشخصية التي كان يعمل عندها، وهو إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الذي يفهم من اسمه الذي ذكر كاملا أن نسبه ينتهي إلى آل البيت، ثم صاحب الدار التي أقام بها واختبأ فيها وما يظهر من كرمه وحسن جواره، وتوافد الناس إلى مجلسه مما يدل على شهرته وعلو مكانته بين قومه، ثم ذلك الغلام الذي واجه عبد النور في المجلس الذي ارتاده بالكلام وأجبره على الخروج من ديار عبد القيس مرغمًا بسلاطة لسانه، وكثرة سؤاله، ولولا فضوله لسلم من الشك وطاب له المقام، وما نبا به الدهر.
وصاحب الدار التي أقام بها في بنى تميم، وما هو عليه من شظف العيش وكثرة الحاجة، وضيق المؤونة، حتى أن ذلك يُعرف من فضلات داره، وحتى يُلاحظ عليه أبسط تغيير وإن لم يكن باديا عليه هو؛ بل على ضيفه الذي يؤويه في بيته ويخبئه عنده، ويظهر من تصرفه أيضًا أنه محب لعبد النور، وأنه من أتباع العلويين وإن حاول إخفاء ذلك على قومه، ولولا ذلك ما آوى ذلك الهارب على ما به من فاقة وعوز.
ثم رجال بني تميم، وبراعتهم في الاستدلال وتتبع الآثار، وحرصهم على السلامة، وعدم مخالفة السلطان، وطلبهم من صاحبهم إخراج ضيفه لهم أو تسليمه لرجال الخليفة أو خروجه عن ديارهم.
2-البيئة: ثم تأتي البيئة المكانية التي كانت متغيرة وثابتة في الوقت نفسه، حيث دارت الأحداث في ديار سبني عبد القيس بالبصرة أولا، ثم انتقلت إلى ديار بني تميم ثانيًا ، وهذه البيئة تمثل البيئة الرحبة للأحداث. أما البيئة الضيقة، فكانت منحصرة في تلك الغرفة التي اختبأ فيها البطل في هاتين البيئتين، وبينهما فضاء آخر وسيط، تمثل في المجلس الذي كان يخرج إليه ليأنس بالحديث، والكنيف الذي استُدِل من فضلاته على وجوده في نبي تميم.
أما الزمن فقد كان محدودًا بحدود الأحداث مرتبطًا بها، ومرَّ متباطئًا وفقًا لما تقتضيه لحظات الخوف والهلع وأوقات الهروب والاختباء، وغلبت الأفعال الماضية التي تؤكد الانقطاع وعدم الاستمرار على أحداث القصة.
كما برز من خلالها تدرج بعض الأحداث، حيث بدأ أولا بالاستماع إلى الأحاديث دون النظر، ثم اكتفي بنظرة من شق بالجدار، ثم نظر من الباب، ثم نظر من فتحة أخرج منها رأسه، ثم غشى المجلس وارتاده وأنس به، وصلى معهم في مصلى الحي، وأخيرًا العودة مرة أخرى إلى الاختفاء من جديد، ولكن في ديار أخرى ومكان مختلف.
3-الأحداث: وتأتي الأحداث متنامية صاعدة وهابطة تبدأ بمقدمة، ثم عقدة، ثم نهاية مفتوحة، أما المقدمة فقد رسمت أبعاد بعض الشخصيات بالإضافة إلى الشخصية المحورية، وكانت العقدة عدة عقد متتالية تمثلت في الأزمات التي تعرض لها البطل من إحساس بالوحشة في المخبأ الذي يختبئ فيه رغم توفر كل مقومات الحياة له مما دفعه للخروج منه، ثم في المواجهة التي حدثت له مع الغلام في مجلس بني عبد القيس، وأخيرًا في طلب رجال بني تميم له وإصرارهم على خروجه من بينهم. وتأتي النهاية المفتوحة في نهاية الأحداث التي تجعلنا نتخيل كل الاحتمالات الممكنة لها.
4-اللغة والأسلوب: أما اللغة فقد كانت فصيحة غلب عليها أسلوب السرد، وتخللها بعض الحوار بين الغلام سليط اللسان والشيخ الوقور المتدين مرة، وبين مضيف البطل في بني تميم ورجال قومه الذين جاؤوا في طلبه ومحاولة اكتشاف سر التغير في نمط معيشته مرة أخرى، ثم الحوار الذاتي بين البطل ونفسه أو ما يسمى بالمنولوج الداخلي، عندما أيقن بأن سره قد انكشف، وأمره قد افتضح، وأنه لم يعد في مأمن في مخبئه الجديد مرة ثالثة.
وقد اشتملت القصة على العديد من الثنائيات التي تتمثل في استخدام الأفعال الماضية إلى جانب الأفعال المضارعة، والعيش الآمن الرغد في ديار بني عبد القيس، وشظف العيش وقسوته في ديار بني تميم، والشيخ الوقور العاقل، والغلام الحدث سليط اللسان، وطيبة أهل بني عبد القيس، ولؤم رجال بني تميم وذكائهم الحاد وبراعتهم في علم القيافة أو تتبع الأثر، والجنة والنار في تلك المقارنة التي عقدها البطل بين عيشته الماضية وعيشته الحالية والمستقبلة، وفيها أيضًا الثنائية بين المدح والهجاء، والكرم واللؤم، والأنس والوحشة، والأمن والخوف، والاختفاء والظهور، … إلخ.
الخاتمة:
عرضت في الجزء الأول من المقال مفهوم الأدب وأنواعه، والمقصود بالأدب القصصي وعناصر بنائه، وأنواعه، وكشفت عن العلاقة القائمة بين علم اللغة والأدب، وبينت المراد بالتحليل السيميائي للأدب، وأهميته، ثم عرضت تحليلاً لنموذج أدبي لقصة من القصص العربي وردت في كتب التراث في ضوء منهج التحليل السيميائي، وفق معطيات علم السيمياء ومناهج النقد الأدبي الحديث في جزئه الثاني.
ومما سبق يتضح لنا جليًا أن تحليل النصوص الأدبية في ضوء المنهج السيميائي يسهم بشكل كبير في معرفة أبعاد شخصية الأديب النفسية، والعوامل التي أثرت فيها، كما يمكننا من اكتشاف الكثير من أبعاد النفس الإنسانية وانفعالاتها، وتأثرها بالأحداث وتأثيرها فيها. ويتضح لنا كذلك أن الإفادة من معطيات العلوم الحديثة – لا سيما علوم اللسانيات- أمر لا غبار عليه، خاصة إذا علمنا تلك العلاقة الوثيقة بينها وبين الأدب.
وعلى كل حال ما زال الميدان رحبًا لمزيد من البحوث والدراسات التي تكشف عن طبيعة عملية الإبداع وتقوم بتحليلها، وتطبيق مناهج العلوم الحديثة عليها، وفي خاتمة القول أسأل الله العلي القدير أن يكون فيما قدمت صورة واضحة عن مفهوم التحليل السيميائي للأدب بعامة والأدب القصصي بخاصة، وأهميته والحاجة إليه. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
مصادر المقال:
1-القرآن الكريم
2-حلمي محمد القاعود، النقد الأدبي الحديث، بداياته وتطوراته، دار النشر الدولي، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى 1427 هـ -2006م.
3-زكريا إبراهيم، مشكلة الفن، مكتبة مصر، القاهرة، 1976م.
4-سامي الدوربي، علم النفس والأدب، دار المعارف، القاهرة، مصر، بدون تاريخ.
5-عز الدين إسماعيل، التفسير النفسي للأدب، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.
6-فؤاد قنديل، فن كتابة القصة، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2002م.
7-محمد طه عسر، سيكولوجية الشعر (العصاب والصحة النفسية)، عالم الكتب، القاهرة، مصر ، الطبعة الأولى 1420 هـ – 2000م.
8-محمد على بيضوت، الحب الخالد (قيس وليلى)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 1424 هـ -2003م.
9-محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الخامسة 1971م.
10-محمد مندور، الأدب وفنون، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، بدون تاريخ.
11-محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، 2003م.
12-محمد النويهي، نفسية أبي نواس، مكتبة الخانجي، القاهرة 1970م.
13-محمد يوسف نجم، فن القصة، دار الثقافة، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.
14-مصري عبد الحميد حنورة، الأسس النفسية للإبداع الفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986م.
15- ميجان الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء -المغرب، الطبعة الرابعة، 2005م.
([1]) انظر: كتاب البخلاء للجاحظ. دار ومكتبة الهلال، بيروت، الطبعة: الثانية، ١٤١٩ هـ.