حكايا من القرايا.. أخو شمّة
عمر عبد الرحمن نمر| فلسطين
“ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ……… زغب الحواصل لا ماء ولا شجر “
يا حرام، عمليتك كبيرة، فيها شق بطن، يا رجل… ارحم حالك، ممنوع تشتغل أي شيء إلا بعد ثلاثة شهور… وبعدها تعمل في الأعمال البسيطة الخفيفة… هذا ما قاله الطبيب على مسمع زوجته، وهو يبتسم ابتسامة السلامة والخروج من المشفى، ولكن من سيطعم الفراخ، يا دكتور، هذولا عشرة على المصطبة؟ الله كفيل بذلك، خلقهم، وهو رازقهم… يجيب الطبيب.
نام أبو خلدون على الفرشة، كان في الليل يتحدث مع زائريه، يأتون مسلّمين مهنّئين بالشفاء، يأتون لمساهرته، لا يبثهم الشكوى (والشكوى لغير الله مذلّة) لكنهم لا يبخلون بمساعدته بهداياهم، وأحياناً من خلال ما يقدمونه من مبالغ مالية… لكن الفراخ تبلع، ولا تشبع…
شعرت زوجته أم خلدون أن الميدان بحاجة لها، ولا بد أن تشمّر عن ساعديها، فالفراخ تبلع، والمعيل حبيس الفراش. كانت تدخل عليه أحياناً، وهي تحمل له كاساً من الشاي، فترى بقايا دموع في عينيه، يحاول تجفيف منابعها قبل أن تصل، تربّت على كتفه، وتشجعه” لا بد من اليسر يا رجّال… الله اللي بيسر” وتبتسم في وجهه، تفارقه وتهطل دموعها، وهي مكبّة على ماكنة خياطة في الليل، ترقع ثياب الناس وترممها، وتخيط الجديد… حتى إذا أبصر النهار، حضّرت لزوجها احتياجاته، وجهزت أولادها للذهاب إلى المدرسة، وانطلقت تعمل في الحقول، تزرع مع هذا، وتقطف مع ذاك، وتعزق أرض هذا… والفراخ تبلع، ولا تشبع… (تَشدّها على يدّها) والله يبارك باللقمة الحلال، كانت تقول لزوجها. لقد سكن الفرشة شهراً كاملاً، وها هم في منتصف رمضان، والعيد على الأبواب، وهو يحسب ويفكر… عيد، ملابس، عيديّات، ولايا… كيف سيتدبر الأمر؟ قالت له زوجته أكثر من مرة… اعمل اللي بتقدر عليه، والباقي وكّلْه لله… لكن كيف يستكين للمرض وينام، ولا يفي بعيديّات الولايا، ولا يوفر ثياباً جديدةً للفراخ؟ وسيرفض من الآن وطالعاً زكاة الفطر، والمعونات من الناس… إن قبلت صحته ذلك، فوجدانه لا يقبله.
في العشرين من رمضان، اتصل بأحد المقاولين، وطلب منه أن يشغله، تردد المقاول بادىء الأمر، لكنه خضع لتوسلات (أبو خلدون) طار أبو خلدون من الفرح، ونادى زوجته يبشرها بأنه سيعمل، ويتدبر أمر العيد، ونادى أولاده يبشرهم بثياب عيد جديدة، وكعك عيد، وحلويات، وعيديّات أيضا… رفضت الزوجة الفكرة، لكنه أصر، سأله ابنه خلدون: وهل تقدر على العمل يا أبي؟ فأنت ما زلت تتعافى… أجاب، وهو يداعب أذن خلدون… أنتم صحتي وعافيتي… أنتم حياتي… سأخدمكم ما دمت…
حلق لحيته، وأخذ حمّاماً ساخناً، وغنّى وقطرات الماء تنزاح عن جسده، تحت ظلال الصابون… ولم ينم ليلتها، وهو ينتظر صراصير الصباح كي تطلع… وخرج معها…
ياه… صباح الورد… صباح صبّات الباطون… صباح العمار… استقبله العمال في الورشة، وقالوا له: لا تعمل الصعب، نحن نقوم به عنك… حمل قطعة من الخشب، أوصلها للمعلم، ثم حمل دلواً من الباطون… وصاح وارتمى على الأرض، أرادوا نقله للمشفى، رفض رفضاً قاطعاً مدعياً أنه سيرتاح قليلاً، ثم يستمر في العمل… نهض مستبشراً، وعاد بعد انتهاء الدوام إلى البيت فرحاً… في اليوم التالي، كان يغني وهو يعمل هنا وهناك…
أعطى زوجته تكاليف العيد قبل حلول العيد بأيام ثلاثة، قال لها: هذا المبلغ للملابس، وهذا للعيديّات، وهذا لكعك العيد… إنها لحظات فرح، وتزيد الفرحة وأطفاله بملابسهم الجديدة وألعابهم الجديدة، والولايا فرحة لزيارته، ترفض العيديّات نظراً لوضعه، ثم تقبلها أمام إصراره…
بعد إجازة العيد، راجع طبيبه، شغّل الطبيب مجسّاته وأدواته على جسد (أبو خلدون) وصرخ: ماذا تأكل؟ ماذا تشرب يا رجل؟ ما شاء الله الجرح (تشاتم) وصحتك بولاد… لكن عليك بالاستراحة شهراً آخر… ابتسم للطبيب، وغادر إلى الورشة، وهو يقول ” أنا أخوتش يا شمّة “…