من إشكالات الترجمة الدينية.. ألا يعلم من خلق؟ ألا يعلم؟
أ.د. عنتر صلحي عبد اللاه | أستاذ اللغات والترجمة
من أكبر القضايا التي يثيرها الملحدون atheistsوالمتشككون agnostics في وجود الله قضية الشر في العالم. ويرون أنه لو كان للكون إله ما ترك الشر هكذا طليقا في الحياة، وما ظُلم الطبيون وانتصر الظالمون، ويرون أن وجود الإله العادل يترتب عليه نفي وجود الظلم في هذا العالم. والحق أن الرد على هذه الشبهة من شبهات الملحدين قد قام به عدد من العلماء والمدافعين apologists قديما وحديثا وألفت فيه الكتب والدراسات بالعربية وغيرها. ولا نريد في هذا المقال إلى التفصيل في الرد على هذه الشبهة، بل سنعرض للردود إجمالا حتى نصل إلى إشكالية تفسير آية من الآيات المفصلية في الرد على هذه الشبهة، ومن ثم إشكالية ترجمة معانيها للإنجليزية.
فنبدأ على بركة الله بعرض الردود على هذه الشبهة:
إن مسلك المدافعين والمتدينين أمام هذه الشبة ينقسم إلى قسمين، الرد على الملحدين المنكرين للإله، والرد على المؤمنين المتشككين ويسعون لمعرفة الحكمة من وجود الشر في العلم. فبالنسبة للملحدين، يكون الرد بأن اعتراضهم مناقض لموقفهم؛ لأنهم يرون أنه لا توجد حقيقة مطلقة في هذا الكون، وأن الصدفة هي بداية الخلق، وبالتالي فلا يوجد معيار للصواب ولا للخطأ، فقولهم بوجود الشر يعني ضمنا إعترافهم بوجود معيار يحتكم إليه، فإن أقروا بذلك فقد انخلعوا من إلحادهم، وإن لم يقروا فلماذا يعترضون على شيء صنفوه بلا معيار مرجعي؟ الرد الثاني على الملحدين هو إذا كان انتشار الشر دليل على عدم وجود إله، فبالتالي – وبالمعاكسة – يكون انتشار الخير دليل على وجود الإله – وفق منطقهم- ولما كان الكل يشهد بأن الخير أكثر من الشر في الناس، فلا يمكن نفي وجود الإله بالمطلق.
إن المسلك السابق – كما ترى- لا يعدو أن يكون ردا على الملحدين بأسلوبهم ودفعا لمغالطاتهم بإلزامهم بلوازم ادعائهم. أما الرد على المؤمنين المتشككين فيكون كالتالي:
- الله سبحانه وتعالى عدل رحيم حكيم لا يظلم أحدا. فإذا استحضرت العدل الإلهي، واستغربت لوجود الشر، لابد أن تستحضر كذلك العلم الإلهي المحيط بكل شيئ والقدرة الإله التي لا يعجزها شيئ والرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء.
- إنما نحن في هذه الحياة الدنيا خلق من خلق الله، والله هو المتصرف، ولا يُسأل سبحانه عما يفعل، وهم ُيسألون.
- هذه الدنيا دار ممر وابتلاء وليست دار مقر وجزاء، فكيف يكون الاختبار والابتلاء إن لم يكن للشر وجود؟
- بضدها تتمايز الأشياء، فلولا وجود الشر ما عرف الخير، وما قدرّ الناس قيمة الخير وحرصوا عليها.
- وجود الشر احد مقتضيات إعطاء الله الحرية للإنسان ليختار أي السبيلين ينتهج.
- وأخيرا – وهو الأهم – فإن علم الإنسان لا يقاس إلى علم الله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، فما تراه شرا ربما يحمل في طياته الخير – والخير الكثير- لو كان علمك محيطا بالأمر.
هذه النقطة الأخيرة (علم الله المطلق سبحانه) هي موضوع هذا المقال، إذا غالبا ما يستشهد المدافعون بالآية الكريمة ” ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”؟ (الملك :14)، والآية فيها سؤال تقريري واستنكاري، لان من يخلق -يبدع – شيئا يكون هو أعلم الناس به، فما بالك بالخلاق العليم الذي خلق كل شيئ، ألا يكون عالما بخلقه، لطيفا بهم خبيرا بحالهم وما ينفعهم؟
وهذه الآية الكريمة، تبين -بعد التدبر -أن السؤال التقريري بها له معنيان الأول: هو ألا يعلم (الله) [الفاعل ضمير مستتر يشير للفظ الجلالة] (من) [الاسم الموصول هو المفعول] خلق؟ وهذا هو المعنى المتبادر للذهن والمشتهر بين الناس، لكن هناك معنى آخر أقل شيوعا هو: ألا يعلم من خلق (الاسم الموصول هو الفاعل) ؟ والمعنى الثاني يقول: ألا يتحلى الخالق العظيم بالعلم العظيم؟ ألا يكون من خلق عالما عليما؟ وهذا المعنى الثاني يستنكر على الناس أنهم لا يدركون أن الخالق العظيم لابد أن يكون عليما عظيما كذلك. هذا المعنيان ذكرهما المفسرون والمتدبرون للقرآن، فليس المعنى غريبا ولا مستهجنا، كما أنه لا يتناقض مع المعنى الأول، فالمعنى الأول ينصرف إلى المعرفة بالخلق، والمعنى الثاني ينصرف إلى عموم المعرفة وليس فقط المعرفة بالخلق.
وعلى هذا الأساس، يمكن ترجمة معاني الآية بأي من المعنيين، غير أن التركيب الإنجليزي لن يستوعب المعنيين كما يفعل التركيب العربي، بل العجيب أن معظم المترجمين (7 من 11) ترجموا المعنى على المعنى الثاني الذي ربما يكون أقل تواردا على الذهن. وربما فعلوا هذا لعموم معنى العلم فيه، وهو -بالتأكيد – أشمل من قصره على الخلق فقط.
Pickthall: Should He not know what He created? And He is the Subtile, the Aware.
Sarwar: Does the One Who is Subtle, All-aware, and Who created all things not know all about them?
Jusur: Would He notknow whomever He has created, while He is theSubtle, the All-Aware?
AbdelHaleem: How could He who created notknow His own creation, when He is the Most Subtle, the All Aware?
بيكتول هنا يصرح بالمفعول what He created كما يفعل مترجمون جسور whomever He has created وعبد الحليم يفصل في ذكر هذا المفعول know His own creation وأخيرا سرور يؤخر المفعول بإضافة صفات العلم واللطف والإحاطة لله سبحانه قبل أن يقول know all about them فيعمل تغييرا في الترتيب الكلمي للآية، ولكنها تؤدي نفس المعنى الأول المقصود.
في المقابل نجد سبعة مترجمين اختاروا ان يقدموا المعنى الثاني، وأكدوا على معنى الفاعلية في الاسم الموصول (من) لا المفعولية، حيث أضاف معظم فاصلة comma بعد فعل العلم ثم شرطة hyphen لتبين ان القادم ليس المفعول ولكن تتمة لوصف الفاعل، كما سنرى:
YusufAli: Should He not know,- He that created? and He is the One that understands the finest mysteries (and) is well-acquainted (with them).
SahihInternational: Does He who created not know, while He is the Subtle, the Acquainted?
Shakir: Does He not know, Who created? And He is the Knower of the subtleties, the Aware.
ورغم أن شاكير استخدم الاسم الموصول who الذي يصلح للفاعل وللمفعول في الإنجليزية، إلا أنه أكد أنه للفاعل بطريقتين: أولهما نحوية حيث كان يمكن ان يقول who He created وبذلك تكون who للمفعول فقط، لكنه لم يفعل، الثانية ان جعل اول حرف من Who حرفا كبيرا لوصف الرب سبحانه وتعالى. وكذلك فعل معظم من استخدم ضمير Who لوصف الرب سبحانه. بل إن المرحوم محمود غالي قد أكد على ذلك بتكرار الضمير (He) بين قوسين قبل Who ولم يخالف في وسم Who بحرف كبير سوى أربري.
Khan: Should not He Who has created know? And He is the Most Kind and Courteous (to His slaves) All-Aware (of everything).
Arberry: Shall He not know, who created? And He is the All-subtle, the All-aware.
Ghali: Will He not know, (He) Who created? And He is The Ever-Kind, The Ever-Cognizant.
The Study Quran:Does He Who created not know? He is the Subtle, theAware.
ومن هذا تتبين بعض الإشكالات التي يقابلها مترجم النصوص الدينية، خصوصا حيت يتعرض للقرآن الكريم الذي جعله الله سبحانه بلسان عربي مبين، وجعله معجزة دائمة يعجز عنها الناس أجمعون.
والله أعلم.