قراءة تداولية في نص “بلا ضفّة يسعى ” للشاعر العراقي وليد حسين
د. أمل سلمان حسان | أكاديمية وناقدة عراقية
المقدمة : المتتبع للتجربة الشعرية للشاعر العراقي وليد حسين ،يلحظ محاولته في نصوصه الأخيرة _ تحديداً _ أرخنة الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية التي تشهدها الساحة العراقية ، ولا عجبَ في ذلك ، فقد كان وما زال الشعرُ عبر العصور المرآة التي تعكس صور المجتمع الذي قيل به ، وأظنّ أن الشعراء كانوا أوّل المؤرخين ، ولا نذهب بعيدا في ذلك، فقد شغلَ الجواهري القرنَ العشرين بأكمله تقريبا موثقا أدقّ التفاصيل لمجريات الأحداث التأريخية ليترك بصمةً واضحةً في المشهد التأريخي العراقي شعراً ولغة وتخيلا ، وكذلك أرى هذا التوجه عند الشاعر وليد حسين
ومع إن الاتساق مع مسارِ التأريخِ، مسرى قد يعدم توهّج الشاعر وتراجعه ،ولا سيما إذا لم يمتلك الأدوات التي تمكّنه من ممازجة الفكر بالخيال والمتخيل بالواقع، إذ سيقع ضحية مساربِ التنظيرِ والمفاهيم المشحونة بالفلسفة والوقائع، وقد تلقى به في عتمة التأريخ ومتاهاته ليبتعدَ عن حدود مفهومِ الشعر وجمالياته .
أسوق هذه المقدمة وبين يديّ قصيدة الشاعر وليد حسين التي عنونها بـ” بلا ضفّة يسعى ” محاولة وضعها في مخبر التداولية، بوصفها العلم الذي يدرس الأفكار والمعاني والألفاظ والمفاهيم وكلّ ما له علاقة بالاستعمال اللغوي، فهي أداة للنقد والتفسير معا وهي وسيلة معرفية نلجأ إليها لتعيننا على فهم ومعرفة وتمييز هل أن ما يبحث فيه له قيمة ومعنى أم ليس له ذلك ؟ وسنقسم الدراسة على النحو الآتي:
البؤرة الأولى : ديناميكية التنصيص
نقف في هذه البؤرة على ثوابت فكر الشاعر،أيديولوجيته الفكرية والأدبية ومواقفه اتجاه مجتمعه بمعنى رسالته الإنسانية التي يحملها بوصفها هدفا ، ويتبناها بوصفها قضية، وتميزه عن غيره من الشعراء .
المبدع في هذا النص، يتبني الوطن بكلّ أوجاعه وهمومه فالنص وطني بامتياز ، يُذكر فيه بالتأريخ العريق لهذا الوطن والحضارة المنبثقة منه ، وقد أضحى ممزّقاً تنهش في جسدَهُ الأحزابُ وينخر الفسادُ في مفاصله ،فهو يرسم لوحة بحروف الوجع تتلون فيها الحيرة مع الأماني مع الدعاء له في خاتمة النص ،بالتعافي والعودة إلى مكانه الطبيعي :
فكن سالما حسبي من العيش فسحة
أراكَ عزيزاً يستميلك وصلُهُ
البؤرة الثانية: المتغيرات المتحركة
وأقصد بها تتبع آليات القصيدة الداخلية والخارجية بالتحليل والتفكيك ،لاستخراج الدلالات والرموز والمدلولات والمفاهيم،فالمبدع هنا، عنون نصه بـ ” بلا ضفة يسعى ” وهو جزء من البيت الرابع والعشرين في النص الذي يقول فيه :
بلا ضفّةٍ يسعى لأيّةِ خِلّةٍ
رمتها يدُ الأقدارِ يغنيكَ حملُهُ
فمن الذي يسعى بلا ضفّة ؟ هو العراق موطن الجود والكرم والحضارة يسعى لكل كريمة باسطا كفيّه للقريب والبعيد يسعى بلا حدودٍ وتراه أوّلَ الأوطان يستجيب لكلّ حاجة أو خِلّة إن بعدت أم قربت ،ليروي لنا مأساة هذا الوطن في المطلع الموصول مع المتن إذ يقول فيه :
ولي وطنٌ ساهٍ على الماءِ رَحلُهُ
ينوءُ بحملٍ قد تباعدَ ظِلهُ
ناسبا إلى وطنه صفة الإنسان الساه فكره ، المشتت الذي لا يعي ما حلّ به ولا يدرك قيمةَ نفسِهِ وتأريخه وكأنّهُ مخدرٌ ، وطن غافل عن حجمه ومكانه الطبيعي بين الدول ، وقد أنفرد بحمل الأوجاع التي اثقلته ، ما الذي أوصل هذا الوطن العريق إلى هذا الوضع المزري نقرا :
بأدهى طريقٍ يستحلُّ مذاهبا
يمدّ شعورَ العجزِ تيهاً يظلُّهُ
يقاربُ صوتاً قد يراني مثخناً
من الطعناتِ الغرِّ ينسل عدلُهُ
ويستبقُ الأحداثَ والرأيُ لم يزل
خلا الحججِ البلهاءِ يغريكَ قولُهُ
لينقلنا بتسلسل منطقي منظم إلى مرحلة ما بعد التغيير وكيف يقع هذا الوطن ! فريسة أيدٍ لا ترحم ، فريسة ثلة من أحزاب الخراب والفساد؛ نقرأ :
وكفٍّ بها بعضُ الرجاءِ تباعدتْ
وجيءَ بأخرى كي تُحلّ محلُهُ
وينأى بنا التغييرُ ما بالُ ملهمٍ
يعيشُ ضياعاً والرؤى تستَغِلُّهُ
ثم يعرج على ذاته ليستحضر الأنا ضعفها ووجعها أمام ما يجري من أحداث فيقول :
فيا أيّها المبثوثُ دون وصايةٍ
علتها من الأنسامِ ما شاءَ نخلُهُ
أراكَ بغيرِ الحظِ تجترّ واحةً
علتها من الأنسامِ ماشاء نخلُهُ
وبتسلسل مدروس وترتيب منظم يستمر الشاعر بسرد تفاصيل ضياع الوطن مُحشّدا مجموعة كبيرة جدا من الأفعال المضارعة الدالة على ثبات الحال واستمراره ما دمنا متباعدين ، فرقتنا الأحزاب وزرعت الأحقاد والضغينة فينا؛ ومن هذه الأفعال:” ينوء، يستحل، يمدُّ ، يقارب ، ينسل، يرتد ، يعيش، يشيد، يشيخ، يلقي، يود ، يستبيح ، يغمر ، يروج ،يمتهن، يجترّ ، تردى ، يسعى ، ويلوّح و…..” وينتقل الشاعر بشكل منطقي نحو مسألة مهمة، وهي محاولة البعض إبقاء الوضع على ما هو عليه من خلال الترويج للماضي والمقارنة بينه وبين الحاضر ثم مسألة انتشار الشائعات والأحاديث الباطلة وهي معادية في صورة حسيّة ، بأن الهشيم اليابس له سرعة في انتشار النار وكذلك الأحاديث الباطلة ، ويصف عدم جدوى القوانين ؛لأنها تطبق بغرائبية على بعض الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة ، مما أدّى إلى ضياع العدل ، والدولة التي تفتقد العدل هي دولة ضائعة يقول :
وصاياك كالأفيونِ قد ضرّ نفعُهَا
تغيّب رأسَ الحقِّ ما بانَ كلهُ
يروّجُ للماضي ، وكم أشعلَ المدى
حديثاً معاداً ، والهشيمُ يقلُّهُ
ويمتهنُ الثغراتِ حتّى تبرمت
ندوبٌ بها عمقٌ رعى الشكَّ غلّهُ .
اكتفي بهذا التحليل الذي قصدت من ورائه استخراج الاحتمالات الرسالية التي كانت كافية لوضع النص في قائمة الشعر الوطني، وسأتابع المرور على محطّات النص الأخرى عبر المداخل الأتية
أولا : الفضاء البصري .
الفضاء البصري للنص، معمّد بعمودين ، شطر وعجز نظما على البحر الطويل ، وهو من البحور الشعرية المركبة الذي يتطلب نفسا شعريا طويلا وهو من البحور الغنيّة بالكلمات كما إنّه من البحور الخطابية الحماسيّة ، فقد جاءت هذه القصيدة في سبع وعشرين بيتاً ، على قافية اللام تلك القافية الصعبة المراس ، فمن صفات اللام بحسب ما وصفها إبن جنّي ، هو التوسط بين الجهر والهمس من جهة وبين الشدّة والرخاوة من جهة أخرى ، وذلك راجع لطبيعة مخرجه الفريد ، فهو مغلق من الأمام مفتوح من الخلف بحيث يلاقي الحرف إعاقة في أوله ثم يتدفّق في منتهاه ، وله نبرة موسيقية حركية وازنت في النص بين همسِ الحزن الدفين واللوعة وأنين الحنين والأختناق والتقريع والسخرية من الأوضاع ، بقصد استنهاض النخوة والهمم ، كما نجد إيقاع القصيدة واضحا في توافق الألفاظ والجمل بما يخدم النص ، على الرغم من إغفال الشاعر استخدام أدوات التنقيط من فوارز وعلامات الاستفهام وغيرها الكثير التي تضفي على النص دلالات متعددة .
ثانيا :البيئة الشعرية للنص ومقاييس دقته :
للنص بيئتان ، بيئة مكانية محيطة بالشاعر تتمثل في وطنه العراق ، الذي أبتلاه الله منذ مطلع حضارته بالحروب والصراعات والأزمات وما يزال غارقا في أتون النزاعات التي أمتدّت أذيالها لتضرب عمقا وتتناحر الملل والطوائف على سلطة لا يحوزها إلا المتنفّذون ، وبيئة داخلية أرضيتها نفسيّة الشاعر ووجعه وهو يتألم لما آل إليه هذا الوطن :
أسيرُ نبوءاتٍ يخالُكَ شاحباً
وبي وجعُ المحتلِّ يمضي يجلُّهُ
وأعربَ عن أمر وما الريحُ تشتهي
سوى لحظةٍ مرّت تبعثرَ رملُهُ
بغيرِ عراقِ اللهِ ما عدتُ راغباً
بديلا بما أبدى على الناس هطلُهُ
ثالثا :مقاييس نقد المعنى في النص
إذا ارتكزنا اولا على مقياس الصحة والخطأ في هذا النص ، فإننا نلحظ أنه ضمّ حقائق تأريخية ومعرفية ولغوية إذ لم أجد في النص أيَّ أخطاءٍ لغويّةٍ او مغالطات تأريخية أو حقائق معرفية مضللة.وأمّا عن مقياس الجدة والابتكار ، فالمعاني التي طرقها الشاعر لم تكن جديدة وهذا ليس بالضرورة دليل على أن النص كان بعيدا عن الابتكار والتجديد ،إنّما نلمس الجدّةَ في طريقة رصف المعاني واتساقها وتسلسل الأفكار وترتيبها ، فالمبدع نقلنا في مناخات القصيدة درجة درجة ، لم يأخذنا صعودا تارة وهبوطا أخرى كما تحقق في طريقة سرد الأحداث والعودة للماضي التليد ثم الرجوع للحاضر المقيت ، وتطلعه وأمله ورجائه في المستقبل واخيرا في الدعاء للوطن . وأما عن مقياس نقد العاطفة ، فقد جاءت العاطفة صادقة وقد عرف وليد حسين بمواقفه الوطنية وتوجهاته ودعواته إلى إعادة مجد العراق ، وهذه القصيدة جاءت وطنية وجدانية ذات مناخات حزينة بفعل الحروب والتشرذم والضياع والتشتّت وهي لا شكّ مؤثرّة في ضمير كلّ وطني .
رابعا : الصور الشعرية
جاء النص زاخرا بعدد من الصور الحسيّة التي اعتمدت على عنصر التشخيص ، الأمر الذي جعل النص يميل نحو العاطفة وينزاح إلى الخيال بدرجة معقولة ، فالتجربة الشعورية للشاعر ناطقة تحكي كل ما في نفسه وخاطره وقد مزج بين الواقعي والمتخيّل في لوحة منظورة مستعينا بمجموعة من الأفعال الأخبارية التي اضفت على النص الحركية والحيوية نقرا مثلا :
يروّجُ للماضي وكم أشعلَ المدى
حديثاً معاداً والهشيمُ يقلُّهُ
ويمتهنُ الثغراتِ حتى تبرمت
ندوبٌ بها عمقٌ رعى الشكّ غلّهُ
كما مزج الشاعر بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي مما أضفى على النص جمالية ووضوحا ، وقد طرح الشاعر جملة من التساؤلات الفكرية والاجتماعية والسياسية والوجدانية لا تخلو من التقريع بقصد إثارة الشعور بالخجل مما اقترفوا ومما يقترفون ، نقرا :
وينأى بنا التغييرُ ما بالُ ملهمٍ
يعيشُ ضياعاً والرؤى تستغلُّهُ
عليلا …وكم يلقى غوائل حاقد ٍ
أضرّ به الأباءُ قد بانَ طِفلُه .
وأخيرا استطيع القول : إن الشّاعر وليد حسين أثرى نّصه هذا من كنوز قاموسه اللغوي ، ووشاها بالتراكيب المنتقاة انتقاءً دقيقا بما يتناسب مع موضوعة النص ، ومجمل رؤاه في هذا المضمون ، فجاءت الألفاظ قوية محكمة المعاني ، وسلسة منسابة لا تكلّف فيها مع إنها ليست بالسهلة ، والواضح أنه أحكم ترويضها فأتته طائعة مرنة .