صفحات منسية في تاريخ المسرح العراقي.. أول حادثة اغتيال سياسي يوظفها المسرحيون العراقيون في عرض مسرحي
د. عبد الإله كمال الدين
في شهر آب من سنة ٢٠٢١م نظرت السلطات الأمريكية بطلب الالتماس المقدم من السجين سرحان بشارة سرحان لاطلاق سراحه المشروط من السجن بعد أن أمضى فيه (٥٣) عاماً جراء اغتياله مع سبق الاصرار والترصد السيناتور الأمريكي روبرت كيندي في مدينة لوس انجلس جنوب كاليفورنيا في حزيران عام ١٩٦٨ وقد تزامن ذلك مع الذكرى الأولى لهزيمة مصر وسوريا والأردن في حرب الأيام الستة.
فمنْ هو سرحان بشارة سرحان وما هي تفاصيل قضيته؟
ولد سرحان بشارة سرحان في مدينة القدس في ١٩ آذار سنة ١٩٤٤ م وهو ينتمي الى عائلة مسيحية فلسطينية عانت من التجاوزات الإسرائيلية على الفلسطينيين، في الثانية عشرة من عمره هاجرت أسرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، واستقرت بولاية كاليفورنيا حيث أكمل سرحان دراسته الجامعية. رفض سرحان الحصول على الجنسية الأمريكية، وفضَّل التمتع بصفة مقيم والاحتفاظ بجنسيته الأردنية احتجاجاً على المواقف الأمريكية المساندة لإسرائيل.
أحيل سرحان الى المحكمة بعد أن ألقي القبض عليه دون مقاومة في موقع الاغتيال وأقر بما فعله معللاً ذلك بموقف السيناتور روبرت كيندي من حقوق الفلسطينيين ودعمه لإسرائيل وحين سأله القاضي :هل أنتَ نادمٌ على ما فعلت؟ أجاب سرحان بالنفي.
حكم على سرحان بالإعدام، وقبل تنفيذ الحكم صدر قانون إلغاء عقوبة الإعدام في ولاية كاليفورنيا فخفض قرار الإعدام الى السجن المؤبد.
سرحان بشارة سرحان على خشبة مسرح بغداد
بعد أقل من عام على محاكمة سرحان بشارة سرحان شهدت خشبة مسرح بغداد عام١٩٦٩ عرضاً مسرحياً استثنائياً تناول قضية سرحان بشارة سرحان من منطلق التعاطف والمؤازرة سياسياً عبر المسرح كوسيلة تعبير مؤثرة في جمهور واسع.
قدمت العرض فرقة اتحاد الفنانين التي أسست في النصف الثاني من الستينيات، وضمت عدداً من المسرحيين أبرزهم: طه سالم، محسن العزاوي، فاضل قزاز، خالد سعيد، محسن سعدون، عبد الوهاب الدايني، وجميعهم من خريجي الجامعات الاجنبية باستثناء طه سالم إلى جانب ممارسة بعضهم لمهام التدريس في معهد الفنون.
استند النص الذي ألفه نوئيل رسام على حدث الاغتيال ودوافعه من خلال رؤية المؤلف والمخرج والفرقة. أسندت الفرقة عملية الإخراج للمدرس في معهد الفنون خالد سعيد الذي كان قد تخرج في معهد كودمان ثيتر في شيكاغو عام ١٩٦٦ وهو نفس المعهد الذي تخرج فيه جاسم العبودي وإبراهيم جلال وجعفر السعدي وبهتان ميخائيل وحسن النظامي.
استعان المخرج بمجموعة من أعضاء الفرقة وخارجها وأغلبهم كانوا طلبةً في المعهد لتمثيل شخوص العرض، وعلى النحو الآتي: قام الفنان حسن حسني بدور سرحان بشارة سرحان، وصلاح الصكر بدور شقيق سرحان ورشحت منظمة التحرير الفلسطينية شابةً فلسطينيةً لتمثيل دور صديقة سرحان، وأدى طه سالم دور القاضي، وصبحي العزاوي دور المدعي العام، وطلال القيسي دور المحامي، والى جانبهم عدد من الممثلين بدور الشهود وأدوار أخرى أداها الفنانون غانم بابان ، عبد المطلب السنيد، نبيل يوسف ،جواد الشكرجي، حامد ثامر فضلاً عن المدرس في المعهد الفنان عبد الله جواد.. استمر العرض لفترة أسبوع كامل وحضره جمهور غفير ثمَّ اعيد العرض قي كلية العلوم في الأعظمية لفسح المجال لأكبر عددٍ من المتلقين امشاهدته.
مَنْ هو مؤلف نص مسرحية سرحان بشارة سرحان؟
قام بتأليف النص المحامي والقاص والسياسي المخضرم نوئيل رسام(والد الإعلامية شميم رسام) المولود في الموصل عام١٩١٠، اشترك في حركة رشيد عالي الكيلاني سنة١٩٤١ وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، دخل كلية الحقوق في بغداد وتخرج فيها عام ١٩٣٤ وتزوج من اللبنانية صوفي بخمازي عام ١٩٣٥، عمل في حزب الاستقلال مع محمد مهدي كبة، وأسهم في تحرير جريدة “النضال”، انتقل من الموصل الى بغداد ووطد علاقته بالوسط السياسي.
اعتقل عام ١٩٧٤ بتهمة معاداة النظام السابق وأحيل الى محكمة الثورة، ثمَّ أطلق سراحه بعد فترة. يعد نوئيل رسام من رواد القصة القصيرة في العراق، ومن أشهر قصصه ” موت فقير” عام١٩٣٠ وقصص أخرى، ويرى بعض النقاد أنَّ مصطلح ” القصة القصيرة جدا” يعود الى نوئيل رسام .
نشر الباحث وديع شامخ كتاباً عن سيرة نوئيل رسام السياسية بعنوان (سجناء الفكر في العراق الحديث، أوراق نوئيل رسام من خلف قضبان الحكم الملكي)، هاجر نوئيل رسام الى أمريكا عام١٩٩١ليلتحق بأسرته وتوفي فيها عام٢٠٠١. لقد عمدنا إلى ذكر تفاصيل عن مؤلف مسرحية سرحان بشارة سرحان(وهو النص المسرحي الوحيد الذي كتبه في حياته) لنقف على الدوافع الأساسية في اهتمامه بقضية سرحان بشارة سرحان وبهذا الصدد نؤشر الاستنتاجات التالية: أنَّ كلاً من سرحان بشارة سرحان ونوئيل رسام ينتميان الى الطائفة المسيحية وجمعهما الاحساس بقضايا الوطن الذي عاشا فيه. وقد وقف نوئيل رسام مناهضاً للنفوذ البريطاني في العراق ابان الأربعينيات كما وقف سرحان بشارة مناهضاً للدعم الأمريكي لإسرائيل في فلسطين في أواخر الستينيات .
لقد هاجر سرحان وأسرته إلى أمريكا كما هاجر نوئيل رسام وأسرته اليها أيضاً وعانى سرحان بشارة سرحان من قساوة السجن في كاليفورنيا كما عانى نوئيل رسام في سجون العهد الملكي في الأربعينات والسجن في عهد البعث في السبعينيات، وبهذا دفع كلاهما ضريبة اعتناق الفكر السياسي عذاباً ومعاناةً قاسيةً.
إنَّ تقديم مسرحية سرحان بشارة سرحان في بغداد عام ١٩٦٩ جاء كرد فعل مباشر لحدث نوعي هز العالم آنذاك فالرأي العام الأمريكي أدان ما ارتكبه سرحان، وهو مقيم في أرض أمريكية ويعامل كمواطن أمريكي من حيث الحقوق والواجبات وقد فسر بعض المحللين الأمريكان ( وهم على خطأ في تقديرنا) بأنَّ النزعة العدوانية في سلوك سرحان هي نزعة تفسير متأصلة في معظم اللاجئين العرب القادمين من الشرق الأوسط، في حين نظر معظم العرب الى سرحان بشارة سرحان كبطل مقاوم للظلم الذي لحق بالفلسطينيين وأنَّ تقديم العرض المسرحي ما هو الا تعبير عن موقف العراقيين ازاء قضية سرحان لاسيما وأنَّ العرض كان أول عمل مسرحي يتصدى لموضوع سرحان بشارة في الوطن العربي.