فلسطين بين روسيا وأوكرانيا
نهاد أبو غوش | فلسطين
يتابع الفلسطينيون والعرب عموما السجال والحوارات الجارية حول التوتر القائم في شرق أوروبا، واحتمالات قيام روسيا باجتياح جارتها اوكرانيا، ولدى متابعتنا لردود الفعل والتعليقات وطريقة التفاعل مع هذه الأحداث فإننا نرى عجبا: معظم الفضائيات العربية تبث بحماسة واهتمام بالغين تقارير خاصة ومصورة عن الصراع وخلفياته التاريخية، وكذلك تفعل الإذاعات والصحف ووسائل الإعلام الأخرى. أما منصات ووسائل التواصل الاجتماعي فحدّث ولا حرج، فقد امتلأت هي الأخرى أكثر من غيرها بالتحليلات والمواقف والاقتباسات التي تبدي انحيازها لهذا الطرف أو ذاك، حتى بات جمهورنا منقسما في مشاعره وعواطفه وكأنه يتابع مباراة مثيرة في كرة القدم فيتحمس بعضنا بكل جوارحه للفريق الذي يشجعه معددا مزاياه واسباب تفوقه، لا كمن يترقب لعبة دموية قد تعصف بدول وشعوب ونظام دولي.
وإذا تطورت الأمور أكثر لا قدّر الله، وتورّطت أميركا وأوروبا في هذا الصراع، فمن المحتمل أن تقضي أية حرب نووية على حياة البشر كلّهم وليس على كيان سياسي أو نظام حكم بعينه. فلدى كل من روسيا والولايات المتحدة أكثر من ستة آلاف رأس نووي، يكفي جزء بسيط منها لتدمير العالم وتحويله هباءً منثورا، وحتى لو وقع صِدامٌ محدود بالأسلحة التقليدية، فإن الأرجح أن تكون الدول والكيانات الضعيفة والهشة أبرز ضحايا مثل هذه المواجهة العسكرية، ومن المعلوم أن وضعنا الفلسطيني الآن هو الأكثر هشاشةً وضعفا لأسباب كثيرة، من بينها اعتمادنا المطلق على دولة الاحتلال في شؤون حياتنا كافة بما في ذلك طعامنا وشرابنا وموارد الطاقة التي نستخدمها، والانقسام الذي يضعف خياراتنا الذاتية ويعطّلها، ثم انفضاض إخوتنا العرب عنا وانشغالهم بمشكلاتهم الداخلية وصراعاتهم المحورية، إلى جانب تهميش قضيتنا في نظر كل الدول العالم ومراكزه المؤثرة.
اللافت أن أبواق الدعاية الأميركية هي أكثرُ من يتحدث عن خطر الحرب الوشيك، بينما الأوساط الأوروبية ترجّح خيارات التسوية السياسية في ضوء المصالح المتداخلة والجوار اللصيق بين روسيا وأوروبا، أما الأوساط الروسية والأوكرانية فهي تستبعد خيار الحرب، ولعل ذلك يؤكد أن النفخ في خيار الحرب وتضخيم احتمالات وقوعها هو خيار سياسي أميركي بحد ذاته، ويرمي من جملة أمور أخرى إلى بناء اصطفافات عالمية جديدة، وفرض مزيد من العزلة والحصار على روسيا لمنعها من التمدد والاضطلاع بدور عالمي محوري ومؤثر، وقطع الطريق على قيام محور صيني روسي يضع حدا للهيمنة الأميركية الأحادية على العالم.
تشير كثير من التقديرات الواقعية إلى أن روسيا ليست بحاجة إلى شن حرب حقيقية على أوكرانيا، فكلفة هذا الخيار على روسيا وعلى العالم أجمع باهظة جدا، وبدل ذلك لدى روسيا كثير من الأدوات والوسائل التي تمكّنها من تحقيق أهدافها من دون خوض قتال فعلي، ومن هذه الوسائل ما قامت به حتى الآن من استعراضات للقوة ومناورات وحشد للفرق العسكرية، ونشر أنباء وتقارير عن قدراتها العسكرية المتطورة التي تظهر تفوقها المطلق على جارتها وحتى على دول غرب اوروبا مجتمعة، وبالتالي هي تستطيع أن تحقق أهدافَها من خلال الردع والترهيب والتلويح باستخدام القوة، ومن الوسائل المهمة كذلك قدرة روسيا على تحريك أدواتٍ مواليةٍ لها داخل أوكرانيا نفسها، وخصوصا في ظل التداخل الثقافي والسكاني والجغرافي المعقد بين البلدين، ووجود إقليمين متمردين في شرق أوكرانيا تقودهما قوى انفصالية أعلنت عنهما كجمهوريتين مستقلتين هما جمهوريتا (دونيتسك) و(لوغانسك) اللتان تزيد مساحتهما عن ضعف مساحة فلسطين التاريخية، ومن المفيد التذكير هنا أن روسيا سبق لها أن ضمت شبه جزيرة القرم في العام 2014 (مساحتها تعادل مساحة فلسطين بالضبط) من دون ان يبدي العالم احتجاجا جديا على ذلك.
روسيا اليوم ليست روسيا الضعيفة المتهالكة في مطلع التسعينات تحت قيادة بوريس ييلتسين، والخارجة لتوها من انهيار الاتحاد السوفييتي، عندها انهارت جمهوريات الاتحاد الواحدة تلو الأخرى مثل أحجار الدومينو، وبعضها التحق بالاتحاد الأوروبي وبحلف الناتو من موقع الضعف والتبعية، لكن روسيا استعادت مكانتها بالتدريج، وباتت قادرة ليس فقط على الدفاع عن نفسها، بل وحتى حماية مصالحها في محيطها الحيوي كما فعلت في روسيا وقبل ذلك في جورجيا.
إسرائيل كانت شديدة الحذر في تعاملها مع الأزمة الروسية الأوكرانية، بل بدا موقفها محرجا في ضوء تحالفها الاستراتيجي وعلاقتها العضوية التي لا مثيل لها بالولايات المتحدة من جهة، وكذلك علاقتها الجيدة والمتميزة ومصالحها الآخذة بالتوسع مع كل من روسيا واوكرانيا، ولكنها قطعا لا يمكنها أن تقايض علاقاتها بالولايات المتحدة بأية علاقة أخرى مهما بدت وثيقة.
أما نحن كفلسطينيين فمن المؤكد أن لا مصلحة لنا في هذه الحرب ولا في غيرها من الحروب الدولية، لأن انشغال العالم عنا وعن قضيتنا يتركنا فريسة للمخططات الإسرائيلية، حيث يمكن لحكومة الاحتلال أن تستغل أية أزمة دولية، أو لحظة “عتمة” لكي تُنفِّذ على الأرض ما تتردد أو تحجم عن تنفيذه في الأوقات العادية مثل مخطط التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، أو تهجير مواطنين فلسطينيين من القدس أو الخان الحمر أو الأغوار، أو ضم مستوطنات، وتنفيذ مزيد من المشاريع الاستيطانية وغيرها من المشاريع الجاهزة نظريا، ولكنها تنتظر الفرصة المواتية.
حالة الضعف والهشاشة التي نعاني منها تجعلنا الأضعف في مواجهة أية أزمة محلية أو إقليمية او دولية، وهذه الدنيا حبلى بالمفاجآت التي قد تدهمنا في اية لحظة، ما يملي علينا وعلى قياداتنا ومؤسساتنا العمل في أسرع وقت ممكن على إعادة تنظيم صفوفنا وترتيب بيتنا الداخلي على نحو يجعلنا أكثر قدرة على مواجهة التحديات والمخاطر المختلفة.