الإيحاء في ديوان”أنثى البنفسج” لندى محمد أبو شاويش
رائد محمد الحواري | فلسطين
لا شك أن لغة المرأة تتباين عن لغة الرجل، كما أن خجلها يجعلها تستخدم الإيحاء، مبتعدة عن المباشرة والتصريح عن حاجاتها/رغباتها/همومها، وهذا الإيحاء بحاجة إلى قدرات خاصة ولغة تُوصل الفكرة للمتلقي، هذا ما نجده في ديوان “أنثى البنفسج” وبما أنه صادر عن أنثى، فإن له أثر استثنائي على المتلقي، الذي يستمع/يقرأ باهتمام ما جاء فيه، مستمتعا بحديث الأنثى/المرأة التي غالبا من يتم كتمان صوتها في المجتمع الذكوري.
تكثر في الديوان استخدام ألفاظ “مطر، غيمة، سحاب، ندى، سنابل، قمح، أرض، سماء، فراشات، فجر، شفتين، جسد، سرير” إضافة إلى ما هو متعلق بها، فنجد: “نزل، غسل، يشرب، أتوضأ، صوت، حصاد، المناجل، أرى” وهذا يأخذنا إلى فكرة الخصب والجمال التي تُحدثها “عشتار والبعل” في الأرض والبشر.
ونلاحظ أن الشاعرة تركيز على ألفاظ الماء ـ أهم مصدر للحياة ـ وهذا يجعلنا نقول أنها تميل/تنحاز للخصب للحياة، إن كان متعلق بما هو أرضي/طبيعي، أم خصب بشري/التزاوج والتكاثر.
سنحاول التوقف عند بعض ما جاء في الديوان لتباين ما جاء سابقا، بداية ننوه إلى أن غالبية قصائد الديوان جاءت بصيغة أنا المتكلم/الشاعرة، والقليل منها جاء بصيغة وصف خارجي، وهذا يشير إلى توحد الشاعرة مع القصائد، فآثرت ان تأتي بصوتها/بلغتها هي وليس بصوت آخر، تقول في قصيدة “في خصلات البروج السبعة”:
“في عمق العتمة
خضت حالك الليل
افترشت صوتك
هتفت بشاسع الوجوه
“يا قسوة الجدران “
مزقت رجع أهازيجي
ماذا لو كنت السنابل
مجدولة الأهداب؟!
لو كان كفك سريرا
على طلل الجسد
لكنت يبابا لأرض
تعشق المطر” ص17، نلاحظ أن هناك الفاظ متعلقة بالصوت: “صوتك، هتفت، يا..، أهازيجي” ومتعلق بما هو بشري: “الوجوه، كفك، الجسد، الأهداب” وهذا يخدم فكرة اللقاء بين الرجل والمرأة، وألفاظ متعلقة بخصب الأرض: “سنابل، المطر” وهذا يأخذنا إلى رمزية خصب “عشتار/البعل” إن كان هذا الخصب متعلق بالأرض/بالطبيعة، أم بالناس/بالبشر، وبما أن (خصب) البشر يحتاج إلى ألفاظ وحالات تتميز عن الطبيعة، فقد استخدمت الشاعرة ألفاظا تخدم هذا (الخصب) والتي نجدها في: “افترشت، سريرا”، وهناك عبارات داعمة لهذا اللقاء والتي نجدها في: “مزقت رجع أهازيجي/ لكنت يبابا لأرض/تعشق المطر” وإذا ما توقفنا عند المقطع الأخير: ” ماذا لو كنت السنابل/مجدولة الأهداب؟!/لو كان كفك سريرا/على طلل الجسد/لكنت يبابا لأرض/تعشق المطر” سنجد أن هناك إيحاء بلقاء جسدي، أو رغبة بلقاء جسدي لكن دون البوح المباشر، وهذا ما يجعل المتلقي يهيم في فضاء التخيل، محلقا في عالم شاسع ليس له حدود/فواصل/تفاصيل عن طبيعة هذا اللقاء.
وتقول في قصيدة “ذكرى عطر”:
“رحلت في جسدي
لهيب أنفاسك
رحلت وفي ثيابي
أسرار عطرك
يأكل الفتنة
واللهفة
والانتظار في مساء الغياب
غيابك كغيمة صيف
بللت حملي
والحلم
توسد شفتيك
على سرير الحكايات
وفستاني
لا زال بعطرك بكرا يبكي
رحيل الجسد
كأوركسترا الجنون
تنتظر عطرك الدافئ الفرنسي
تنتظر غواية الحقول للفراشات” ص24و25، عندما تتناول الشاعرة الخصب البشري نجدها (تميل) قليلا إلى التوضيح، فتكرار “رحلت، عطر/عطرك، ثيابي/فستاني، حلمي/حلم، تنظر” وإذا علمنا أن التكرار/الثنائية غالبا ما تشير إلى الرغبة بلقاء الحبيب/ة التي يحملها العقل الباطن لشاعر/ة يمكننا القول أن هناك (بوح) مستتر عن اللقاء، وهذا ما يجعلنا نقول: أن هناك شيء من التوضيح، فشكليا لا نجد ما يشير/يؤكد هذا البوح، لكن في المضمون/الفكرة تصل فكرة اللقاء إلى القارئ، الذي يجدها بين الكلمات الحارة: “لهيب، يأكل، الفتنة، اللهفة، يبكي، الدافئ، غواية” فكل هذه الألفاظ تأخذ المتلقي إلى اللقاء الجسدي، وإلى حميمية هذا اللقاء.
فالشاعرة تستخدم خصب الطبيعة لتشير وتأكد خصب البشر، من هنا جاءت الطبيعة: “كغيمة صيف، غواية الحقول للفراشات” كتشبيه، وليس كاستعارة، وهذا ما يؤكد أن هناك (انحياز/انحراف) نحو الوضوح والبوح بما في النفس من حاجة/رغبة/مشاعر تجاه لقاء الحبيب.
وتقول في قصيدة “يا سماء”:
“بعدما عمد غيمك الفجر
ورصد شتاءات الرحيل
نأى النور خلف عباءة الليل
يكحل الغياب
يسرج القناديل من نزف الوجع الشفيف
ها أنا في أروقة عينيك
أتوسد السماء السابعة
أتوضأ دمع السنابل
أسجد على تراب العتيق
أنتحب تلال الراحلين” ص49، في هذه المقطع نجد خصب الطبيعة/الأرض، من خلال: “غيمك، الفجر، شتاءات، الليل، السماء، السنابل، تراب، تلال” وهذا يؤكد على ان الشاعرة تستخدم قاموس لغوي خاص بها، متعلق بألفاظ بعينها: “مطر، غيمة، سحاب، ندى، سنابل، قمح، أرض، فراشات، سماء، فجر، شفتين، جسد، سرير”، ونجد الإيحاء باللقاء الجسدي من خلال: “بعدما عمد غيمك الفجر/ يكحل الغياب/يسرج القناديل من نزف الوجع الشفيف/أتوضأ دمع السنابل” وهذا يشير إلى أن نسق القصائد متماثل ومتقارب ويخدم فكرة وحدة الديوان.
وبما أن القصيدة جاءت بصيغة أنا المتكلم/الشاعرة، فهذا يؤكد على حالة التماهي بين القصيدة والشاعرة، والتي نجدها في العلاقة المتداخلة بين ما هو طبيعي/أرضي وما هو بشري/إنساني، فالتداخل والتمازج بين خصب الطبيعة والخصب البشري يشير إلى حالة التماهي بين الشاعرة وبين القصيدة التي تكتبها، فكما (أخفت) رغبتها بلقاء الحبيب، أخفت تماهيها مع القصيدة من خلال تناولها لما هو طبيعي ولما هو بشري، وهذا ما جعل الديوان يأخذ سمة المزاوجة بين ما هو طبيعي وما هو بشري/إنساني.
قلنا ان غالبية قصائد الديوان قدمت بصيغة أنا المتكلمة/الشاعرة، لكن هناك بعض القصائد خارجت على هذه الصيغة، منها قصيدة: “لا تنسيني” والتي جاءت بصيغة أنا الرجل، جاء في القصيدة:
“قديسة أنت
زهرة نرجس
تغسلك أنهار الكمنجات
على وتر شاعرة
وشاعر
اشربيني كدمعة فراق
لأهطل عليك شوقا
عند غياب غيمة
أفرغ فيك وداعي
ويبقى صوتك الذائب بالصدى
فلا تنسيني” ص86، أيضا نجد أن الرجل يستخدم الإيحاء، كحال الشاعرة، فهو يتماثل معها في عدم البوح المباشر، لكنه يوصل فكرة اللقاء بينها من خلال: “تغسلك أنهار، اشربيني كدمعة، لأهطل عليك، أفرغ فيك” فكل هذه إيحاءات باللقاء بينهما، وأيضا يستخدم عين قاموسها اللغوي الذي يجمع بين ما هو طبيعي: “أنهار، زهرة، نرجس، غيمة” وما هو بشري: “قديسة، شاعرة/شاعر، شوقا، وداعي، صوتك، تنسيني” وكأن الشاعرة أرادت أن تشير إلى أن (حبيبها) متماثل معها في كل شيء، حتى في طريقة الحديث والألفاظ التي يستخدمها، فهما متماهيان معا حتى في أبسط الأشياء.
هناك قصيدتنا جاءتا خارج نسق الديوان، “قصيدة “عيد ورصاص” حيث قدمت من خلال صور متقطعة:
” شفاه قرمزية بلوم الدم الطازج
تستحم بغدير السراب
بائع غزل البنات لم يأتي بعد
نايات الرصاص في باحة الحديثة تمحو الشمس
تصطاد الفراشات” ص35، وهذا له علاقة بحجم السواد الذي تحمله القصيدة، فالشاعرة لم تستطع أن تتحدث عن السواد/الألم دفعة واحدة وضمن تسلسل، فآثرت أن تقدمه بصورة متقطعة حتى تأخذ (استراحة)، وكي تريح القارئ من حجم القتامة التي تحملها القصيدة.
ونجد قصة شعرية قدمت من خلال قصيدة “فوضى رصيف” ص37، أما بقية القصائد فهي متماثلة ومتقاربة في الشكل وطريقة التقديم.
الديوان نشر عام 2022.