حوار مع “أحدب نوتردام”
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
في رائعة الكاتب الكبير: فيكتور هوجو، التي أسماها (أحدب نوتردام).. تسأل الغجرية الأحدب عن اسمه فيجيبها: (كوزموندو)، فتسأله: وما معنى كوزموندو فيقول: شبه إنسان أو بقايا إنسان.. وهذه هي الفكرة المحورية التي تنسج حولها أحداث الرواية؛ حيث تراجع الفكرة الإنسانية في عصور الظلام الأوربية إثر هذا التغييب العقلي الذي فرضته الكنيسة على العقل البشري، واستئثارها بالعلم دون البشر، في حين أن العلم لديها لم يكن سوى بقايا من الكتاب المقدس وخلط من افتراءات البشر وادعاءاتهم ما يخدم سلطانهم وملكهم؛ كذا تغييب الفكرة الروحية البشرية وطمس الفطرة الطبيعية الخلقية بعد هذه الطقوس والرسوم والتعاليم والمخترعات التي فرضتها الكنيسة وأوحت للبشر أن فيها خلاصهم من الدنس الأرضي إلى الفردوس السماوي، حين اخترعت هذه العزلة النفسية والشعورية والجسدية (الرهبانية)، والتي نعى الإسلام على أصحابها “ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها”..، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم “فتلك بقاياهم في الصوامع والأديرة .. رهبانية ابتدعوها”.
هذا التجريف للعنصر البشري (الجسدي والنفسي) الذي صنعته الكنيسة في عصور الظلام، فشوهت الفطرة الخلقية والخلقية والروحية؛ فجاءت صورة الأحدب النفسية والجسدية أرقى تمثيلا لهذه الفكرة الإنسانية المشوهة.. لم يشأ الكاتب أن يتحول عن لفظ (الإنسان) حتى لا يكون الزعم هو انتهاء الإنسان، أو اندثاره.. إنما قصد البقايا الفطرية، بقايا النفخة الإلهية التي لا تزال موجودة لم ترق الأيدي الآثمة أن تطمسها أو تجرفها، إنما غيَّبتها في ركام المخترعات والمفتريات.
يقع الأحدب في حب الغجرية، وكأنه يمثل الجسد، وهي الروح، وكأن الإنسان قد ألهم أن قابل روحه التي انفصلت عنه في خضم هذا التغييب، ثم يقع الراهب (راعي الكنيسة) في غرام الغجرية بعد أن امتد به العمر واستطال به الزمان، ووهن منه العظم، فإذا هذه الفتنة الجسدية تطل برأسها من بين هذا الطمس، وتحطم أغلال التغييب، وتنسف كل فروض الرهبانية وتعاليمها ورسومها التي حطت بها على هذا الجسد ردحا من الدهر، فيتمرد الجسد، ويأبى إلا أن يرتد إلى ناموسه الطبيعي.. ويسقط في يد الراهب ويغلب أمام هذه الثورة الجسمية الضارية، فيحاول أن يغري الغجرية أن تهب نفسها للكنيسة كنوع من التحايل على الباطل الذي يقيم عليه، فيجمع بين متعة الدنيا وفردوس الآخرة المزعوم؛ متخليا بذلك أمام نفسه فقط عن طقوسه التعبدية التي يفرضها على العامة..
وتتفطن الغجرية صاحبة الفطرة البسيطة لهذا الخبث المتداعي المتراكم عبر السنين الذي استطاع أن يخدع العامة، ويحيد سلطة الملك فلا تتعدى إلا أن تكون تحت مظلة الكنيسة؛ سلطة مفرغة من مضمونها ومن حقيقتها.. ويقتل الراهب الوزير صاحب فكرة التنوير والقراءة، والمتمرد بعقله بعد استغراقه في القراءة والعلم، فيأبى الراهب إلا أن يوقف هذه الدعوة التي تطل برأسها من بين العفن المترامي، حتى لا تفسد عليه غروره وسلطانه، فينتبه الشعب، وتستيقظ العقول، وتستفيق الفطر.. ويتهم الراهب الغجرية بقتل الوزير، ويحكم عليها بالموت شنقا، ويراودها مرارا أن تهب نفسها للكنيسة حتى يمنحها الخلاص فتتأبى عليه مستعصمة، وتمعن في الصد عنه، مدركة حقيقته المتوارية، وصورته الفاسدة التي يواريها بين ضلوعه، ويتلبس مسوح الرهبان، حين يحمل بين جنبيه قلبا من ضغن، حاقدا، وروحا متلبسة بالشياطين، وغرورا واستكبارا واستحواذا.
ثم تبدو لك في المشهد الكاتدرائية: هذا البناء العظيم، والصرح الذي أمعن الإنسان في تشييده كبيت للرب ــ على حد زعمهم ــ موحيا لك بهذا الإغراق في الصورة المادية الحياتية، والتضلع بنماذج الشكل دون التعمق إلى الداخل الإنساني، والتمحور حول المادة والتفاني في خدمتها، والتغافل عن لطيفة الروح المنوطة الحقيقية بالتعلق بالخالق، والتقرب إليه، والقلب الذي بصلاحه تصلح البشرية وتفسد بفساده.
ويختتم المشهد بموت هذه الأحدب (بقايا الإنسان) ــ بعد صراع مع الراهب ـــ دفاعا عن الغجرية (الفطرة)، بعدما استطاع أن يقتل الراهب الذي حبس الفطرة والعقل ردحا من الزمن، وغُيِّب في سراديب الجهل ما شاء الله له أن يسود ويقود ويحيا ويحكم.. يموت الراهب ويموت بموته الجهل والتغييب، ويموت الأحدب ليحيي بثورته رغم ضعفه وعجزه الفطرة البشرية التي غُيبت قسرا طيلة هذا الزمان؛ وليعود الإنسان بعد موت الأحدب إنسانا كاملا يحيا بين العقل والجسد، والروح والمادة، والنعيم الأرضي والفردوس السماوي كما أراد الله له أن يكون: خليفة في الأرض، متعبدا له على المنهج الذي أراد وشرع، لا كما ادعى واخترع.
لقد أبدع الكاتب في تصوير عصور الظلام التي جنت على نفسها وعلى البشرية وعلى العالم ما يقرب من ألف ومائة عام، غُيِّبت فيها الإنسان، وطُمِست فيها الفطرة، وأدخلت البشرية إلى عهود لم تألفها، وطقوس لم تعلمها ما أنزل الله بها من سلطان.. وهكذا يحدث دوما حين يطغى البشر فيستبدلون مملكة الأرض بمملكة السماء.