خاطف البهجة.. قراءات في شعر السمّاح عبد الله (11)

فتحي محفوظ | ناقد مصري


القصيدة التاسعة: الاستغماية

انزوى الولد الصغير ذو الشعر اللامع
والعيون البنيةوالجزمة القماش
في زاوية ما
بحثنا عنه كثيرا في الأزقةوالمنحنياتوأكواخ البوص
أطلقنا الكلاب خلفه
وأنزلنا الغواصين إلى قاع النهر
وتفقدنا المستشفى المركزي
حتى فقدنا الأمل
بعد سنوات طويلة
كان أبناؤنا يمارسون اللعبة نفسهافي الأماكن نفسها
حين وجدوه
كان لا يزال صغيراوذا شعر لامعوعيون بنية
وفي قدميه الجزمة القماش.

رحلة اللعبة من الخفاء إلى الإخفاء

أرسل عبد الله الأنور فواز الأب كتيبته المكونة من اأ شقاء الأربعة: فولاذ،والسماح والدكتور مشهور فواز وأوفي الأنور (والأخير فضل عدم الذهاب إلي العاصمة وبقي متمسكا بقريته)، أرسلهم الأب لغزو العاصمة القاهرية ربما لاحتلال نواصي الشعر فيها، لكنه فيما يجدر ذكره أن أساليب الشعراء الأربعة في نظم الشعر قد اختلفت، وما عادوا ينتمون الي مدرسة النظم الخاصة بالأب، وهو الشاعر الكلاسيكي العمودي.
وما أعنيه هو، لم يكن ذلك الانتماء الحي لفروع الشجرة إلي جذعها، أو تقييم تجربة الإبداع لدي الأشقاء وفقا لحتميات التواصل علي نفس النهج بمفهوم الانتماء الوراثي، والامتداد الطبيعي لحركة لشعر العمودي، وإنما تفرعت بهم الأسباب والسبل، وقاموا ببناء شخصياتهم الفنية بطرق منفردة لا تشابه فيها. من بين هؤلاء يبرز شاعرنا الكبير السماح عبد الله، كواحد من أكثر الأشقاء تمردا في انتهاج طريق لا يتتبع المسار الوراثي للشعر العمودي .ما كان يميز أسلوب السماح عبد الله عشقه للبساطة في نماذج ولا أروع، وكلها نماذج كفيلة بإثارة الدهشة.
كان العمق في تجارب الإبداع هو السمة الغالبة في نصوصه، وكذلك كانت التعبيرية في الصياغة، والإيغال في الجانب السردي من القصيدة، يتبدي بطريقة مدهشة تثير الحيرة، ومن قصائده التي اخترتها الآن قصيدتين، واحدة تحت عنوان الاستغماية، والأخرى بعنوان الوارثون، وهما أنشودتان من طراز رفيع المستوي .
في النص الأول الاستغماية وهو تعبير شائع عن لعبة شعبيّة يلعبها الأطفالُ، حيث يضع أحدهم غِمامة على عينيه، ويحاول إمساك باقي زملائه، تعتمد الأنشودة علي عنصر الزمن، والزمن هنا هو الفترة اللازمة للبحث والتقصي عن أسباب الاختفاء، طريقة صائبة لرسم اللوحة وفقا لمحتواها التعبيري ، ولا سيما وأن اللوحة رسمت وسط ضجيج لعبة يمارسها الأطفال. فرسم اللوحة ما زال مطروقا من بين خواص الإنشاء كصفة غالبة علي قدرة النص التعبيرية ، أما الجانب السردي في الحكي، فإن النص يطلق له العنان، إبان عمليات البحث وفي حدود اطار اللعبة الزمني.
تتكون تفصيلات اللعبة منذ البداية بالاختفاء، ثم وضع الغمامة علي العين، ثم مرحلة البحث والتقصي عن المخبوء إلي أن يتم العثور علي مكان الاختفاء، لتنتهي لعبة الغماء بكشف الغطاء، وفقا لمردودها الشعبي وفي اطارها الزمني المحسوب:
“انزوى الولد الصغير ذو الشعر اللامع
والعيون البنيةوالجزمة القماش
في زاوية ما “
ليبدأ النص في استخدام ألفاظ منفردة لكل كلمة منها قوة الجملة: ففعل الانزواء يقتنص روح اللعبة في استحضار تقنيات الستر والاختفاء، وعندما يتبعه اسم لمكان الاختفاء، يحدده النص، فهو ذلك المكان الذي يقع في زاوية ما، فيما تبرز علي السطح كلمات متتابعة تقوم بعرض هوية الطفل. ملامحه وسماته: شعر أسود لامع، وعيون بنية، وجزمة مصنوعة من القماش في قدميه.
ينفرد التكوين بتشكيل صورة داخل إطار برسم ملامح الطفل، وزيه بالإضافة الي تعسر تحديد مكان الاختفاء.
تقدم اللوحة في بساطة صورة محددة المعالم لأطفال في لعبة، وعلينا أن نستوعب جوانب الصورة، والتي تمثل في ملامحها الشكلية أحد المجسمات التعبيرية قبل ان نبدأ في تدوين عمليات البحث عن تطورات مرحلة الاختفاء، قبل أن يختفي الشكل ضمن خصائص التكوين، لأن تلك الصورة بجوانبها الانطباعية، سرعان ما تزول بين طيات المكان، ويصبح العثور عليها مسألة وقت.
من جديد نعود لنتحدث عن الوقت داخل إطار الصورة. أن نبحث عن الزمن، إن علامات البحث عن الطفل تأخذ مساراتها عبر فواصل مبدعة وحية:
” بحثنا عنه كثيرا في الأزقةوالمنحنياتوأكواخ البوص
أطلقنا الكلاب خلفهوأنزلنا الغواصين إلى قاع النهر
وتفقدنا المستشفى المركزي
حتى فقدنا الأمل “
تنقلنا الكلمات التي تحتوي علي قوة الدفع إلي ما هو مطبوع داخل إطار اللوحة. فأماكن البحث عن طفل الاستغماية تتراوح بين الأزقة والمنحنيات وأكواخ البوص، ومشقة البحث تقترن ضوابطها بضآلة أماكن البحث وغرابتها، كما أن إطلاق الكلاب لمزاولة عمليات البحث تتيح لنا الفرصة لربط وسائل البحث، كاستخدام الكلاب بأغراض البحث، مع مزاوجة التعبير باستخدام الكلاب كصفة مشتركة تتراوح بين البحث عن طفل الاستغماية، مع طرق البحث عن مجرم طريد، وبنفس القصد، تتزاوج طرق البحث عن طفل الاستغماية عندما قاموا بإنزال الغواصين للبحث عن الطفل في قاع النهر، مع طرائق البحث عن غرقي في قاع النهر، وهو ما يتضافر مع معاني مركبة لوجود غريق في قاع النهر أو مصاب في المستشفى المركزي.
وتبدو وسائل البحث عن المفقود في لعبة الغماء في تحولاتها المنتظمة من مستويات البحث عن طفل، إلي مستويات أكثر تعقيدا، مثلما تعنيه وسائل البحث عن مفقود أو غريق أو مصاب إلي مستويات البحث والأكثر تعقيدا عن فقيد.
إننا بإزاء صدمة بمناسبة طرق البحث، ولا سيما وأن
زمن البحث قد امتد وتحول، من زمن بسيط للعبة شعبية، إلي سنوات طوال بطول العمر، وهذا ما شكل جزءا مضافا لآليات الصدمة، وهي صدمة من نوع خاص يتعلق بها كتاب الدراما، ويطلقون عليها المفارقة.
نجدنا الآن إزاء مفارقة او خيط وحيد تضافر مع البناء الدرامي للوحة الاستغماية. من الممكن أن نستوعب ذلك في حدود الترف العبثي، والذي يختفي من خلفه نص غاية في الجمال، كما تختفي من خلفه صورة مرحة لعبث طفولي، وقد تحول إلي عبث فلسفي. نحن الآن في طرق متشعبة، يمهدها النص الرائع ، فانقضاء الزمن وتحوله من هنيهة إلي سنوات، يحيل موضوع اللعبة، وهي عن الخفاء، الي سمته الرئيسية، وهي عن تحولات جذرية لمضمون الخفاء إلي مضمون الإخفاء، ومضمون الاخفاء مضمون متشعب الجوانب، يبرز إلينا كحقيقة واقعة لا يمكن إنكارها، لأنها ببساطة لم تكن وفقا للاحتمالات أكثر من اخفاء سياسي او جنائي، أو أيا كانت صفته، فهو مشروع يتعارض مع التقويم الصحيح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى