دراسة نقدية: محمود درويش في خطبة الهندي الأحمر

الدكتور خضر محجز – غزة – فلسطين

 

مفاتيح العنوان:

التناص (Intertextuality): هو علاقة بين نص حاضر يتعرض للتحليل من جهة، ونص غائب يؤثر في طريقة قراءتنا للنص الحاضر. أي أننا أمام نصين أحدهما متأثر وهو النص الحاضر، وآخر مؤثر وهو النص الغائب.

القناع (persona): ليس المقصود بالقناع هنا قطعة القماش التي تخفي الوجه (mask)، بل تقنع الممثل بقناع الشخصية التاريخية التي يتقمص دورها على المسرح. فاللفظة المرادفة للقناع في هذا البحث هي (persona) أي التقمص، أو التشخيص. وقد تبنينا هذه الترجمة للفظة لأن البحوث النقدية الحديثة قد تبنته فأصبح مصطلحاً يحيل إلى تاريخ ما لا نحبذ التلاعب بعلاقاته.

اللعب (playing): مصطلح صكه الفيلسوف التفكيكي الفرنسي جاك ديريدا، للإشارة إلى ضرورة فك العلاقة التقليدية بين طرفي العلامة اللغوية ــ الدال والمدلول ــ والبحث من ثم عن علاقة جديدة، أكثر تحرراً من ضوابط الفلسفة التقليدية.

المقدمة:

هذا البحث يقدم لنا قراءتين مختلفتين، لقصيدة “خطبة الهندي الأحمر ــ ما قبل الأخيرة ــ أمام الرجل الأبيض”: القراءة الأولى تحلل النص وفق مناهج الحداثة، وهي في جملتها مناهج نصية لاتاريخية؛ أما القراءة الثانية فتتناوله وفق مناهج ما بعد الحداثة، التي يقف المنهج التفكيكي على رأسها، باعتبارها مناهج تاريخية تعيد فتح النص على العالم.

أولاً: التناص:

أولاً1: العنوان: ترقب وانتظار:

“خطبة الهندي الأحمر ــ ما قبل الأخيرة ــ أمام الرجل الأبيض”(1) هذا هو العنوان بالكامل. فما هي هذه الخطبة؟!. أهي خطبة الهندي الأحمر، أم هي خطبة الفلسطيني التائه؟!.

عندما خطب “زعيم قبيلة دواميش الهندية (سياتل) Chief Seattle”، هذه الخطبة أمام “إيزاك ستيفنس” ممثل الحكومة الأمريكية المنتصرة على الهنود الحمر، في العام 1854؛ كان يريدها خطبة نهائية يودع فيها الكون المشهود، قبيل مغادرته إلى عالم ما وراء الشهادة. ندرك ذلك من قوله: “لن نعنى كثيراً بالمكان الذي سنقضي فيه ما تبقى من أيامنا، فهذه لن تطول: بضعة أقمار أخرى، وبضعة شتاءات”(2).

أما عندما خطب محمود درويش بعيد إدراكه أن هناك اتفاقاً يوشك أن يوقع بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني فقد قال هذه الخطبة، مؤكداً أنها ما قبل الأخيرة!. فهل يعني ما قبل الأخير سوى أن هناك ما هو أخير لم يحدث بعد؟. ما هو هذا الأخير؟. أو ما هي هذه الخطبة الأخيرة التي سيلقيها محمود درويش، والتي يحيل إليها هذا العنوان، ومتى ستكون؟.

التناص(Intertextuality): هو علاقة بين نصين، أو أكثر، “تؤثر في طريقة قراءة النص المتناص (intertext): أي الذي تقع فيه آثار نصوص أخرى، أو أصداؤها… وقد وضع جيرار جينيت مصطلحين هما: (hypertext) للإشارة إلى النص المتأثِر، و(hypotext) للإشارة إلى النص المؤثر”(3). وإذا كنا قد علمنا، من خبراتنا القرائية في النصوص، بأن إحدى مهمات العنوان هي أن يحدث لدينا ترقباً لما بعده، وتوقعاً لمحتواه؛ باعتباره عتبة علينا ولوجها قبيل دخول البيت ــ القصيدة ــ فقد صار واضحاً إذن أن ذلك النص الغائب، من القصيدة (hypotext) هو الأشد حضوراً في التفسير: إذ لا شك أن (الخطبة الأخيرة) هي ما يستدعيها تركيب لغوي يرد بصيغة نفيه (ما قبل الأخيرة)؛ “فقد عرفنا، من قبل، تلك القاعدة التفسيرية: أن كل عنصر، من حيث تفسيره، قد يعرب عن ضده، كما يعرب عن نفسه… والذي يجعل هذا القلب إلى الضد شيئاً ممكناً، هو هذه الرابطة الاستدعائية الباطنة التي تربط في فكرنا بين فكرتنا عن شيء وبين ضدها. وهذا القلب ــ شأنه شأن أي نوع آخر من أنواع النقل ــ قد يخدم أغراض الرقابة، ولكنه قد يكون أيضاً، في أحيان كثيرة، وليد تحقيق الرغبة: فما تحقيق الرغبة إلا أن تستبدل بشيء مستكره ضده”(4).

إذن فنحن نعلم الآن أننا لسنا أمام هندي أحمر تماماً. فالهندي الأحمر عندما خطب فقد خطب خطبته الأخيرة، وانسحب من المشهد. أما الشاعر فلديه رغبة ممضة في قول مقابل. إنه يريد أن يقول بأنه سيد المشهد، حتى عندما يرتدي قناع هندي أحمر ذاهب إلى الموت. ومن كان هذا حاله فهو لا يقبل منا أن نكتفي بالنظر في موته الذي لن يأتي، بل إلى حياته القادمة الموثوقة، إلى ما هو آت: خطبة أخيرة، تعلن بيان الانتصار.

إذن فمحمود درويش يرتدي قناعاً “ليضفي على صوته نبرة موضوعية، شبه محايدة، تنأى عن التدفق المباشر للذات”(5). إنه يريد أن يقول لنا أن شخصاً آخر هو من يقول للصهاينة إنهم مخطئون، حين يظنون أنهم قد هزموا الشعب الفلسطيني، هزيمة نهائية وأخيرة، بدفعه نحو توقيع ما سيصبح بعد قليل اتفاق أوسلو(6). وعلى هذا: فالشاعر يعيد تمثيل نفسه، إذ يلبس على وجهه قناعاً يحمل وجهاً آخر، مهمته تقديم شهادة محايدة، صادرة عن غريب. ولا شك أن في هذه الموضوعية المفترضة بلاغاً ووصولاً.

وعندما يقول شاعر فلسطيني ــ منذ العنوان ــ بأنه لن يركع أمام الرجل الأبيض، فإن في هذا الــ(hypertext) إحالة إلى التاريخ، أو إلى فعل الدنيا الماضي. ولئن لم يكن الفلسطيني هنا في حالة مواجهة مباشرة مع الرجل الأبيض، فلقد ندرك إذن أنه إنما يريد أن يقول لنا بأنه لن يفعل ما أراده الأمريكي من الهندي الأحمر، ذات يوم، في ذات مكان. فالفلسطيني ــ عند قراءة القصيدة ــ يستعيد خطابات سابقة (hypotexts) مشحونة بالدلالات. فهو لا يستحضر خطبة الزعيم سياتل فحسب، بل خطابات الرجل الأبيض إلى السكان الأصليين، كذلك. وهذا شيء مما ينقله صبحي حديدي عن غرينبلات: “سوف نستولي عليكم وعلى أزواجكم وأبنائكم، وسنجعل منكم عبيداً، ونبيعكم بهذه الصفة… ولسوف نستولي على متاعكم، ونوقع بكم كل صنوف الأذى والخراب. وسنعاقب العصاة الذين لا يطيعون، أو يرفضون استقبال سادتهم، أو يقاومونهم، أو يعصون أوامرهم. وإننا ننذركم هنا بأن الوفيات والخسائر، التي ستنزل بكم، ستكون من صنع أيديكم، وجراء أخطائكم”(7).

إن هذا الخطاب/ العنوان لا يتوقف عند عالم الهنود الحمر البائدين، بل يستحضره هنا في هذه القصيدة، وينشئ به ــ وبالتوازي معه ــ عالما حاضراً ما يزال حياً، في فلسطين الواقعة على ساحل المتوسط. وإن هذا العنوان ــ باعتباره رمزاً ــ هو مدرك حسي، تقيمه الكلمات أمام أبصارنا، لكنه يستدعي مدركاً آخر معنوياً “لا يقع تحت الحواس، وقائم على علاقة التداعي بين الشيئين، حسبما أحست بها مخيلة الرامز، والتقت عليه الذاكرة العظمى”(8). والذاكرة العظمي تفترض أن هذا الخطاب العنوان يسرد حكاية، قوامها مجموعة مستوطنين مسلحين، يريدون استعباد شعب أعزل، ونهب أرضه وبلاده وتاريخه. أما الراوي فشاعر جوال لا يغني أغنية شعبه فحسب؛ بل هو إلى جانب ذلك يغني أغنيته الخاصة، حينما يقرر انتظار خطبة فلسطينية أخيرة، يقوم هو بإلقائها، وتأتي على غير ما يتوقع الأشرار. ألا يستحضر لنا هذا العنوانُ المثلَ المعروف؛ بأن الذي يضحك حقاً هو الذي يضحك أخيراً!.

أولاً2: القصيدة والعالم:

أولاً:2/أ ــ عندما يقف هندي القصيدة، ليقص على الأوروبي قصة “لا يحبها”، عن شعب كان هنا، قبل قدومه باحثاً عن الذهب: “فلا تدفنوا اللّه في كتبٍ وعدتكم بأرضٍ على أرضنا كما تدّعون”(ص504)؛ فإن هذا نصٌ شعري هو الــ(hypertext) الذي يستدعي، بالضرورة، نصاً تاريخياً، هو الــ(hypotext) الذي يقص على اليهودي قصة مشابهة، عن أناس يدفنون الله في كتب وعدتهم بأرض على أرض الفلسطيني.

أولاً2/ب ــ وعندما يقف الشاعر ليقول على لسان الزعيم سياتل: “ونعرف ما هيّأ المعدن ــ السّيّد اليوم من أجلنا/ ومن أجل آلهةٍ لم تدافع عن الملح في خبزنا/ ونعرف أنّ الحقيقة أقوى من الحقّ”(ص506)؛ فسوف نعرف أن مرارة هذا اليأس الشعري من السماء، مستمدة من مرارة نص تاريخي ورد في خطبة الزعيم سياتل، أمام الجنرال إيزاك ستيفنس، وهو يرى غياب ربه، في مقابل حضور رب المستوطن الأبيض: “ربكم ليس ربنا. ربكم يؤثر قومه، ويبغض قومي. إنه يلف الوجه الشاحب بذراعيه الصلبتين الحاميتين، ويحنو عليه، ويأخذ بيده، كما يقود الوالد ولده الغر. لكنه نبذ أبناءه الحمر، إذا كانوا أبناءه حقاً. كذلك يلوح لنا أن ربنا (الروح الكبير) قد نبذنا بدوره… ورب الرجل الأبيض غير قادر على محبة قومنا، وإلا لبسط حمايته عليهم. إنهم أشبه بأيتام لن يعثروا على معين أينما ولوا وجوههم”(9). وهو نص طالما أغرم به محمود درويش، واستدعاه في نصوصه اللاحقة. وقد رأينا بعدُ مثالَ ذلك في قوله: “وهل كسر الدم المسفوك سيفاً واحداً، لأقول إن إلهتي الأولى معي!”(10)

أولاً2/ج ــ وعندما يخاطب هندي القصيدة جنرال الحرب الأمريكي قائلاً: “عاليةٌ روحنا، والمراعي مقدّسةٌ، والنّجومْ/ كلامٌ يضيء… إذا أنت حدّقت فيها قرأت حكايتنا كلّها/ ولدنا هنا بين ماءٍ ونارٍ… ونولد ثانيةً في الغيومْ/ على حافّة السّاحل اللاّزورديّ بعد القيامة… عمّا قليلْ/ فلا تقتل العشب أكثر، للعشب روحٌ يدافع فينا/ عن الرّوح في الأرض”(ص501)؛ فسوف تحملنا هذه الكلمات الشعرية، إلى عالم من أساطير الهنود الحمر، التي تتحدث عن الهندي المولود في عالم من السلام، بين الماء والشمس: (ولدنا هنا بين ماء ونار)، قبل أن تضطره أطماعه إلى الهروب إلى الأرض، حيث يتعلم الحب والتآخي مع الموجودات: (فلا تقتل العشب أكثر، للعشب روحٌ يدافع فينا/ عن الرّوح في الأرض). تقول الأسطورة: إن الهنود كانوا يعيشون فوق الغيوم، ويملكون كل ما يحتاجون إليه؛ “وكان همهم الوحيد هو العثور على سحابة صغيرة، جميلة ومستديرة ومخملية، لتهدهدهم من الصباح إلى المساء، ومن المساء إلى الصباح. وعلى أية حال؛ فالناس ــ كما هو معروف ــ  لا يشعرون دائماً بالسعادة والرضا بمصيرهم: فقد كان هناك بعض الهنود، الذين بدأوا بالضجر من هذه الحياة الهادئة الصغيرة، فوق السحب، وكانوا لا يكفون عن التساؤل. فعلى سبيل المثال كانوا يريدون أن يعرفوا لماذا لم تكن الشمس تذهب ليلاً إلى خيمتها؟. وما الذي كانت تفعله طوال النهار؟ [فنصبوا للشمس شركا بهدف أسرها، وخاضوا معها حرباً قاسية، كادت أن تودي بهم، لولا أن] الشمس ــ التي كانت هي الأخرى محاربة عظيمة ــ أبدت مشاعر التسامح، وقالت للهنود: لقد حاربتم بشجاعة. وبالرغم من حرارتي الرهيبة، والتي أدت إلى احمرار بشرتكم، وكمكافأة على بسالتكم؛ سأقدم لكم هدية: بلداً يحمل اسمكم”(11).

أولاً2/د ــ وعندما يقول هندي القصيدة: “فمن سوف يرفع أصواتنا/ إلى مطرٍ يابسٍ في الغيوم?”(ص506)؛ فلن نعرف ماهية هذه الصلوات التي ستنزل المطر اليابس من الغيوم، دون  أن يحضر أمامنا نص الأسطورة الهندية عن أيام الحر والقحط، التي ستمر على هنود أمريكا، قبل أن يتطوع الثعبان بالذهاب إلى السماء، لتأمين المطر والثلج، فيقذفه الساحر عالياً في السماء. وخلال تحلقه في السماء، انبسط جسم الثعبان “فأصبح أطول وأطول. وتمدد جسمه، حتى إن رأسه وذيله لامسا الأرض، في النهاية، في كل طرف من طرفي الأفق؛ بينما تقوس عموده الفقري ليلائم القبة السماوية. وكان يتحرك ببطء ليقشط جليد السماء بحراشفه. ولأنه كان يقشط كثيراً، أخذت ألوان جسده تتغير، متحولة من اللون الأحمر إلى الأصفر، إلى الأخضر، إلى الأزرق، إلى البنفسجي. وبدأ جليد السماء في الذوبان، فسقطت قطرات المطر على الأرض، قطرات مطر نافعة”(12).

أولاً2/هــ ــ وعندما يحكي هندي القصيدة مقولة المستوطن الأبيض: “أنا سيّد الوقت، جئت لكي أرث الأرض منكم/ فمرّوا أمامي، لأحصيكم جثّةً جثّةً فوق سطح البحيرة/ “أبشّركم بالحضارة” قال، لتحيا الأناجيل، قال، فمرّوا/ ليبقى ليَ الرّبّ وحدي، فإنّ هنودًا يموتون خيرٌ/ لسيّدنا في العلا من هنودٍ يعيشون”(ص507)؛ فسوف يستدعي هذا النص الحاضر (hypertext) نصاً آخر غائباً (hypotext) هو المقولة اليهودية الشائعة، المقررة أن (العربي الطيب هو العربي الميت فقط).

أولاً2/و ــ وعندما تستطرد القصيدة في الاحتفاء بذكر علاقة الأمومة، التي تربط بين الأرض والهنود، وعلاقة الأخوة التي تربط بينهم وبين الأشياء: “يقول الغريب كلامًا غريبًا، ويحفر في الأرض بئراً/ ليدفن فيها السّماء. … فليكن ما تشاء/ ولكن، أتعلم أنّ الغزالة لا تأكل العشب إن مسّه دمنا?/ أتعلم أنّ الجواميس إخوتنا والنّباتات إخوتنا يا غريب?/ فلا تحفر الأرض أكثر! لا تجرح السّلحفاة الّتي/ تنام على ظهرها الأرض، جدّتنا الأرض، أشجارنا شعرها/ وزينتنا زهرها… / … ولا تجفل الأرض، لا توجع الأرض. أنهارنا خصرها/ وأحفادها نحن، أنتم ونحن، فلا تقتلوها. سنذهب، عمّا قليلٍ، خذوا دمنا واتركوها/ كما هي/ أجمل ما كتب اللّه فوق المياه/ له ولنا”(ص507ــ508)؛ فإننا لا نملك ــ أمام هذا النص الشعري المتأثر(hypertext) ــ إلا استدعاء النصوص الغائبة المؤثرة (hypotext) من خطبة أخرى، لزعيم هندي آخر، هو الزعيم (ووفوكا) الذي قال للأوروبيين، بعد أسره: “تريدونني أن أفلح الأرض!. هل أمتشق خنجري وأمزق صدر أمي؟!. فإذا متُّ فهل ستضمني إلى صدرها كي أستريح؟!. تريدونني أن أحفر بحثاً عن الحجارة!. هل أحفر تحت جلدها، بحثاً عن عظامها؟!. فإذا متٌّ فهل أستطيع دخول جسدها، لكي أولد من جديد؟!. تريدونني أن أحصد العشب، وأصنع القش وأبيعه، لأصبح ثرياً مثل الرجل الأبيض؛ فهل أجرؤ على قص شعر أمي؟!”(13).

كما لا يمكن لنا إلا أن نستذكر تلك العلاقة المميزة، التي تربط بين شاعر الأرض ــ صاحب هذه القصيدة ــ وفلسطين: فهي بالفعل (أجمل ما خلق الله فوق المياه). ومن يستطيع إنكار حضور العديد من النصوص المقدسة، حول الأرض التي بارك الله فيها للعالمين!. (له ولنا).  أليست هي “خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده!”(14).  

أولاً3: المعادل الموضوعي:

يقول ت. سٍ. إليوت: “إن الطريقة الوحيدة للتعبير عن المشاعر فينا هي إيجاد موقف، أو سلسلة من الأحداث والشخصيات، التي تعتبر المقابل المادي لتلك العاطفة”(15). وليست المشاعر، فحسب، هي ما يريد محمود درويش أن يعبر عنه هنا بأفضل طريقة، بل هو مسكون كذلك ــ وإضافة إلى ما سبق ــ بوظيفة رؤيوية تقول بأن القصيدة الحديثة لم يعد بإمكانها، اليوم، الاكتفاء بمهمة الناطق الرسمي باسم القبيلة. لذا فقد كان لا بد لمحمود درويش من اختلاق عالم موازٍ، ينوب عنه في حمل كل هذا الكم من المشاعر؛ ثم يترك للمتلقي مهمة الربط بين العالمين: الموازي المخلوق، والأصيل المراد الرمز إليه. فالصورة التي تنشئها القصيدة ابتداءً، تحيل إلى صورة أخرى بالنيابة.

أو فلنعد صياغة المسألة بصورة أخرى، فنقول: إن للشاعر مخيلةً خاصة به نابعة من وعيه الفردي. وإن لأمته مخيلة جمعية، مرتبطة بقضيتها الأم. والشاعر هنا ــ باستحضاره لصورة الهندي الأحمر، الأسير لدى المستوطن الأبيض ــ يدرك أنه ينشئ في المخيلة الجمعية لشعبه (المتلقي) واحدة من علاقات التداعي بين الصورتين؛ فلا يعود ممكناً بعدُ لمتلقٍ فلسطيني، أو عربي، أن يتصور أن القصيدة تتحدث عن هندي أحمر، يخطب في الزمن البائد، أمام جنرال حرب أمريكي منتصر!.

إننا أمام عالمين متوازيين إذن. أو فلنقل: إننا أمام عالم رباعي الأطراف، يتشكل تشكلاً زوجياً، ذا دلالات لا تخفى: اثنين من الماضي، واثنين من الحاضر: المستوطنون البيض على سواحل العالم الجديد، مقابل الهنود الحمر، من جهة؛ ثم الصهاينة في فلسطين، مقابل شعب الشاعر، من الجهة الموازية. سنسمي عالم الهندي الأحمر، الذي يستحضره ظاهر خطاب القصيدة: (عالم الصورة)، لأنه هو الحكاية، ومنه يستمد الشاعر قناعه. وسنطلق على عالم الفلسطيني، الذي ينشئه مخيال القصيدة: (عالم الأصل)، لأنه هو الذي يحيل إليه مضمر خطاب القصيدة. فهو المقصود من كل هذا النشيد الممعن في الحزن.

في عالم الصورة يقف الهندي الأحمر متسائلاً: “إذًا، نحن من نحن في المسيسبّي؟!”(ص501)؛ فهذا التساؤل هو ــ من جهة أولى ــ  تساؤل استنكاري، لا يمكن له أن يقف إلا في مواجهة مقولات سابقة، تدعي عدم وجوده أصلاً. وكأنما جاء الرجل الأبيض إلى العالم الجديد فوجده خالياً من السكان. والحق أن الأوروبي لم يدع يوماً ذلك، حتى وهو يخوض حروب الإبادة. إذن فنحن أمام صورة مستمدة من زمن مضى، تحاكي أصلاً هو زمن حاضر؛ حيث المتسائل حقاً هو الفلسطيني على ساحل المتوسط. فيغدو السؤال الأصلي هو: إذا كانت هذه الأرض خالية قبل قدومكم، فمن نحن على ساحل المتوسط؟. وما هذه الحضارات والآثار والديانات والنقوش والملاحم؟.

وهذا التساؤل هو كذلك ــ من الجهة الأخرى ــ تساؤل أخلاقي: يحدد طبيعة الأفعال في العالم، باعتبار ما يجب أن تكون عليه. فهو يحتم نظام القيم، باعتباره نظام أخلاق بالدرجة الأولى. فالعبارة تريد أن تقول: كيف يمكن لكم الزعم بأن من وجدتموهم هنا، لحظة نزولكم على أرض القارة، لم يكونوا بشراً؟!. إن نظامكم الأخلاقي هذا غير إنساني إذ يقرر منذ البدء أننا لم نكن، أو أننا لم نعد موجودين، بمجرد أن وجدتم: “لنا ما تبقّى لنا من الأمسِ”(ص501)؛ مع أن الحقيقة ــ التي ليست بالضرورة نظام وعي غربي ــ تقول بأننا كنا في اللحظة التي لم تكونوا فيها: “لكنّ لون السّماء تغيّر، والبحر شرقاً/ تغيّر”(ص501). “آه! يا أختيَ الشّجرةْ/ لقد عذّبوك كما عذّبوني”(ص502). “لا تقطعوا شجر الإسم يا أيّها القادمون/ من البحر حرباً”(ص504).

من على شاطئ موطنه، قبل أكثر من خمسمائة عام، عندما وقف الهندي الأحمر محدقاً في البوارج التي تقل “شاحبي الوجوه”(16) المسلحين بالحديد والنار؛ أدرك أن البحر شرقاً تغير. لكن ما الذي يهم الفلسطيني الآن من هذا التغير، ليعيد استحضار المشهد المأساوي؟!. ما هو هذا (البحر شرقاً) الذي تغير فلسطينياً؟!. لا يحد فلسطين من الغرب سوى البحر. لكن الذي يحدها من الشرق هو بحر من نوع آخر: بحر من عرب كان متوقعاً منهم أن يدافعوا عن عالم الفلسطيني، الذي هو عالم روحهم كما يدعون. لكن الذي يراه الشاعر الآن أن هذا البحر تغير كذلك، والسماء كذلك تغيرت: فلا الأخ عاد أخاً، ولا الرب عاد راضياً عن شعبه.

وعندما نتفحص علاقات التناص، التي تحكم هذا العالم المزدوج؛ فسوف نكتشف أن لدينا في (عالم الصورة) ثلاث علاقات حاضرة، تقابل ثلاثاً غائبة في (عالم الأصل): كل علاقة تقابل علاقة مماثلة: البحر العدو، والسماء الغاضبة، والأخ الخائن.

يقول جورج سانتيانا: “وكل تمييز وربط، أو استدلال، إنما هو تجربة مباشرة، وحقيقة حسية؛ إلا أنها تجربة لعملية أو لحركة بين حدين، وشعور بوجود هذين الحدين معاً، وبما بينهما من فروق: أي أنه إحساس بالعلاقة. والإحساس بالمكان إنما هو إحساس من هذا النوع”(17).

وهذا الإحساس بالعلاقة المكانية، بين العالمين المتوازيين، هو ما يبديه المقطع السابق وفق النقاط الثلاث الآتية:

1ــ فالبحر الذي هو في العادة رمز السلام، صار الآن رمز الموت (لا تقطعوا شجر الاسم يا أيّها القادمون/ من البحر حرباً). وإن عالماً يتحول فيه بحر الهندي الأحمر إلى حرب، سوف يستحضر في وعي الفلسطيني  بحراً آخر في بيروت عام 1982: بحر ما انفك يطلق “الرصاص على النوافذ… [فــ]يموت من لا يستطيع الركض في الطرقات”(18).

2ــ والسماء التي كان ينزل منها الخير، صارت الآن رمزاً لغضب الرب. فسماء الهندي كسماء الفلسطيني: الأولى تغير لونها ــ وتغير اللون، كتغير الوجه، كناية عن تغير الدخيلة ــ والثانية انكسرت “على رغيف الخبز [حيث] ينكسر الهواء على رؤوس الناس، من عبء الدخان. ولا جديد لدى العروبة”(19).

3ــ والهندي الذي كانت تجمعه بكل المخلوقات علاقة الأخوة (آه يا أختيَ الشجرة/ لقد عذبوك كما عذبوني) قبل أن يتفاجأ بكل هذه الخيانة البيضاء، نرى مقابله فلسطينياً يكتشف فجائعية المشهد العربي، حيث الأخ ــ الذي كان رمزاً للتعاطف والمساعدة ــ يجبره عذاب الخوف على التنكر لأخيه: “عرب أطاعوا رومهم/ عرب وباعوا روحهم/ عرب.. وضاعوا”(20).

ثانياً: القناع:

ثانياً1: المونولوج:

عندما نقول بأننا في هذه القصيدة نواجه شاعراً يرتدي قناعاً، فإنما نعني ــ من ضمن ما نعنيه، وهو كثير ــ أننا نرى الآن أمامنا مونولوجاً درامياً، يلقيه بطل مأساوي على خشبة مسرح، حيث يتلبس القناعُ الممثلَ ويُنطقه. فثمة هندي أحمر يتلبس الشاعر بالفعل. والقناع هنا ليس مجرد قطعة قماش يتخفى وراءها الممثل(mask)؛ بل هو الشخصية التاريخية ذاتها، (persona) وإن على المسرح”(21).

لكن مهما كان التماهي بين الشخصية والممثل عالياً، فإنه لا يكتمل تماماً، خصوصاً عندما تكون الأيديولوجيا حاضرة. ومنذ متى غابت الأيديولوجيا من شعر الفلسطينيين!. ولا شك أن محمود درويش، بثقافته الواسعة، مدرك أنها “قد انقضت [تلك] الأزمنة التي كنا نستطيع أن نفترض فيها أن الأنشودة السياسية أنشودة كريهة”(22). فكلا الصوتين (الأصل/ الشاعر الفلسطيني، والقناع/ الزعيم الهندي) يتقمص الهوية الجمعية لشعبه.

قلنا إن القناع يضفي على صوت الشاعر ما يشبه الحياد ــ ولم نقل الحياد التام: فلو تم الحياد، لاكتمل التماهي بين كل من القناع والشاعر. ولأن القناع: “عبارة عن صوتين مختلفين، لشخصيتين مختلفتين، يعملان معاً، خلال قصيدة تدعم كلا الصوتين، ليكون معنى القناع محصلة لتفاعل كلا الصوتين على السواء”(23)؛ فإن اندماج صوت الشاعر بصوت الشخصية، لن يكون تاماً في كل الأحوال: فلقد علمنا، من مجمل الحياة، أن من تلبّسه الجنُّ تمر عليه أحوال، يتميز فيها صوته عن صوت من تلبسه.

إذن، فلدينا هنا فرضية تقول: بأن ثمة امتزاجاً قد تم بين صوتي الشاعر والشخصية التاريخية، منعت الأيديولوجيا من تمامه. وقبل أن نتفحص صحة هذه الفرضية، فإن علينا ألا ننسى أمرين في غاية الأهمية: أولهما، أن القناع الشعري القادم من عالم الدراما، يحيلنا إلى البطل المأساوي، الذي ظلت التراجيديا الإغريقية تقدمه لنا، واقفاً على الخشبة وحيداً، وقد تخلت عنه الآلهة، يواجه مصيراً طالما تحداه، قبل أن تقع به الهزيمة، مناجياً نفسه، في مواجهة جمهور المشاهدين. وثاني هذين الأمرين، أن السقوط المأساوي لهذا البطل، ظل دائماً محفزاً كفاحياً “يطلق أعظم الطاقات الإنسانية، وأرفع البطولات الإنسانية. ولم يكن هذا التعظيم للإنسان ممكناً إلا لأن الصراع جرى خوضه حتى النهاية. والحقيقة، يهلك أنتيغوني وروميو”(24) مأساوياً، إلا أن أنتيغوني وروميو، المشرفين على الموت، هما شخصان أعظم وأغنى وأنبل مما كانا، قبل أن يُجرفا في دوامة التصادم المأساوي”(25). نقول هذا إقراراً لواقع دنيوي، حادث بالفعل في وعي الشاعر، وهو يسرد قصة المشابهة بين حالتي الفلسطيني والهندي الأحمر، في هذا المونولوج الحزين.

المونولوج في المأساة هو حوار من طرف واحد ــ حتى وهو يتوجه إلى المشاهدين ــ حيث لا يتوقع البطل، في المسرح الكلاسيكي، رداً من الجمهور المتوحد معه في عملية التطهير Catharsis. أما هنا فالهندي إذ يوجه خطابه إلى الجنرال الأبيض، الذي لا يتوقع منه رداً؛ فهو يقيم عالماً مقارباً، وإن لم يكن متطابقاً تماماً. والذي منع اكتمال التطابق هو الأيديولوجيا. فالأيديولوجيا هي التي قررت هنا أن تطل برأسها قليلاً، لكي تمنع إتمام عملية الاندماج التطهيري الأرسطي حتى النهاية. إن لدينا ثمة نوعاً من رؤية أفلاطونية رافضة لخيالات الشعر، الحاملة للإنسان بعيداً عن مواجهة الواقع(26). وفي المقطع التالي نرى بعض تحقق ذلك: “لكم ربّكم ولنا ربّنا، ولكم دينكم ولنا ديننا/ فلا تدفنوا اللّه في كتبٍ وعدتكم بأرضٍ على أرضنا/ كما تدّعون”(ص504).

في عالم الصورة يخاطب الهندي المهزوم جنرالاً أبيض منتصراً، حيث الجنرال يمثل القدر الإغريقي الغلاب، وحيث الهندي يمثل البطل المأساوي في نهاية المسرحية. ولكن في عالم الأصل نرى أن الفلسطيني، الذي كبا، هو الذي يخاطب عالماً غائباً ينوب عنه جمهور المشاهدين. يقول يوري لوتمان: “إن الهدف من الشعر ليس الصور؛ بل معرفة العالم والعلاقات التي تربط الناس، ومعرفة الذات، وتطور الشخصية الإنسانية في عملية التقدم والاتصال الاجتماعي. وفي النتيجة النهائية: يتفق مطلب الشعر مع مطلب الثقافة ككل؛ غير أن الشعر يحقق هذا المطلب بصورة نوعية. ويستحيل فهم طبيعته الخاصة، إذا تجاهل المرء آليته وبنيته الداخلية”(27).

البنية الداخلية للقصيدة هي بنية أخلاقية، كما سبق أن أشرنا؛ لذا فقد توجب عليها أن تقدم صورة لما ينبغي على الخير أن يفعل، في مواجهة الشر. ومن هنا فقد قالت القصيدة بأن على الخير الاستمرار في مقارعة الشر، حتى لو كانت نهاية الجولة معروفة سلفاً. وإذ كانت قيمة الخير لا تنبع من مجرد المنفعة، فقد ناسب هنا إبراز وظيفته الأزلية في دوام المقارعة، تحقيقاً لمطلب الثقافة.  وحتى لو وقف العالم كله إلى جانب قوة القوة، فإن على البطل أن لا يتردد في الوقوف إلى جانب قوة الحق، تحقيقاً لمطلب الشعر. وهكذا تتمكن القصيدة من إبراز قبح القوة عندما تنحاز إلى الشر، على النقيض من جمال الحق، عندما ينحاز إلى الخير. ولئن بدا واضحاً، لدى الشاعر، إلى أي جانب يقف جمهور المشاهدين، فقد توجب عليه أن يقرر ــ على لسان البطل بالطبع ــ أن هذه الخطبة (التي تعلن الهزيمة)  ليست هي الخطبة الأخيرة!. وهنا يتفق مطلب الثقافة مع مطلب الشعر.

ها نحن نرى هنا نوعاً من الانزياح، ما بين صوت الهندي الممسرح وصوت الفلسطيني المضمر. وهو انزياح تصر القصيدة على تأكيده رفضاً للهزيمة، التي يرى الشاعر أن هناك نصراً يتبعها، وتلوح بوادره في الأفق. نرصد هذا الانزياح في قوله: (فلا تدفنوا اللّه في كتبٍ وعدتكم بأرضٍ على أرضنا/ كما تدّعون). فنحن نعلم أن “شاحبي الوجوه” لم يدعوا، أمام الهندي الأحمر، أن الله وعدهم بأمريكا؛ بل إن الذي فعل ذلك هو اليهودي في زمن آخر، وفي مكان آخر.

ثانياً2: المفارقة:

ثانياً2/أ: مستوى المفارقة اللغوية:

في لحظة من لحظات المونولوج الصافي، نشهد هذه المناجاة: “لن يفهم السّيّد الأبيض الكلمات العتيقةْ/ هنا، في النّفوس الطّليقة بين السّماء وبين الشّجر. فمن حقّ كولومبوس الحرّ أن يجد الهند في أيّ بحر/ ومن حقّه أن يسمّي أشباحنا فلفلاً أو هنودا/ وفي وسعه أن يكسّر بوصلة البحر كي تستقيمَ/ وأخطاءَ ريح الشّمال، ولكنّه لا يصدّق أنّ البشر/ سواسيّةٌ كالهواء وكالماء خارج مملكة الخارطة!/ وأنّهم يولدون كما تولد الناس في برشلونة، لكنّهم يعبدون/ إله الطّبيعة في كلّ شيءٍ… ولا يعبدون الذّهبْ”(ص502)؛ حيث البطل المأساوي يقف في لحظة من لحظات “المعاناة، التي تؤدي إلى التبين… [ولأن] المعاناة، التي تقدمها المأساة، هي صورة عن شيء نعرف ذهنياً أنه مخبأ لنا، ولكننا لا نستطيع توقعه بشكل مناسب”(28)؛ فإنها تبلغ ذروتها حين يكون البطل المأساوي قد شارف على النهاية. هنا تحلو المناجاة الدرامية، ويتوحد المشاهدون مع البطل، و”يسقطون أنفسهم عقلياً داخل الوضع، أو الحالة الخاصة بالشخصيات في المسرحية”(29)، في نوع من أنواع التطهر، المفضي إلى الراحة، في نهاية المطاف.

الرجل الأبيض هنا يمثل القدر المأساوي، الذي يقف أمامه البطل مهزوماً؛ يخاطبه إذ يناجي نفسه. ولأن القدر غلاب فإن البطل ــ في لحظة التبين هذه ــ لا يستطيع مواجهته بصراحة، فيلجأ إلى نوع من المفارقة اللغوية. والمفارقة التي ينشئها خطاب البطل المأساوي، ليست مجرد علاقة غنائية أو عاطفية، نابعة من تأملات البطل الذاتية فحسب، بل هي ــ إلى جانب ما سبق ــ نابعة من طبيعة الخطاب الجمعي، الصادر عن زعيم يتحدث باسم شعبه، في “تعبير بلاغي يرتكز أساساً على تحقيق العلاقة الذهنية بين الألفاظ، أكثر مما يعتمد على تحقيق العلاقة النغمية أو التشكيلية”(30). وهذه العلاقة الذهنية مرتكزها أمران: السخرية، والاستخدام المراوغ للغة.

فالهندي يسخر من فهم الأبيض للعلاقات الإنسانية، ذلك الفهم المادي البحت الذي يفرق بين البشر حسب لونهم، ويعتقد أن الحضارة والعقلانية لا يمكن لهما أن يوجدا لدى الأجناس غير البيضاء: (لن يفهم السّيّد الأبيض الكلمات العتيقةْ/ هنا، في النّفوس الطّليقة بين السّماء وبين الشّجر). ثم يمعن في السخرية المواربة، حين يكشف حقيقة الخداع الذي يمارسه المستوطن الأوروبي، لا في ذات نفسه فحسب، بل في ذات الحقيقة أيضاً؛ وذلك عندما يصر على اعتبار ما اكتشفه ليس عالماً جديداً ــ كما هو في الواقع ــ بل هو الهند، التي جاء يبحث عنها من طريق آخر غير معهود: (فمن حقّ كولومبوس الحرّ أن يجد الهند في أيّ بحر). ومعلوم أن كولومبوس، كان يظن أنه قد وصل إلى جزر الهند الشرقية. كما يسخر من عدم إدراك المستوطن الأبيض، وجود بشر من لون آخر: (ومن حقّه أن يسمّي أشباحنا فلفلاً أو هنودا). ويسخر من التفرقة العنصرية، باعتبارها بضاعة بيضاء بامتياز، حيث لا يصدق الأوروبي بوجود فرق بين الفلفل والهنود، و(أنّ البشر/ سواسيّةٌ كالهواء وكالماء خارج مملكة الخارطة!/ وأنّهم يولدون كما تولد الناس في برشلونة). ثم يقرن سخريته من عدم تصديق المغامر الأبيض، بوجود إله آخر يستحق العبادة، بتأكيد أن أحد الأسباب التي يتذرع بها الأبيض لتسويغ إبادة الهنود، هو أنهم غير مهتدين لعبادة الإله الحق: الذي هو الذهب: (لكنّهم يعبدون/ إله الطّبيعة في كلّ شيءٍ. ولا يعبدون الذّهبْ).

تنشأ المفارقة هنا من حقيقة أن البطل يقول عكس ما يعنيه تماماً. ولولا أن “جمهور النظارة” متواطئ مع الممثل، لما أمكن لهذه المفارقة أن تتحقق. فنحن نتواطأ مع البطل في تفسير خطابه عكس ما تحيل إليه ظاهر الكلمات، حين يصف من يحارب الحرية بأنه حر (فمن حق كولومبوس الحر)، وحين يقر للمستوطن الأبيض بحقه في مخالفة نواميس الجغرافيا، فيجد الهند في المحيط الأطلسي، وحين يقبل منه بمساواة الهندي بالفلفل، وحين يوافقه على تكسير بوصلة البحر كي تتوافق الطبيعة مع أطماعه. وحين يفعل الجمهور ذلك، فإنه ينشئ خطاباً موازيا يكون هو المقصود حقيقة. ومن هنا تبلغ السخرية مداها، وتحقق الإدهاش.

على مستوى آخر يمكن لنا ملاحظة مفارقة لغوية من نوع مختلف: فالخطاب كله هو خطاب أخير ونهائي، من هندي مهزوم إلى جنرال حرب أمريكي منتصر. هذا هو المستوى المباشر للكلمات في القصيدة. لكن أين هو الجمهور الذي سيصدق أن هذا هو المقصود ذهنياً!. إن الكلمات هنا تنشئ خطاباً ممسرحاً على الخشبة، قادماً من عالم الماضي. ولكن الجمهور يشعر أنه يستمع إلى خطاب آخر، ينزل عن الخشبة إلى الصالة، متحولاً إلى العالم الحاضر. الممثل يقول شيئاً. والجمهور يستمع إلى شيء آخر مختلف. ويدرك ذلك كل من الجمهور والممثل، ويتوافقون عليه. الجمهور هنا يتحول ــ بهذه الدرجة أو تلك ــ إلى جمهور بريختي يشارك في بناء المسرحية. فالجمهور الفلسطيني لديه من هموم قضيته ما يشغله عن مشاهدة مسرحيات تدور أحداثها في الزمن الغابر. وكلما تحدثت القصيدة عن هندي أحمر قال المشاهدون: “هو ذا الفلسطيني المعرض للإبادة”. وكلما قدمت المسرحية مفاهيم الرجل الأبيض قال الجمهور: “هي ذي مفاهيم الصهاينة المستوطنين في فلسطين”.

أما على المستوى الجمالي، فيمكن لنا ملاحظة مفارقة من نوع ثالث، تنتج عن تواطؤنا على تأمل جمالي بحت، في موضوع شديد القسوة. فالقسوة ــ التي تحدث على خشبة المسرح ــ تقابلها متعة، تحدث في وعي المشاهدين؛ حتى وهم يندمجون مع معاناة البطل. وإن حدوث مثل هذه المفارقة اللغوية ناتج عن وعي الجمهور بضرورة المحافظة على مسافة جمالية، تفصل بين إدراكه الواقعي والأحداث الخيالية: أو بين قبح محتوى ما يحدث، وجمال وسيلة إيصاله إلينا؛ “فجاذبية العرض تمتزج بما في الشيء المعروض من فظاعة. ونتيجة ذلك، أنه بينما تثير الحقيقة شجننا، فإن الوسيلة التي توصلها إلينا تبعث النشوة في نفوسنا… الحقيقة أن هذه التجارب الشريرة، لا يمكن أن يبعث تأملها على اللذة، إلا حينما تضاف إليها ضروب إيجابية من الجمال… فلسنا نسر بهذه الأشياء لما توحي به إلينا من شرور؛ ولكننا نسر بها على الرغم من هذه الشرور”(31).

ولا شك أن تناول مقاطع أخرى من القصيدة، سوف يكشف عن الكثير من المفارقات اللغوية، التي يثري تأملُها التحليلَ الجمالي، ويزيد من احتمالات التأويل. ومع ذلك فسوف نكشف عن مستوى أخير من مستويات المفارقة، يمكن لنا أن نسميه المستوى الزمني.

ثانياً2: المفارقة:

ثانياً2/ب: المفارقة الزمنية:

عند تأمل الكلمات وعلاقاتها، في المقطع الآتي من القصيدة: “هنالك موتى ومستوطناتٌ، وموتى وبولدوزراتٌ، وموتى/ ومستشفياتٌ، وموتى وشاشات رادار ترصد موتى/ يموتون أكثر من مرّةٍ فى الحياة، وترصد موتى”(ص512)؛ من وجهة نظر البطل المأساوي الواقف على الخشبة؛ فيمكن لنا ملاحظة مفارقة علاقتها زمنية، قوامها استحضار الحاضر للمستقبل: حيث يحيل البطلُ عالمَ القصيدة (الحاضر مسرحياً) إلى عالم الفلسطيني (المستقبل واقعياً)؛ فيما ينتِجُ مفارقةً استباقية، يبكي فيها البطل المهزوم مصير أناس، في زمن لم يحضر بعد. تستند المفارقة هنا على العلاقة المتحققة، في عالمي الهندي والفلسطيني، بين كل من “المستوطنات” و”الموتى”؛ ثم تتجاوزها إلى ذكر ما لم يوجد بعد، ويحيل إلى عالم قادم مشابه لعالم الهندي، في كثير من جوانبه: عالم الفلسطيني المحتل، بما فيه من “بلدوزرات” تهدم بيوته، و”شاشات رادار” تترصد حركاته. فالهندي في زمن الكلام (الحاضر مسرحياً) يقص قصة تحدث في زمن قادم (المستقبل الواقعي)(32).

ثمة إمكانية أخرى لعكس المفارقة السابقة: فبقليل من التأمل، يمكن لنا رؤية علاقة مفارقة استرجاعية؛ من وجهة نظر الشاعر الذي أبدع القصيدة : فإذا كان محمود درويش هو الذي يتكلم هنا ــ لا الهندي ــ فإن هذا يعني أن الشاعر يتكلم من زمن واقعي حاضر (هو زمن الأصل الذي ألمعنا إليه سابقا). ومن ثم فهو عندما يبكي عالم الهندي الأحمر، وما تعرض له من حرب إبادة، إنما يحيلنا إلى زمن متخيَّلٍ ماضٍ (هو زمن الصورة): فمشهد المستوطنات الإسرائيلية والموتى الفلسطينيين، في الزمن الواقعي، يستدعي المستوطنات الأوروبية البيضاء والموتى الهنود في الزمن التخييلي(33).

كما أن هناك إمكانية ثالثة، تنتج عن مزجٍ مختلفٍ، لعلاقات المفارقتين السابقتين: فلئن كنا قد تعودنا استدعاء الحاضر للماضي، في حالة المفارقة الاسترجاعية. وهذا كان ناتجاً عن وجهة نظر الشاعر، الذي هو الفلسطيني محمود درويش؛ كما تعودنا استدعاء الحاضر للمستقبل، في حالة المفارقة الاستباقية. وكان هذا ناتجاً عن وجهة نظر البطل المأساوي، الذي هو الهندي الأحمر. فماذا لو مزجنا في قراءتنا بين وجهتي النظر هاتين، وقلنا، بأحد الأمرين الآتيين: أن الشاعر الفلسطيني في زمن الأصل ــ الذي هو الواقع الفلسطيني الحالي ــ يستدعي أحداثاً من زمن الصورة، ليبكي مع الهنود الحمر مآسيهم، في أمريكا القرن السادس عشر، مستدعياً مآسي قومه المعذبين!؛ أو أن الهندي الأحمر ــ البطل المأساوي ــ هو الذي قفز إلينا، نحن الجمهور، من فوق خشبة المسرح؛ ووقف يبكي معنا مآسينا في فلسطين المحتلة، مستدعياً مآسي قومه البائدين!. فكأن الألم الإنساني واحد، لا يعترف بالفوارق الإثنية والقوميات، حيثُ ألمُ الهنديِ فلسطينيٌ بامتياز، والعكس صحيح.

إذن فمشهد القبر الفلسطيني ــ الذي يملأ آفاق الواقع ــ سوف يستدعي في وعي الشاعر (الذي هو هندي بقدر ما هو فلسطيني) مشهد قبر يملأ آفاق الخيال، لهندي باد وظلت علاقاته النفسية قائمة. وكأننا نرى هنا قلباً لعلاقات الأشياء، التي أقامها يوماً الشاعر المخضرم “متمم بن نويرة” عندما قال:

“لقد لامني عند القبور على البكــا/ رفيقي  لتذارف الدموع السوافكِ

فقال: أتبكي كلَّ قبرٍ رأيتهُ/ لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك؟

فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا/ فدعني، فهذا كله قبرُ مالكِ”(34)

ورغم ذلك تبقى هناك إمكانيات أخرى، لتأمل مفارقات زمنية مختلفة.

ثالثاً: اللعب:

ثالثاً1: تحول منهجي:

يمكن لنا تناول النص من وجهة نظر أخرى، فنقرأه قراءة تفكك مدلولات الدوال، التي تعودنا عليها سابقاً. إذ إن هناك تفسيرين للتفسير ــ كما يقول جاك ديريدا ــ أحدهما يسعى إلى فك شفرة متحررة من “اللعب” ومرتبطة بتاريخ الميتافيزيقا، الذي يفترض لكل دالٍ مدلولاً من جنسه، يفسره وفق ما يشتهي مركز الإحالة المتعالي (سلطة اللوغوس Logocenterism)؛ أما التفسير الآخر ــ وهو الذي يختاره ديريدا ــ فهو تفسير “لم يعد  يتجه نحو الأصل” و”يوجب اللعب” محاولاً أن يتجاوز سلطة الإحالة المركزية (Logocenterism)، باعتبارها “اسمَ الكائن الذي حلم بالحضور الكامل، طوال تاريخ الميتافيزيقا”(35).

لقد ظل النص، طوال مراحل تفسيرنا السابقة، منحازاً إلى رؤية معينة، تقول بأن الخطبة التي يلقيها محمود درويش، نيابة عن الفلسطيني، ليست هي الخطبة الأخيرة. وقد حدث هذا التفسير بناءً على ما يحيل إليه تعبير (ما قبل الأخيرة) الذي وُصفت به الخطبةُ/ القصيدةُ، مع العلم بأن مثل هذا التعبير قد يحيل إلى عكس ذلك تماماً. ولا شك أن تأملاً قليلاً في نص أي خطبة، تستدعيها هذه القصيدة، يؤكد أن الهندي الذي ألقاها كان يعتبرها الخطبة الأخيرة، التي يودع بعدها مشهد الصراع، مستكيناً إلى نهاية يائسة. كما أن تأملاً مشابهاً لكل قصائد هذا الديوان (أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي) سوف تقودنا إلى نفس النتيجة، التي توصل إليها باحث بحجم إدوارد سعيد، حين قال: “والحق أن هذه المقطوعات الشعرية تنطوي على نغمة الكلل وهبوط الروح، والتسليم بالقدر؛ والتي تلتقط ــ عند العديد من الفلسطينيين ــ مؤشر الانحدار في أقدار فلسطين، التي ــ مثل الأندلس ــ هبطت من ذروة ثقافية كبرى، إلى حضيض فظيع من الفقد، على صعيد الواقعة والاستعارة معاً”؟(36).

إن هذا الانحياز ــ خطاباً وتفسيراً ــ إلى الرؤية القائلة بأن محمود درويش لا يمكن له أن يلقي خطبة أخيرة، على كل هذا القدر من التشاؤم والاستسلام للقدر؛ يشكل نوعاً من الالتزام القبلي، بضرورة التوافق مع الميتافيزيقا، القاضية بأن الشاعر الوطني لا ييأس، ولا يقود شعبه إلى اليأس؛ لأن من واجبه بث روح الحياة فيه، ودفعه نحو مواصلة الكفاح المرير والمتعب، بهدف الوصول إلى “الخطبة الأخيرة”، التي يفترضها التفسير المتوافق مع سلطة اللوغوس.

لكن الشاعر إنسان هو الآخر. ومهما بلغت به اعتبارات النيابة عن شعبه، فإن وعيه سوف يظل في حالة قلق، من احتمالات الواقع السياسي المرير؛ بحيث أنه سوف يظل يعاني من التمزق بين وعيين: وعيه الواعي (الشعور) المنضبط بقوانين العقل والمنطق، والقاضي باستحالة حسم الصراع بما يتوافق مع أحلام شعبه ــ خصوصاً في الظروف الراهنة ــ ووعيه الخافي (اللاشعور) المتطلع إلى العدالة المطلقة، التي لا تستطيع القبول بالتنازل عن شبر من البيت، لمجرد أن قوة قاهرة جلست فيه، وغيرت بعض معالمه. وإن هذا الصراع بين الوعيين، هو الذي جعل كارل يونج يقول عن الأفكار الكامنة في اللاشعور: “إن هذه الأفكار تمثل قوىً هي من وراء التبرير المنطقي، والتأييد الأدبي أو الأخلاقي: هي دائماً أقوى من الإنسان، وأقوى من عقله. والإنسان يؤمن إيماناً حقيقياً بأنه هو الذي يصوغ هذه الأفكار. لكن هذه الأفكار هي التي تصوغه في الحقيقة، وتجعل منه الناطق الرسمي باسمها، وهو لا يدري”(37).

إن محمود درويش ناطق، في روح قصيدته، باسم اللاشعور ــ الجمعي منه على وجه الخصوص ــ الذي تحكمه الأحلام الكبرى، وتصورات الأمة عن نفسها، وعما ينبغي أن تكون عليه. وفي نفس الوقت، يمكن القول بأنه، في تصريحاته السياسية، ناطق باسم الشعور الذي تحكمه حسابات اللحظة الراهنة، وموازين القوى الدنيوية. من هنا تنشأ الكثير من التناقضات. ومن هنا تبدأ مهمة التحليل، ولا تنتهي.

إن تناول النص ــ وفق استراتيجيات التفكيك ــ سوف يكشف، بالضرورة، عن كثير من هذا التوتر والتردد والإغفال المتعمد والتناقض. وإذا كان النص لا يستطيع أن يتحدث مباشرة عن دلالاته؛ فإن مهمة المفسر تتمثل، حينئذ، في ضرورة الكشف عن صراع المعاني داخله ــ على حد تعبير ﭙيير ماشيري ــ ذلك الصراع الذي لا يملك الكاتب أن يحسمه، حتى عندما يشف نصه عن معنى بعينه، ربما كان مقصوداً له في لحظة الكتابة(38).

ثالثاً2: تناقضات التقمص:

وإذا كان “الأدب لا يحدثنا فقط عن الآخرين، بل عن الآخر فينا”(39). فمن المنطقي إذن أن نعيد قراءة محمود درويش، محاولين الكشف عما لم تقله القصيدة صراحة، وهو فيها كامن. ولن يتأتى لنا ذلك ــ بالطبع ــ دون أن نستدعي العنصر الآخر، الذي طالما أحالتنا إليه القصيدة: خطبة الهندي الأحمر زعيم دواميش. فقد تعلمنا من فرويد أنه “كلما ربط بين عنصرين تداع ممجوجٌ، أو سطحي، فبين العنصرين أيضاً رابطة صحيحة، أعمق غوراً، تخضع لمقاومة الرقابة”(40). وقبل ذلك سوف نتأمل في هذه الغنائية الحزينة التي يبثها قلب الشاعر: “هنا كان شعبي. هنا مات شعبي. هنا شجر الكستناء/ يخبّئ أرواح شعبي. سيرجع شعبي هواءً وضوءاً وماء/ خذوا أرض أمّي بالسّيف، لكنّني لن أوقّع باسمي/ معاهدة الصّلح بين القتيل وقاتله، لن أوقّع باسمي/ على بيع شبرٍ من الشّوك حول حقول الذّرة”(ص510)؛ لنرى كم هي رافضة لصلح الفلسطيني مع عدوه، لسببين: أولهما أنه قاتل؛ وثانيهما أن أي صلح مع المستوطن “الغريب”، على قطعة الأرض ذاتها؛ سوف يقتضي بالضرورة تنازلاً عن شيء منها. الرفض هنا حاسم وأبدي ولا يحتمل المراجعة، خصوصاً عندما يقرن الشاعر الأرض بالأم. فنحن نعلم أن لا أحد يتنازل عن أرض منسوبة لأمه، إلا أن يموت قبل ذلك: (خذوا أرض أمّي بالسّيف).

ولكي لا يترك وعي الشاعر في قلوبنا أثارة من شك، في تصميمه هذا على رفض الصلح، نراه يستبق إعلان قراره، بهذه الصورة المستوحاة من الرموز البدئية، في اللاوعي الجمعي للهنود الحمر: إذ يعتقدون بأن أسلافهم أحياء يطوفون بهم ويمنحونهم البركات: (هنا كان شعبي. هنا مات شعبي. هنا شجر الكستناء/ يخبّئ أرواح شعبي. سيرجع شعبي هواءً وضوءاً وماء).

لكن هذا الوعي القاضي بضرورة التمسك الشديد بالأرض، يحمل في داخله نقيضه. وإذا كان المرء مخيراً بين الموت مع فقد الأرض، أو الحياة مع القليل منها، فإن القليل من الأرض المتبقي بعد الصلح، يمكن له أن يسمح للعاشق باستمرار حياة عشقه، ولو على قطعة أرض أقل. نلمح ذلك في قوله في السطر الذي يسبق هذا المقطع مباشرة: “وفي وسعنا أن نتبادل بعض الهدايا وبعض الغناء”(ص510)

إن تقمص الشاعر لشخصية زعيم دواميش، يحمل المتلقي ــ بالضرورة ــ إلى مقارنة خطاب القصيدة، بما يقوله نص خطبة الزعيم الهندي، المحفوظ في أرشيف الرجل الأبيض. يقول زعيم دواميش: “الليل والنهار لا يقيمان معاً. الرجل الأحمر انتبذ مكاناً قصياً عن الرجل الأبيض، مثلما يفر غبش الصباح من شمس النهار. بيد أن اقتراحكم يبدو عادلاً، وأعتقد أن شعبي سيقبله، ويتقاعد في بقعة الحجز التي تعرضونها. عندئذ سنجنح إلى السلام كل في مقامه”(41). أما خطاب القصيدة، فينطق الهندي الأسير سؤاله المرير، للأبيض المنتصر: ألا يحتاج الأوروبي ــ في دراساته الأنثروبولوجية في العالم الجديد ــ إلى بقاء القليل من الهنود، دليلاً على محافظته على نوع من التوازن البيئي، بين المخلوقات الطبيعية؟!. وإذا ما كان الأمر كذلك، فما جدوى مواصلة كولومبوس للحرب (لماذا يواصل حرب الإبادة، من قبره، للنّهاية?)، وقد ظهرت نتيجتها، نصراً لم يبق من المهزومين (سوى زينة للخراب، وريش خفيف على ثياب البحيرات)؟! “إذاً/ لماذا يواصل حرب الإبادة، من قبره، للنّهاية?/ ولم يبق منّا سوى زينةٍ للخراب، وريشٍ خفيفٍ على/ ثياب البحيرات”(ص503)؛ مؤكداً له أن المشكلة لا تتمثل في قبول الهنود للسلام، فهم قد فعلوا منذ زمن، خصوصاً بعد هذا العدد الهائل من قتلاهم، ولكن المشكلة تكمن في ضرورة اقتناع المنتصر، بمنح “سلام القوة”، لجماعة الهنود الموشكة على الفناء: “سبعون مليون قلبٍ فقأتَ… سيكفي/ ويكفي، لترجع من موتنا ملكًا فوق عرش الزمان الجديد”(ص503)؛ حيث يلتقي “القاتل” “المقتول”، فيوقع  المقتول ــ باسمه ــ على معاهدة الصلح مع القاتل، ليتقاسما الأرض والتعايش عليها: “أما آن أن نلتقي، يا غريبُ، غريبين في زمنٍ واحدٍ?/ وفي بلدٍ واحدٍ، مثلما يلتقي الغرباء على هاوية?”(ص503).

ألا نلاحظ هنا مدى الفطنة التي تميز بها إدوارد سعيد، عندما لاحظ أن تجربة الشاعر في هذا الديوان تنطوي”على نغمة الكلل وهبوط الروح”؟(42).

وهكذا تتضح أمامنا واحدة من أهم علاقات التناقض، بين ما يقوله الشاعر هنا، وما كان قد قرره هناك. الأمر الذي يفسر لنا ما لاحظناه دائماً من تعارض بين تصريحات الشاعر السياسية ومقولات قصائده. ولا جرم، فنحن نواجه في هذه القصيدة حالة من الصراع العنيف، بين اللاشعور الرافض لاقتسام الوطن، والشعور الذي تحكمه قوانين الواقع وعلاقات القوى. يقول جاك ديريدا: “إن المركز… هو النقطة التي لا يغدو فيها استبدال المضامين أو العناصر أو المصطلحات ممكناً… إن المركز ــ الذي هو متفرد بحكم تعريفه ــ يؤسس في بنيةٍ نفسَ ما يحكمها، بينما يفلت من البنائية”(43). إن ما يحكم علاقة محمود درويش بالمحتوى الفلسفي لقصائده مركزٌ هو الآخر، نوع من أنواع سلطة اللوغوس، أسطورة تنفرد بالإفلات من البنية التفسيرية، التي كانت هي التي خلقتها وفرضتها على كل مسارات التحليل النصية. وعندما نتجاوز هذه السلطة المركزية في تفسيرنا الثاني هذا، فنحن لا نقوم بتوسيع فضاءات النص فحسب، بل نحفر فيما تحت ظاهره، لنكتشف ما يحتويه من معانٍ، ظلت الرقابة تكبتها حبيسة في لاشعور القصيدة، الذي صار يتفلت الآن منها. فلا شك أن التحليل يستطيع مساعدة النص على البوح الآمن.

ثالثاً3: التراجيدية والسويفتية:

يصف إدوارد سعيد رؤية محمود درويش السياسية، بأنها “تراجيدية وسويفتية” في ذات الوقت(44). وإذا كنا نعرف ما يحيل تعبير “الرؤية التراجيدية” ــ باعتبارها تشير إلى مواجهة الشخص للواقع القهري والأقدار ــ فإن فهم تعبير “الرؤية السويفتية” سوف يحتاج منا إلى الغوص في أرشيف من أطلقه: أي أرشيف إدوارد سعيد ذاته. وإذا كان واضحاً أن هذا الوصف يستعير اسم صاحب “رحلات جاليــﭭر”، فإننا في حاجة لمعرفة طبيعة نظرة إدوارد سعيد، لهذا الروائي الانجليزي من القرن الثامن عشر. وتلك نظرة تقول بأن “جوناثان سويفت” كان فوضوياً رجعياً، يستغل براعته البلاغية للوصول إلى مكتسبات مادية؛ الأمر الذي “اضطره ــ بشكل مفجع ــ للإذعان للتسوية والتصالح، جراء ظروفه الدنيوية، وجراء هذا الزمان”(45).

الخلاف إذن بين نظرتي كل من إدوارد سعيد ومحمود درويش، إلى اتفاق أوسلو، كان خلافاً جذرياً منذ البداية. فنحن نعرف أن إدوارد سعيد ظل يعتبر ذلك الاتفاق؛ “مأساة بحق [ناتجة عن] جهلنا للتاريخ وللقوة الاستعمارية [وهذا الجهل بالذات هو الذي] يبدو أنه علّم مهندسي أوسلو الفلسطينيين، أن الاستسلام الخانع المتذلل ــ مصحوباً بصرخات النصر الكاذبة ــ قد يحقق النتيجة ذاتها، التي تحققها حملة حقيقية من الاستنهاض والمقاومة. بل إنها لمأساة وإهدار وضياع””(46).

أما محمود درويش، فرغم أنه رفض الاتفاق، واستقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجاً عليه، إلا أنه لم يجد مانعاً من اعتباره ــ بعد قليل ــ مؤدياً من “آخر الزيارة إلى أول العودة: من رحلات البحر إلى الخطوة الأولى على البر”(47).

إذن فإدوارد سعيد يضع إصبعه ــ بمنتهى حدة الذهن ــ على إحدى الشفرات الهامة في قراءة خطاب درويش: فهو ــ من ناحية أولى ــ بطل تراجيدي يتحدى الواقع القهري، ويرفض الإقرار ببقاء المحتلين على شبر من الأرض، كما رأيناه في قوله:  “وعد، يا غريبُ، إلى الأهل… وابحث عن الهند”(ص504)؛ ثم يفاجئنا ــ من الناحية الأخرى ــ بتساؤلٍ موجهٍ للغريب المحتل، لا نفهم منه إلا أنه دعوةٌ للتعايش على أرض أمه، التي كان يرفض بيع شبر منها، في سطور شعرية أخرى، من نفس القصيدة: “أما آن أن نلتقي، يا غريبُ، غريبين في زمنٍ واحدٍ?/ وفي بلدٍ واحدٍ، مثلما يلتقي الغرباء على هاوية?”(ص503).

ثالثاً4: الخطبة الأخيرة، والخطبة ما قبل الأخيرة:

قلنا في التمهيد المنهجي للقراءة بطريقة اللعب، بأن من الممكن أن يحيل تعبير (ما قبل الأخيرة) إلى معنى معاكس تماماً: أي (الخطبة الأخيرة). بمعنى أنه قد آن للشاعر أن ييأس من كل مستقبل، باستثناء ما يبشر به الآخر النقيض. فرغم أن صوت البطل التراجيدي ظل، حتى لحظاته الأخيرة، يعلن النفير واستمرارية المواجهة، إلا أن صوتاً آخر ظل يرافقه، ويعلن في مقابله استحالة المواجهة، في “زمنٍ لم نهيّئ له، بعدُ، هاجسنا”(ص513). فمنذ البدء، يحمل صوت البطل التراجيدي نقيضه في داخله، حين يقرر: سيمضي زمانٌ طويلٌ ليصبح حاضرنا ماضيًا مثلنا/ سنمضي إلى حتفنا، أوّلاً، سندافع عن شجرٍ نرتديه/ وعن جرس اللّيل، عن قمرٍ، فوق أكواخنا نشتهيه/ وعن طيش غزلاننا سندافع، عن طين فخّارنا سندافع/ وعن ريشنا في جناح الأغاني الأخيرة. عمّا قليل/ تقيمون عالمكم فوق عالمنا: من مقابرنا تفتحون الطّريق/ إلى القمر الاصطناعيّ. هذا زمان الصّناعات. هذا/ زمان المعادن”(ص511ــ512)

وعند تأملنا في قوله: (سيمضي زمانٌ طويلٌ ليصبح حاضرنا ماضيًا مثلنا/ سنمضي إلى حتفنا) نلاحظ أن هذا الاستهلال يضع النتيجة قبل المقدمة: فالنتيجة هي أن يصبح حاضر الفلسطيني على أرضه مجرد حدث في الزمن الماضي، قبل أن يذهب إلى موته المقرر سلفاً. أما المقدمة التي تسبق النتيجة منطقياً ــ وتتأخر عنها شعرياً ــ فهي فعل المواجهة: (“أوّلاً، سندافع عن شجرٍ نرتديه/ وعن جرس اللّيل، عن قمرٍ، فوق أكواخنا نشتهيه/ وعن طيش غزلاننا سندافع، عن طين فخّارنا سندافع/ وعن ريشنا في جناح الأغاني الأخيرة). وهي مواجهة أخيرة، كالخطبة التي ألقاها الهندي الأحمر أمام الرجل الأبيض: (عمّا قليل/ تقيمون عالمكم فوق عالمنا: من مقابرنا تفتحون الطّريق/ إلى القمر الاصطناعيّ. هذا زمان الصّناعات. هذا/ زمان المعادن).

وبعد؛ أفلا تكون الخطبة، الملقاة في نهاية مواجهةٍ دارت في زمن متحالف مع العدو؛ هي الخطبة الأخيرة؟!. أليس هذا هو ما يحيل إليه بالفعل تعبير (خطبة الهندي الأحمر ــ ما قبل الأخيرة ــ أمام الرجل الأبيض)؟!.    

النتيجة:

كنا قد ابتدأنا البحث بالسؤال؛ عما إذا كانت هذه الخطبة هي خطبة الهندي الأحمر، أم هي خطبة الفلسطيني التائه؟!. ومع نهاية هذا البحث لا يزال السؤال معلقاً: هل هي خطبة الفلسطيني التائه، ما بين خياراته المستحيلة؟. وهل يوافق الفلسطيني على تقاسم الأرض مع العدو المنتصر، أم يواصل التشبث بالرفض الحالم، ريثما تتأتى ظروف وعوامل تغير من قوانين المعادلة؟. هذا ما تدور في فلكه القصيدة. وهذا ما يحير الشاعر ويؤرق اختياراته. وهذا هو سؤال القصيدة التي لا تقدم له جواباً. ومنذ متى كان على المبدع أن يهجر عالم السؤال إلى عالم الأجوبة اليقينية؟!.

ــــــــــــــ

الإحالات:

1ــ ديوان محمود درويش، م2، ط1، بيروت، دار العودة، 1994، ص497

2ــ صبحي حديدي (تحرير وترجمة)، 1492: لن يخلو الأبيض إلى نفسه أبداً: نصوص هنود أمريكا الشمالية، الكرمل (نقوسيا) ع45، 1992، ص84

3ــ محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة: دراسة ومعجم إنجليزي- عربي، ط3، القاهرة، الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان، ص46ــ47

4ــ سيجموند فرويد، تفسير الأحلام، ترجمة مصطفى صفوان، ط5، القاهرة، دار المعارف، د. ت، ص469

5ــ جابر عصفور، أقنعة الشعر المعاصر، فصول (القاهرة)، م1، ع4، يوليو 1981، ص123

6ــ بالموازاة مع مؤتمر مدريد، انطلقت المحادثات السرية بين منظمة التحرير وإسرائيل، عام 1991، في مدينة أوسلو النرويجية، حيث تمت بلورة المبادئ التي تم التوقيع عليها لاحقاً في واشنطن، في 13/9 / 1993

7ــ صبحي حديدي، 1492: اكتشاف أمريكا واكتشاف الإنسان، الكرمل (نيقوسيا)، ع45، 1992، ص20

8ــ عزت محمد جاد، نظرية المصطلح النقدي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002، ص489

9ــ صبحي حديدي (تحرير وترجمة)، 1492: لن يخلو الأبيض إلى نفسه أبداً، مصدر سابق، ص83

10ــ من قصيدة بعنوان: على محطة قطار سقط عن الخريطة، نشرت في صحيفة القدس المقدسية، انظر: http://www،alquds،com/node/26827، 20/ 8/ 2008

11ــ راوية صادق (ترجمة وتقديم)، أساطير الهنود الحمر، الكرمل (نيقوسيا)، ع45، 1992، ص283ــ285

12ــ راوية صادق (ترجمة وتقديم)، حكايات الهنود الحمر وأساطيرهم، الكرمل (نيقوسيا)، ع46، 1992، ص167

13ــ صبحي حديدي (تحرير وترجمة)، 1492: لن يخلو الأبيض إلى نفسه أبداً، مصدر سابق، ص89ــ90

14ــ انظر: ابن الأثير الجزري، جامع الأصول في أحاديث الرسول، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، ج9، بيروت، مكتبة الحلواني ومطبعة الملاح ومكتبة دار البيان، 1969، الحديث رقم 6989، ص350

15ــ محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة، مصدر سابق، ص54

16ــ لقب هجائي يطلقه الهنود الحمر على الأوروبيين.

17ــ جورج سانتيانا، الإحساس بالجمال: تخطيط النظرية في علم الجمال، ترجمة محمد مصطفى بدوي، مراجعة وتقديم زكي نجيب محمود، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2002، ص150

18ــ من قصيدة (مديح الظل العالي)، ديوان محمود درويش، المجلد الثاني، ط1، بيروت، دار العودة، 1994، ص35

19ــ من قصيدة (مديح الظل العالي)، مصدر سابق، ص37

20ــ من قصيدة (مديح الظل العالي)، مصدر سابق، ص26

21ــ انظر: خلدون الشمعة، تقنية القناع، فصول (القاهرة)، م16، ع1، صيف1972، ص74

22ــ يوزف ﭙيتر شتيرن، حول الأدب والأيديولوجيا، ترجمة باهر الجواهري، فصول (القاهرة)، م5، ع3: إبريل/ مايو/ يونيو1985، ص12

23ــ جابر عصفور، أقنعة الشعر المعاصر، مصدر سابق، ص124

24ــ أنتيغوني هي بطلة مسرحية لسوفوكليس تحمل اسمها، وأنتيغوني هذه هي ابنة أوديب، التي قامت بدفن أخيها فولونيقوس، على الرغم من منع الملك كريون لذلك، بدعوى خيانته لوطنه، وقد دفعت أنتيغوني حياتها ثمناً لهذا التحدي، أما روميو فبطل مسرحية شكسبير المعروفة (روميو وجولييت) الذي يموت في سبيل محبوبته.

25ــ جورج لوكاش، الرواية التاريخية، ترجمة صالح جواد الكاظم، طبعة خاصة، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2005، ص133

26ــ انظر: كليفورد ليتش، المأساة، من موسوعة المصطلح النقدي، ج1، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، ط2، بغداد، وزارة الثقافة، 1982، ص93

27ــ نقلاً عن: روبرت شولز، السيمياء والتأويل، ترجمة سعيد الغانمي، ط1، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994، ص88ــ89

28ــ كليفورد ليتش، المأساة، من موسوعة المصطلح النقدي، ج1، مصدر سابق، ص127

29ــ جلين ويلسون، سيكولوجية فنون الأداء، ترجمة شاكر عبد الحميد، مراجعة محمد عناني، الكويت، عالم المعرفة، 2000، ص99

30ــ نبيلة إبراهيم، المفارقة، فصول (القاهرة)، م7، ع3و4، إبريل1987،  ص132

31ــ جورج سانتيانا، الإحساس بالجمال، مصدر سابق، ص297ــ298

32ــ انظر: جيرار جينيت،  خطاب الحكاية: بحث في المنهج، ط 2، ترجمة محمد معتصم و عبد الجليل الأزدي وعمر حلّي، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص76ــ77

33ــ انظر: جيرار جينيت،  خطاب الحكاية: مصدر سابق، ص60ــ62

34ــ أبو تمام، ديوان الحماسة، تحقيق: عبد المنعم أحمد صالح، بغداد، وزارة الثقافة والإعلام، 1987، ص225

  1. انظر: جاك ديريدا، البنية، اللعب، العلامة في خطاب العلوم الإنسانية، ترجمة جابر عصفور، مراجعة هدى وصفي، فصول (القاهرة)، م11، ع14، شتاء1993، ص244

36ــ إدوارد سعيد، تلاحم عسير للشعر والذاكرة الجمعية، ترجمة صبحي حديدي، القاهرة (القاهرة)، ع151، يونيو1995، ص23

37ــ كارل. ج. يونج، علم النفس التحليلي، ترجمة نهاد خياطة، القاهرة، مكتبة الأسرة، 2003، ص98

38ــ انظر: كريستوفر بتلر، التفسير والتفكيك والأيديولوجيا، ترجة وتقديم نهاد صليحة، مادة في كتاب بعنوان: التفسير والتفكيك والأيديولوجيا ودراسات أخرى، بيتر بروك وآخرون، ترجمة وتقديم نهاد صليحة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص99ــ100

39ــ جان بيلمان نويل، التحليل النفسي والأدب، ترجمة حسن المودن، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1997، ص18

40ــ سيجموند فرويد، تفسير الأحلام، ترجمة مصطفى صفوان، مراجعة مصطفى زيور، ط5، القاهرة، دار المعارف، د. ت، ص523

41ــ صبحي حديدي (تحرير وترجمة)، 1492: لن يخلو الأبيض إلى نفسه أبداً، مصدر سابق، ص84

42ــ انظر: إدوارد سعيد، تلاحم عسير للشعر والذاكرة الجمعية، مصدر سابق، ص23

43ــ جاك ديريدا، البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية، مصدر سابق، ص234

44ــ انظر: جابر عصفور، تلاحم عسير للشعر والذاكرة الجمعية، مصدر سابق، ص22

45ــ انظر: العالم والنص والناقد، ترجمة عبد الكريم محفوض، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 2000، نسخة مسحوبة من موقع الاتحاد:

http://www،awu-dam،org/book/00/study00/268-a-m1/ind-book00-sd001،htm ، بتاريخ12/8 /2005، ص25، 56، 92

46ــ الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، ط1، بيروت، دار الآداب، 1997، ص12

47ــ انظر: صبحي حديدي، خيار السيرة واستراتيجيات التعبير، القاهرة (القاهرة)، ع151، يونيو1995، ص27

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى