بصمات تاريخية للإسهامات النسائية بالأندلس
حنون ألبينو| باحثة في التاريخ من تونسي
لعبت المرأة في تاريخ حضارتنا الإسلامية دورا هاما، حيث كانت لها مكانة رفيعة خصها بها الإسلام و ميزها، وهي أضافت لهذه الرفعة سموا أخر رفعها به عقلها و ذكائها و حسن تدبيرها و علمها فمثلا نجد في الأندلس أمثلة عدة في جميع المجالات لنساء وصلن بجهودهن الخاصة إلى مكانة متميزة زاحمن من خلالها الرجالفي عدة ميادين، بل و كن أحيانا كثيرة معلمات و مربيات لبعض أبرز الشخصيات المهمة في تاريخ الأندلس، ومن بين هؤولاء نذكر الشيخة العابدة الزاهدة ” فاطمة بنت المثنى القرطبية ” شيخة و معلمة الشيخ محي الدين ابن عربي. و هنا نتبين دور المرأة و مساهمتها في مجالات اعتبرت لفترة ما حكرا على الرجال، كالعلوم الدين و الفقه و الشريعة و أصولها، و ليس هذا فقط بل زاحمن الرجال في علوم أخرى كالطب فنجد من بين النساء الطبيبات اللواتي إشتهرن في هذا المجال أمثال ” أم الحسن بنت أحمد بن عبد الله بن عبد المنعم أبي جعفر الطنجالي ” إبنة ” أحمد بن عبد الله بن عبد المنعم أبي جعفر الطنجالي ” الذي قدم من المغرب للأندلس ليتولى القضاء بمدينة لوشة و كان أحد شيوخ ابن الخطيب، عُرف عنه أيضا إلمامه و اعتناؤه بصناعة الطب الذي أورثها لإبنته و التي تركت صدى عميقا حتى بعد وفاتها .
و أيضا نجد في إحدى العائلات الشهيرة في الأندلس و التي عرفت بصناعة الطب و التطبيب أبًا عن جد إذ تذكر بعض المصادر التاريخية أخت الحفيد ابن زهر الأندلسي وابنتها اللاتي كانتا تطببان نساء الحاجب المنصور بن أبي عامر وأهله، وكان المنصور لا يقبل بأحد سواهما يتكشف عن نساء بيته و هن ينحدرن من أعرق وأشهر العائلات في هذا المجال العلمي إذ كان رجال العائلة من أشهر أطباء الأندلس اللذين عرفوا بالمهارة في التشخيص و العلاج .
و إلى جانب الطب و علومه برزت عدة نساء أندلسيات في علوم أخرى كالرياضيات و علوم الفلك أمثال “فاطمة المجريطية ” التي اعتبرت فريدة عصرها و أضافت الكثير لهذه العلوم إذ كانت تقوم بتصحيح التقاويم و الجداول الفلكية للخوارزمي كما قامت صحبة والدها بحساب مواضع الشمس و القمر و الكواكب و وضعت جدول خاص لعلم الفلك الكروي عملت أيضا على حساب أوقات الكسوف و الخسوف و مازالت إلى اليوم مفخرة أمتنا الإسلامية كما كانت مفخرة عصرها .
إضافة إلى أن النساء في دولة الأندلس كن يحضين بمكانة رفيعة و موضع إحترام و تقدير و حضوة كبيرة حتى لدى ملوك الأندلس أنفسهم فقد كانت ” لبنى القرطبية “، مسؤولة عن مكتبة قرطبة و تنظيمها في عهد الحكم المستنصر بالله إذ كانت ناسخة و مترجمة ترجمت العديد من المخطوطات الهامة و نسخت بخط يدها الكثير من الكتب الهامة أيضا، و يعود لها الفضل مع حسداي بن شبروط في إنشاء المكتبة الشهيرة في مدينة الزهراء العظيمة. فقد ازدحمت مدينة قرطبة عاصمة الخلافة الأموية بالأندلس بالخطاطات الماهرات من النساء اللواتي تميزن بجمال خطهن و روعة أسلوبهن و اللواتي يعود لهن الفضل في نشر الكتب على نطاق واسع ليشع بعد ذلك نورهن على كل الرقعة الأندلسية و ليبرز بذلك عددا من النساء العالمات، المتفقهات، الأدبيات، و الشاعرات و لئن ذكرنا مجال الشعر الذي ذاع صيته في كل ربوع الأندلس التي أخرجت من بطنها عددا من الشعراء الأفذاذ سبحوا في جميع أغراضه الشعرية و مازال ذكرهم يعتبر مجدا و فخرا إلى اليوم فقد أنجبت الأندلس أيضا نساء شاعرات ذاع صيتهن و عُرفن برقة و عذوبة و جمال نظم أشعارهن و أحيانا جرأتهن فيه، وأشهرهن على الإطلاق نذكر ” ولادة بنت المستكفي ” (994 – 1091م)، إحدى أميرات قرطبة التي عرفت بكثرة مجالسها الأدبية و التي اشتهرت أيضا بقصة حبها مع شاعر الأندلس ” ابن زيدون ” و من أشعارها نذكر:
“أَغارُ عَلَيكَ مِن عيني وَمِّني ومِنكَ ومِن زَمَانِكَ والمَكانِ
وَلو أنّي خَبّأتُكَ في عُيوني إلى يَومِ القِيامَةِ ما كَفَانِي”
“ترقب إذا جن الظلام زيارتي فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان للبدر ما بدا وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر”
وكانت بعض الشاعرات الأندلسيات قد اشتهرن بالتحرر في شعرهن و مقارعة الرجال و الفوز عليهم في جولات شعرية أمثال “نزهون القلاعية ” (ت. 1155م )، التي عرفت بظرفها و رقة طبعها و سرعة بديهتها في الرد و كانت لا تخجل إن تضمنت أبياتها بعض الكلمات الفاحشة نذكر بضعة أبيات لها:
” قل للوضيع مقالاً
يتلى إلى حين يحشر
خلقت أعمى ولكن
تهيم في كل أعور
جازيت شعرا بشعر
فقل لعمري من أشعر
إن كنت في الخلق أنثى
فإن شعري مذكر ” .
هذه الأبيات التي قالتها نزهون ردا على الشاعر المخزومي أبو بكر الأعمى في أحد مجالس الوزير أبي بكر بن سعيد و قد كان شاعرا هجاء فهجى نزهون قائلا :
” على وجه نزهون من الحسن مسحة
وإن كان قد امسى من الضوء عاريا
قواصد نزهون توارك غيرها
ومن قصد البحر استقل السواقيا “
و جاء رد نزهون القلاعية قاسيا مقذعا أيضا .
و غيرهن الكثيرات ممن ذاع صيتهن و اشتهرن بعذب نظمهن الشعري من أمثال ” حفصة بنت الحاج الركونية الأندلسية ” (1135-1191) .
و ” حمدة بنت زياد بن تقي “، من شاعرات غرناطة ، و التي تعتبر من أشهر شاعرات زمانها، وكان لها نصيب كبير من العلوم، لقبت بخنساء المغرب لأنها قالت شعرا في الرثاء وكانت من البارعات فيه و قد ذكرها الملاحي في تاريخ غرناطة و أنشد عنها ايضا ابن الخطيب .
نذكر نماذج إبداعاتها الشعرية و هو بعض ما ذكره ابن الزبير أن الملاحي أنشد عن أبي الكرم جودي عن البراق لحمدة ترثي صبيا صغيرا:
” يعز علينا، نوسدك الثرى بمجهلة لا دار فيها ولا أهل
وقد كنت أرجو أن يطول لك المدى وأنك إن تأت الردى تأته مهلا
على انه ما لذة العيش للفتى وغايته شرخا كغايته كهلا
عليك السلام كلنا أنت فا قتعد ضريحك لا حزنا تبالي ولا سهلا ” .
لم تقتصر اسهامات النساء في هذه المجالات فقط بل امتد ذكرهن حتى في بناء الجوامع و المساجد و في كل مجالات العلوم و الأدب و الشعر و النسخ و الترجمة و كن يحضين بالإحترام و التقدير و بلغن بعلمهن و نبوغهن المدى، لتخلد ذكراهن في كتب التاريخ التي مازالت إلى اليوم تتحفنا بأسماء عظيمات أمتنا الإسلامية من النساء اللواتي تركن بصمة في صفحات التاريخ كل في مجالها التي برعت فيه لتصل ذكرى و أعمال إحداهن إلينا اليوم بعد مرور عدة قرون من الزمن لكأنهن مازلن حاضرات معنا و فينا .
المراجع :
ـ نفح الطيب الجزء الثاني للمقري التلمساني.
ـ الإنجازات العلمية للأطباء في الأندلس و أثرها على التطور الحضاري في أروبا ـ القرون الوسطى ، دكتور نهاد عباس زينل .