مراوحات الأحوال.. قراءة في ديوان “منازل أخري للدهشة” للشاعر عبد الله راغب
عمارة إبراهيم | شاعر وناقد مصري
قصيدة النثر هي التطور الطبيعي للشعرية العربية بجانب الشعرية التي تنتمي إلي دفقة الحال ولا ترتبط بوزن حسابي ذهني ليس له علاقة بإيقاع الحال؛ فهي تمتلك كل معطيات الشعرية الحديثة التي تعتمد علي إبراز معالم جمالية جديدة لها من ثقافات ومعارف تتناص مع أحوالها؛يتجانس مع هذه المعطيات إيقاع لن تهمله ذائقة المتلقي الذي توقفت حواسه ضد المنبرية والخطابية في المد والتسكين والتأوه وهي معطيات لغتنا العربية وليست معطيات وزن حسابي أقرأه في كثير من الأحيان وكأني أقرأ جريدة يومية امتلأت أوراقها بحبر الكلام الذي يؤدي إلي معني
وكأن الشعرية العربية تأسست بنيتها علي الوزن الخليلي ونسينا أن الشعر العربي الذي يعيش بيننا بقوة هو شعرية ما قبل الخليل؛ وأن الخليل ما هو إلا تنظيم حسابي لحروف المتحرك والساكن بتنظيم ذهني قبل أن تتعانق ذاكرة الشاعر الذي يحفظ آلاف الأبيات بحسب إيقاعها العروضي بدفقة حال البحر العروضي ودوائره حتي يستطيع أن يكتب قصيدة حال تملك إيقاعا عروضي ولا تملك ذهنية حساب الوزن،”من هنا كان اليقين أن الإيقاع الحقيقي في الشعرية العربية هو إيقاع اللغة،حيث يتمدد الحرف إلي الكلمة حسب حركية الأفعال التي منحت الأحوال إيقاعا يتغير بتغير حركيتها تكون ودوالها هي القائد العام في منح الإيقاع المناسب حسب دفقته الشعرية، ليختلف من فعل إلي آخر حتي تمنح لغة الأفعال فضاءاتها الواسعة وتزيد رقعة قاموسها وتتسع لكل البحار والمحيطات من أفعال البشر”1
والشعراء الذين تحققت شعريتهم ومنحتهم خلودا مثل المتنبي و شوقي وحافظ وغيرهم القليل كانت لقصائدهم التي رسمتها أحوال الكتابة الفضل الأوفر في هذا الخلود والكثير الآن من المهتمين والمتذوقين يملكون القدرة علي فصل قصيدة الأحوال عن قصيدة النظم
ورغم أن الكثير من شعراء النثر يقدمون ترجمة لشعرية لن تتوافق مع ثقافتنا وبيئتنا ولغتنا؛ لكن بعض شعرائها القلائل يقدمون قصيدة أحوال تفوقت وتحقق لها وجود شعري كبير؛ لأن القصيدة هي تعبير لشعرية الواقع والزمن والبيئة والثقافة التي يعيشها الشاعر وإلا ستصل شعريتنا العربية إلي بحيرة راكدة مثل التي نراها في تراثنا الفرعوني في جنوب مصر؛ليبقي بتأريخها ومحتواها قائما باسم من سجلت خلوده وجعل بحرها هائجا ؛تتغير مياهه ولا تقف عند ركود بمثل ما حقق لها شعراء ما قبل الخليل وما تسعي إليه قصيدة الأحوال الآنية .
كانت هذه مقدمة ضرورية لاستجلاء أمر وأحوال شعرية ديوان “منازل أخري للدهشة” للشاعر المصري عبد الله راغب أبو حسيبة” .2
ليعبر الشاعر عن تقلبات مزاجية مرهونة بالخاص والعام من الأحوال التي استنطقت دفوع شعريته للبوح والكتابة؛ كما أن خبرة الشاعر التي قدمها في أعمال شعرية سبقت هذا الديوان قد ساهمت إلي حد كبير في إبراز معالم هذه الشعرية التي ارتكزت علي منقوع النفس كي تبرز مفاتنها عبر الدال والمدلول في حركية الأفعال التي اتسقت نفسيا وروحيا ولغة في بنية شعرية قدمت نفسها للقارئ والمتلقي والمهتم في ثوبها الجمالي.
ومدخلي هنا أيضا عن ديوان “منازل أخري للدهشة” أعده تقريرا لتشريح منظوره النفسي الذي يسعي أن يحقق نتائج في الغالب لابد وأن تمنح بوصلة جمالياتها ومراسم حضور،تفوقها الإنساني بعلم المنطق أولا قبل العلوم الوضعية التي أري عدم تجانسها مع الأحوال العامة التي بناها الشاعر داخل القصائدتطبيقيا مع الشعرية العربية في عموم موضعها السابق قبل التطوير والتحديث الذي طرأ عليها وقد بنيت عبر لغته الشعرية من خلال هذا المنظور؛ كما أن الموروث الشعري ما هو إلا المكون العام لمفهومها مثله مثل تطورها ومستجدها؛ وربما في أزمنة أخري سيتطلب زمن واقعها وبيئتها وثقافتها تطورات أخري ومستجدا يتناسب؛ لأن وببساطة كل شيء قابل للتغيير وللتجديد وللتطور وخاصة المناهج التي درسناها ونال منها من نال درجات علمية وتألهت عندنا رغم أن الغرب هم من قاموا بتغييرها وتطويرها ولم يقفوا عند تأليه موضع لها.
كما أن القصيدة التي تقوم علي تنظيم حسابي لحروف الساكن والمتحرك قبل أن تتعانق ذاكرة الشاعر عبر تراثنا الشعري وقد يحفظ الافا من الأبيات الشعرية بحسب إيقاع البحر العروضي ودوائره حتي يستطيع أن يكتب قصيدة حااااال؛”وقصيدة الحال وحدها هي من تملك أرضية التجانس وميدانها الرحب بوسع فارسها أن يتجول وأن يجول وفق ضابط الشعرية وفقهها وليس ضابط الوزن الحسابي المؤله”3.
كانت معانقتي للبنية العامة داخل الديوان قد منحتني مساحة من هذه الفضاءات التي تجانست مع ذائقتي وقد حققت لدي قناعة مهمة تدعم رؤيتي لتطور الشعرية داخل نصوص هذا الديوان.. يقول الشاعر:
أنا خمسة
مات أربعة مني
علي ما أتذكر لم يتبق غير الخامس
هذا الذي دقوا الطاعون
في بطنه
وعلقوا الصليب علي جدار بيته
لم تكن الكتابة عند عبد الله راغب مجانية وسهلة رغم بساطة اللغة فيها؛بيد أن الأسلوب الذي يرسم منه عوالم أحواله علي ما يبدو وضوحه؛يتأثر بشدة بتقنية شعرية النثر عبر البيئات الاخري؛ لينسج بها خيوط أحواله عبر بيئته العربية وعبر ثقافته التي انغمست في تقنية تمزج بين هذا وبين ذاك؛ فتدخل في تفاصيل السرد الشعري الذي يحمل عمق هذا الأسلوب داخل مبناه البسيط وأداته؛ تدير شراعه حركية أفعال أحوال الكتابة التي تعتمد علي إنتاج جمالية المعني في تجليها العام معتمدا علي ثقافته التي أبحرت في التراث الشعري والإنساني؛ وكأن الإنسان هو الإنسان وإن تغيرت البيئة والثقافة والعادات والتقاليد؛ لكنه يبقي إنسانا في حسه وفي إدراكه وفي اختياراته وكل ما يعن لروحه واحتياجاته النفسية لتكون هذه التقنية هي البديل المعادل للصورة الشعرية التي اعتدنا عليها في الشعر العربي والنص ليس حكاء “وليس في النص روح حكاء،بقدر ما فيه اقتصاد”.4.. يقول في قصيدة” الحشاشون”:
في طرف الخيمة
تجر البنت برودة الليل
إلي طرف موحل
للشارع الترابي
تزعق : الحشاشون
يمرون كهواء خفيف
لا يلتفت كلب الحي لهيئتهم
كانوا لطافا
يخلفون ورائهم
روائح تنسخ بعضها
فيمتلئ الناس
بخدر جميل
من هؤلاء يا أبي؟!
تلعب الرمزية هنا دور البطل في النص؛حيث يرسم الشاعر تفاصيل البنت التي تجر برودة الليل نحو التفاصيل، إلي جانب موحل من الشارع الترابي؛حيث يتواجد به الحشاشون الذين يمرون دون ما يحس بهم أحد؛يوصفهم باللطف؛ فهنا علينا أن نربط بين دال الفعل الذي يدير لحظة البنت وبرودة الليل والطرف الموحل رغم أن الشارع الترابي يكتظ بكلاب الحي؛وكأن الشاعر يرسم لنا أحوال البنت التي تتعود علي مثل هذه الأحوال ؛يحاصرها من يتحضرون لهذه اللحظة ” الحشاشون”،ويبدو أنها تتكرر كثيرا لوجود كلاب الحي؛وهنا يعاود الشاعر الترميز بالوصف؛ ليحقق مسارات التوافق العضوي لحركية الدوال التي يتحقق منها جمالية المعني في الترميز… في قصيدة الماء صار لي وحدي يقول:
الآن وفي عمق المحيط
أخلع سفينتي
عن جسدي
لم أعد بحاجة إلي الشط
أو الطرق الوعرة
اليابسة،كانت مشنقة
ومشقة غير مبررة
الآن. .
الماء صار لي وحدي
ولا مبرر للمرافئ القديمة
كي تستقي
تحت قدمي المنهكة
أو لتفادي إشارات المرور
حين أعبر
من ماء آسن
لماء فضي سوف يأتي لي
برحيق زهرة صبار
تركت شجرتها
ونامت كيمامة وحيدة
نامت في قصيدتي
يعتمد الشاعر في معظم تجربته وفي هذه القصيدةعلي تقنية الرمز الذي يحيل المعني المقصود إلي دوال متعددة بحسب معطيات أحوالها لاحالتها للمدلول الذي يمنح القارئ أو المتلقي نتائج الدلالة التي تقترب نحو المسار الجمالي في سياق المعني الذي يريده؛وهذا واضح كمثال نحدده في مفردتي الماء الاسن الذي يتحول بمعرفة الشاعر عبر سياقه الدلالي إلي الماء الفضي وهنا الإحالة تكون من الماء الذي لا طعم ولا لون له وهو الماء العذب الذي نشربه إلي الماء الذي يرمي لونه إلي الماء المصنع مثل المشروبات الكحولية أو ما شابه؛لكنه يأتي برحيق زهرة الصبار؛ وهنا يعاود الشاعر محاولة عبور تقنيته التي يجيدها؛ بأن بتوافق طعم هذا الماء الفضي بطعم زهرة الصبار ليكون المعادل الحالي الذي يرمي بدلالته إلي تحقيق نتائج جمالية المعني في سياقه الشعري.
كانت هذه بعض الأمثلة التي ترسخ لقيم الجمالية البديلة عن موروث جماليات الشعر العربي عبر أشكاله سالفة السياق الزمني لتتجاور قصيدة شعرية النثر مع الاشكال الاخري حتي تضيف وقد أضافت بالفعل حارات ومسارات أخري لها؛لتضمن وجودا صاعدا عبر تطور الشعرية العربية المرجو في أشكال كتابتها السابقة والانية واللاحقة؛ لكنها تبقي تائهة الآن بين مسماها الذي أرفضه وبين كتابة شعرية الأحوال التي تعتمد علي دفقة حركية الفعل موغلة في استنهاض كل ما يعن داخل الشاعر الموهوب لبناء عوالم شعرية أخري تتوافق مع البيئة والثقافة وتكون مرجعا فنيا ومعرفيا لتمثيل حقبة كتابتها؛”وقد أعددت كتابا يفصل بين كتابة شعرية الحال في مراسم الأشكال التي تديرها حركية الأفعال داخل كل نص شعري حقيقي وبين منحة الشعرية العربية في عطاياها وفقهها الذي يرسم جماليات قصيدة الأحوال وما تملكه حسب دفقة أحوالها وثقافة ومعارف وعلمية مبناها الذي لا يلامسه غير موهوب حقيقي يملك أدواته ومعايشته لأحواله ومطلعا علي أحدث علومها وعليه أن يضع العلم الحقيقي تنظيرا من مسعاه في البحث عن روافد جمال وتطور لشعريتنا العربية المكلومة”5
المراجعات:
1 _ “يراجع” الشعرية العربية بين الثابت والمتغير كتاب نقدي للكاتب
2 _”يراجع”ديوان ” منازل أخري للدهشة ” للشاعر عبد الله راغب أبو حسيبة
3 _ “يراجع”الشعرية العربية بين الثابت والمتغير كتاب نقدي للكاتب
4 _ “يراجع” كتاب “صخب الظل” للشاعر الناقد فريد أبو سعدة.. كتابات نقدية،العدد 245
5 _”يراجع” الشعرية العربية بين الثابت والمتغير كتاب نقدي للكاتب