شاعرات تجرّأن وكتبن الشعر في أفغانستان [^]
هند زيتوني| سوريا
بمناسبة يوم المرأة العالمي
الشعر هو الفن العظيم الذي عبّر عن أهميته، الكاتب والشاعر الفرنسي، جان كوكتو عندما قال: “الشعر ضرورة لا أدري لماذا”. يبدو أنه كان ضرورة ماسّة للتعبير عما يعتلجُ في القلب من هموم وأوجاع في وقتٍ من الأوقات، فقد كان المنفذ الوحيد للنساء والفتيات المضطهدات في بلادهن المغلقة التي ما زال يسيطر عليها المجتمع الذكوري. الرجل المتعصّب الذي يملك زمام السيطرة على حياة الأنثى فيمنعها من ممارسة حياتها بشكل طبيعي؛ فهو يعتبرها قطعة أثاث تزيّن منزله أو ربما يرميها بالرصاص، لو أحسّ في يوم من الأيام بأنها لوثت شرفه أو شرف العائلة.
إلى أيّ درجة كان يُعتبر الشعر مهماً لبعض الشاعرات اللواتي دفعنَ حياتهن ثمناً من أجل كتابته؟ وهل ما زال الشعر يعتبر (تابو) أو شيئاً مُحرّماً، لا يمكن أن تتداوله الأنثى في بعض البلدان المتعصبّة والمتطرفة؟
الفتاة التي وجدت نفسها قابعة خلف الستائر والشادور، وإقليم منعزل اسمه الحريم وحضورها مغطى بهالات سميت (بالعفة والشرف) اضطرت أن تكتب الشعر لتُعَبّر عن ألمها وحزنها وعاطفتها الجياشة ورغبتها المكبوتة في بلاد تحكمها الآفات الاجتماعية وتصلبها على خشبة الجهل والقمع والجريمة.
ومنذ البداية وجدنا هناك من كسرن تلك الأطر وظهرن في مجال الأدب والسياسة كما الخنساء ورابعة العدوية وقبلها كليوباترا وزنوبيا. ولكن البلاد التي كانت أشد وطأة من غيرها هي أفغانستان، خصوصاً بعد سيطرة طالبان وسلطتها الرجعية والدامية. حيث التزَمُّت الديني الذي أودى بالبلاد إلى العنف والدمار والجهل، ومع ذلك لم تمتنع النساء الأفغانيات عن مغادرة البلاد لمتابعة دراستهن لممارسة الفن والأدب ليظهر صوت المرأة التي تنشد الحرية والانطلاق. فمنهن من هاجرت إلى إيران، ومنهن من هاجرت إلى أوربا وأمريكا.
ففي بداية السبعينيات بدأت صرخة المرأة، وكانت المرحلة الأولى والمرحلة الثانية كانت بداية القرن الحادي والعشرين إلى حد الآن. تلك الصرخة التي خرجت ضد الوحشية التي تحملها المجتمعات المريضة وتورثها لأبنائها؛ جيلاً بعد جيل. والكارثة أنها تلبس وحشيتها ثوب الدين والقدسية تحت ستار العفة والشرف والأخلاق.
نذكر هنا الشاعرة الأفغانية ناديا أنجمان المولودة في هرات عام 1978، وقد تخرجت في جامعة هرات، واكتسبت شهرة واسعة بعد الإطاحة بحكم طالبان. وترجمت قصائدها إلى عدة لغات. لقد قضت نحبها في الخامس من نوفمبر 2005، وهي ابنة الخمسة وعشرين ربيعاً. على يد زوجها الأفغاني، (فريد أحمد جيد ميا). كان قد تخرج في جامعة هرات أيضاً بدرجة في الآداب.
زوجها هذا قام بضربها ضرباً مبرحاً حتى الموت، لأنها تجرأت وكتبت الشعر. ولأنها قررت السباحة ضد التيار. لتتمرد على كل ما هو متعارف عليه. وقالت إنها طيرٌ من طيور الله. تقول في إحدى قصائدها:
في الليل تأتيني الكلمات
تلبّي نداء صوتي
أيُّ نار تتقد في جسدي؟
أي ماء؟
شذا روحي يأتي إليّ
من أين تأتي الكلمات؟
قلبي الحزين يتلألأ كالنجوم
وطائري المحلّق يلامس السماء
انتسبت الشاعرة ناديا أنجمان لمدرسة الخياطة الذهبية حيث كانت تتعلم في دائرة تعليمية سرّية، هناك تجتمع الفتيات ثلاث مرات في الأسبوع تحت ستار “كيف تتعلم الخياطة؟”، وهي ممارسة وافقت عليها طالبان بينما كن يستمعن إلى محاضرات من أساتذة جامعة هرات وقيادة مناقشات حول الأدب. وإذا تم القبض على المشرف أو المدرس ربما تكون عقوبته التعذيب والموت.
أصدرت ناديا كتابها الوحيد (غولي دودي) الزهرة القرمزية. لقد كتب الروائي الأفغاني روايته الشهيرة (حجر الصبر) وقد نال عليها جائزة الغونكور الفرنسية، ووثق فيها أحداث مقتل الشاعرة ناديا أنجومان على يد زوجها، وزار الزوج القاتل في السجن، لكنه وجده في غيبوبة بعدما حاول الانتحار. ويقال إنه تساءل وهو يقف قبالة الجسد الغارق في الغيبوبة، “لو أن الشاعرة القتيلة هي التي تقف مكانه ما الذي كانت ستقوله لزوجها القاتل؟ ومن هنا وُلدتُ فكرة “حجر الصبر”، وهي من أروع الروايات التي قرأتها للكاتب المعروف عتيق رحيمي. كان الشيء المميز فيها أنها حصلت في غرفة، وكان كل أبطال الرواية، هما الزوجة التي تسبّح بمسبحتها والزوج المسجَّى على السرير والغارق في غيبوبته.
لجأت الشاعرات اللواتي أَحسَسْنَ برغبة عارمة للثورة على الواقع المرير ومخاصمته- لجأن إلى الخيال ليصعدنَ سلّماً نظيفاً بعيداً عن القهر والاضطهاد والآفات الاجتماعية التي كانت وما زالت تمنع المرأة من الخروج إلى مراكز التعلم بل تحرمها من أي شيء له علاقة بالعلم والعمل.
وفي أفغانستان لطالما شكل شعر الباشتون أحد أشكال التمرد للمرأة الأفغانية حيث تقول الشاعرة الأفغانية صفاء صدِّيقي، قصيدة اللانداي تخصُّ النساء في أفغانستان “الشعر هو حركة النساء النابعة من الداخل”. وقد تعاملت قصيدة اللانداي مع الحب والحزن وما يشجب قيود الزوجات وأحيانا إضافة دعابة ساخرة (الزوج الهرم يوصف بأنه رعب صغير)
وهل كانت زارمينا قرباناً للشاعرات الأفغانيات؟ إذ أجبرت على البقاء في المنزل لتكنس وتطبخ، فلذا وجدت أن تدرّب نفسها على كتابة الشعر. كانت تقول: “لا أستطيع تلاوة الشعر أمام أشقائي”، فقصائد الحب قد ينظر إليها على أنها علاقة محرمة، وقد تُعرّض الفتاة للضرب حتى الموت.
كانت تقول قصيدتها عبر الهاتف لآميل وهي فتاة ناشطة تساعد الشاعرات بإيصال أصواتهن. قرأت مينا قصيدة بشتونية تتألف من بيتين “آلامي تكبر مع تضاؤل حياتي”، ثم هتفت لآميل “سجلي صوتي حتى حين أُقتل يكون لديك شيء ما مني إنني – راحيلا الجديدة- كانت تجيبها آميل: “أيتها المغفلة لا تقولي ذلك أنت أصغر من أن تموتي”.
راحيلا هو الاسم المستعار الذي أطلقته على نفسها شاعرة يافعة تدعى زارمينا، انتحرت قبل عامين. كانت تقرأ قصائدها عبر الهاتف حين سمعتها شقيقة زوجها، فسألتها: “كم عشيق لديك؟”، ولذا افترضت عائلة زارمينا وجود شاب آخر على الخط فقام أشقاؤها بضربها وتمزيق دفتر أشعارها. بعد إسبوعين أضرمت زارمينا النار بنفسها، لأن عائلتها لم تسمح لها بالزواج من الرجل الذي أحبته.
اتصفت قصائدها بالجرأة تسأل: “لماذا لستُ في عالم حيث يمكن للناس الآخرين أن يشعروا بما أشعر به أو يسمعوا صوتي؟” ثمّ تسأل إذا كان الله يحب الجمال فلماذا لا يسمح لنا نحن بذلك؟”، تقول: “في الإسلام الله يحب النبي محمداً، وأنا أعيش في مجتمع يفسر فيه الحب على أنه جريمة؟ “إذا كنّا مسلمين لماذا نختار أن نكون أعداء للحبّ؟”. قالت في قصيدة من قصائدها: “إنني مثل زنبقة في الصحراء، أموت قبل أن أتفتح، ثم تذرو عاصفة الصحراء تويجاتي”.
وقالت شاعرة أخرى: “إذا كانت المرأة تكتب عن الحب فهذا يعني أنها بلا قيم”، وعندما كانت أفغانستان تواجه الخسارة أمام القوات البريطانية، ظهرت الشاعرة مالالاي ورددت: “يا الحبيب الشاب إذا لم تسقط شهيداً في معركة مايوارز، أحلف بالله أن إنقاذ أحدهم هو رمز للعار”. توفيت مالالاي على أرض المعركة ولكن انتصرت القوات الأفغانية، وكانت القصيدة تنطوي على الدعاية السياسية “رموشك السوداء إسرائيل وفَوْدي فلسطين المعرضة لهجومك”.
كما كان الواقع الحزين يأخذ واقع الرثاء “جاء حبيب برأسه لبلادنا، سأخيط كفنه من خصلات شعري”، كان بعض الآباء المتحضرين متفهما للموقف، حيث قالت ليما “لم يكن والدي يعرف الكثير عن الشعر، فمهنته مهندس، وقد سمع عن الجمعية التي تذهب إليها الفتيات، فأخذ يرسل بناته ليتعلمن الكتابة.
وجهت ليما قصيدتها إلى طالبان:
لن تسمحوا لي بالذهاب إلى المدرسة
إذاً لن أصبح طبيبة
تذكروا التالي – ذات يوم ستمرضون –
الشاعرة الأفغانية تكتب اليوم، تكتب الشعر باستمرار داخل أفغانستان أو خارجها، وقد استطاعت الشاعرة حميراء نكهت دستكير زاده المولودة في كابل أن تحصل على الدكتوراه من جامعة صوفيا حيث تقيم حالياً في هولندا، ومن دواوينها نهر الحرية الأزرق. كذلك الشاعرة زهراء زاهدي هاجرت برفقة عائلتها إلى إيران، وهي صحفية تعمل في مجال الشعر والأدب، حيث كتبت قصيدة النثر والشعر العمودي. تقول:
أنحتُ مزماراً من عظامي
يغني اشتياقك
أو نصاً أشدُ بياضاً من العاج الهندي
عله يطلق جوع أعضائك
زخرف مقبض السكين
ضع هالة صورتك في إطار أو في محبرة أنيقة
كذلك هناك الشاعرة- صنم عنبرين- ولدت في كابول وتقيم حالياً في ألمانيا حيث حققت مكانة جيدة بين الشاعرات الأفغانيات خلال فترة قصيرة. تقول في إحدى قصائدها:
كان البحر يمدّ قامته نحو الشمس
وعيون تتبع الأحلام
وأخيلة تدور في الفضاء
يقرأ قضبان القفص عن ظهر قلب.
ثم هناك الشاعرة يزدان هدية التي ولدت في كابل ودرست في أمريكا في جامعة نبراسكا، وتقول في قصيدتها:
تنطلقُ عيناي من النافذة
وأبقى في الأسر عمياء
أما من الشاعرات المعاصرات والشابات الجريئات اللواتي كتبن أيضاً عن الحب، أذكر الشاعرة هدى خموشي، وُلدت 1997 في أصفهان/ وانتقلت إلى أفغانستان، تخرجت في فرع الأدب الفارسي. كتبت في إحدى قصائدها:
اصلبني
على أكثر حدود جسدكَ إشاعة
دع هذه القبلة وهذه المضاجعة الملوّنة
تدفع إبليس إلى السجود.
كما كتبت الشاعرة المعروفة بشعرها المتمرد مجموعة شعرية “ما وراء السمعة السيئة”، تقول: “يا لها من ليلة مقدسة: تلك الليلة التي مزّقتُ فيها ياقتك من الرغبة”.
أما باران سجادي فصدر لها ديوان الرجم وديوان الدورة الشهرية، فنقرأ لها هذه الأبيات:
اللحظات تهرب مرتعشة
وأنا أعود إلى هذا العالم
أحاول أن أضاجع الشمس
ولا أخشى الاحتراق
وهناك الكثيرات من الكاتبات والروائيات اللواتي أذهلن العالم بحروفهن الرائعة، واستوطن التعبير عن أحزانهن ومشاعرهن بكل صدق وجمال.
صدقت يا لوركا حين قلت عن الشعراء وأحزانهم: “آه يا لها من أحزان عميقة، لا يمكن أن تتجنبها تلك الأصوات المتوجعة التي يغنيها الشعراء”.
====
[^] تستند هذه المقال إلى معلومات مستقاة من مصادر متعددة في الإنترنت.