أزمة الأنظمة العربيّة مع مُثقَّف ” الكوكاتو “

ناصر أبو عون

بلا استثناء، وبلا ناصيةٍ للاستراحة على قارعة الطرقات العربيّة التي أضحت لا تفضي إلى شيء، يقف المتثاقفون العرب يتناطحون الهواء، ويتقاذفون العقل العربيّ النائم، والتائه في المنطقة الوسطى ما بين الشك واليقين، والمغيّب قسرًا في متاهة (صراع الحضارات)، والمخترق فكريًا، وأمنيًا والواقف عاريًا – بعد أن قِيلَ له اخلع ما لم تصنعه يداك – وحائرًا في مفترق الطرقات، والمستسلم لشيوخ الفضائيات، والمتجرِّع لسموم وتقيؤات الأقلام الصحافية المنفلتة من عِقال مواثيق الشرف الأخلاقيّة فَشَلَّتْ وَعْيَه، وحرضتْ شرائح كبرى منه على الانخلاع من جلده، وأغوته بارتداء عباءة التغريب المُرقّعة من كل حَدَبٍ حضاريّ، وصَوْبٍ بدويّ، وألْبَسَتْه شرائح أخرى من بني جلدتنا ثوب الأصوليّة الجامدة فصار المواطن العربيّ كائنا رخويًا، ومسخًا شيطانيًا لا نافعًا في نهضةٍ تتلمس الخُطى، ولا مُنْتَفًعا به في مساراتِ الاستنهاض الإنسانيّ، وما تلك إلا خطيئة صغرى من نهر الخطايا الذي يسبحُ في مجراه (العربيّ الجديد)؛ مستسلمًا لتيارات جراثيم الحداثة المفبركة لا الجادة، والأصوليّة المقيتة تتلاعب بجثته المهترئة شوطًا بعد آخر على ملعب كبير تجاوزتْ حدوده خرائط الوطن العربيّ المسيّجة بإطار من التسامح الهشّ وصولا إلى المهاجرين في أوروبا وأمريكا، ضاربةً العمق بالإرهاب المنظّم خلافًا لما جنته أيديهم من خطايا منهجيّة واقترفته أدمغتهم من تنظيرات ديماجوجيّة، على وقع أصواتهم المنكرة في دهاليز المنابر الدينيّة، والمؤسسات الثقافيّة وقاعات الدرس التعليميّ تدّعي (النبوءة) تارةً، وتستشرف اللامستقبل تارةً أخرى، وتستعدي الأنظمة السياسيّة الحاكمة في ظاهر قولها، وتنفث في وجهها سُمِّ أقلامها، ولا تتورّع عن استدعاء الخارج للاستعانة به في (لَجْمِ) أَلْسِنَة بني جنسها، وتتعامى عن جريرتها الكبرى في حقِّ أوطانها، وولاة أَمْرِها وتستغفل أتباعها، وتغضُّ الطرف عن حقيقة أنها ليست غير أذرعٍ إعلاميّة، وبطاريات ثقافيّة تمّ إعدادها على عجلٍ وبدون احترافيّة وما لَحْمِ أكتافها إلا من خيرات الأنظمة السياسيّة التي تُعارضها؛ فبدا ظاهر المتثاقفين عن (معارضة، واستعراض)، وانكشف باطنهم عن (ممالئة واستنعاج)؛ تسوّق للغافلين، والمستغفلين (صورةً ناصعة) عن دورها الاستثنائي في (النضال) ضد الفقر والفساد، وهي غارقة إلى أُذنيها في بحرٍ لُجيٍ من (النفاق والاسترزاق)؛ كأفعى رقطاء تربّت في حِجْر رجلٍ طيّب فلمَّا استأمنها على روحه كانت أول الغادرين. وللأسف لم تستوعب الأنظمة العربيّة الدرس، وما تزال تستوظف (المتثاقفين)، وأنصاف المبدعين، والكتبة والمستكتبين.

والطامّة الكبرى التي ألمَّتْ بالبلاد والعباد، وحطتْ على رؤوس الأنظمة العربيّة كانت من جراء فشل هؤلاء المتثاقفين المصنوعين على عينها في إعادة تدوير نُفايات الفكر الإنسانيّ، ورسوبهم في المهمة الكبرى الموكولة إليهم والمتمثلة في بناءِ نهضة علميّة، وقعودهم عن توظيف المعرفة كمورد رئيس، والاستثمار في رأس المال البشريّ، ومازالت تلك  الثُلّةٍ من المتثاقفين تُمعنُ في قطف شجرة التغريب والاستغراب المحرّمة فبدت سوأتها، وانكشفتْ جريرتها، واتضح أنّ منتوجها الإبداعي في (الشعر والمسرح، والموسيقى، والفن التتشكيليّ.. إلخ) الذي صدّعتْ به رؤوس الأجداد والأحفاد ليس سوى عملية “اجترارٍ” عشوائيّة لفضلات، ونُفايات الحضارة الغربيّة، ومُعلبات فكريّة منتهية الصلاحية.

وإذا ما أردنا التوصيف والتصنيف لأنواعيّة المتثاقفين العرب لاتضحتْ الصورة جِدُّ مفزعة، ولم تتكشف الخديعة إلا عن مُصيبةٍ مُفجعة، فقد سقط القناع، وانكشف المستور عن  صورة قبيحة من”ببغاء الكوكاتو المغرور” والذي هو في الأعم الأغلب يتزيا باللون الأبيض، أو الأسود، أو الرماديّ، فنرى المتثاقف العربيّ صورة مطبوعة وثلاثية الأبعاد من هذا (الكوكاتو) ينطوي في منطوقه، وفكره على رؤية واحديّة، ويقف على يمين السلطة (دينيًا ورأسماليا) منتفعًا ومنافحًا ومنافقًا لا يُسدي نصيحة أو يبتكر طريقة للخروج من نفق المشكلات الاقتصاديّة ولاجتماعية رافعًا راية (ليس في الإمكان أبدع مما كان)، وفي المشهد المقابل للصورة السابقة نرى (المتثاقف العربي) (اشتراكيًا وقومجيًا) متكئًا على يسار السلطة (معارضا) ينادي بالإصلاح وهو أحد مفاعيل الإفساد الفكري، ويدعو للإصلاح الدستوري، وهو رهينة فكر ديماجوجيّ؛ وبين اللونين السابقين نجد (المتثاقف الرماديّ) وهو نمط (مائع)، و(إمّعة) وجِدُّ خطير على مستقبل النهضة العربيّة ومُثبِبط لحالة الاستنهاض وفي حراكه الثقافيّ ليس إلا (بندول ساعة حائطية)؛ يتقافز يُمنةً ويُسرةً {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [ سورة النساء (143)]

والأنواع الثلاثة من (مثقف الكاكاتو  العربيّ)، تعيش في أبراج عاجيّة، متعالية على الجماهير تُغلق عينيها، وتصمّ أذنيها عن كل فكرة تخالف ما آمنت به، وترفض كل جديد يناهض ثوابتها، تناوئ كُلّ صوتٍ جديد يُغرّد خارج سِربها، وتعادي كلَّ داعيةٍ إلى الاستنهاض الحضاريّ لا يسير على منهجها {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا  (7)سورة نوح}، يغالون في العداوة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (سورة المائدة (104} فالكوكاتو من الطيور الشعبية في التربية واحتياجاتها من الصعب تلبيتها، ومن معايبه الصوت العالي ويعادي كل من يقوم بحركات غريبة أو يعمل بجانبه أو يكون كثير الحركة بجانب قفصه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى