قتل ابنه وصنع حديقة من رؤوس أعدائه.. “المعتضد بن عباد” أمير إشبيلية
د. آية محمد الجندي | أكاديمية مصرية وباحثة في التاريخ
“فكأنما لم يكن أميراً قط، ولا أنفذ حُكماً، ولا قاد جيشاً…”
هكذا وصف ابن بسام صاحب كتاب الذخيرة، مقتل المنصور إسماعيل ابن المعتضد بن عباد وولي عهده، والذي لاقى مصرعه على يد والده المعتضد.
فمن هو المعتضد بن عباد؟!
المعتضد بن عباد أمير إشبيلية (434ه/461ه) في فترة ملوك الطوائف، كان يوصف بأنه كان جباراً قاسياً سفاكاً للدماء، فقد اشتهر عنه احتفاظه برؤوس أعدائه الذين انتصر عليهم في حروبه بداخل حديقة خاصة بقصره سُميت بـ “حديقة الرؤوس” ، حيث كان يضع جماجم أعدائه على نصب من خشب إلى جانب الأزهار بحديقة قصره، ويعلق في أذن كل جمجمة بطاقة مكتوب عليها اسم صاحبها، أما أعداؤه من الأمراء فكان يحتفظ برؤوسهم في صناديق مقفلة في مكان آخر.
وتعد إمارة بني عباد من أهم الإمارات العربية التي تأسست في فترة ملوك الطوائف بالأندلس، حيث اشتهرت بجرأة حُكامها ومحاولاتهم الدائمة في فرض سيطرتهم على الإمارات المجاورة لهم. والمعتضد من أشهر حكامها لنجاحه في توسعة حدود إمارته.
لم تقتصر قسوة المعتضد على أعدائه فقط، وإنما طالت أقرب الأقربين له، فقد قام بالتخلص من ابنه وولي عهده وقائد جيشه المنصور إسماعيل، الذي يبدو أنه كان قد سأم من قسوة والده وأفعاله التي اشتهر بها فقرر الثورة عليه، بعدما طلب منه والده أن يستولى على مدينة الزهراء بقرطبة في سنة 450هـ/ 1058م، فاعترض على ذلك واتهم والده بأنه يُلقى به في المخاطر ويرفض إمداده بالعدد الكافي من الجنود أثناء المعارك الكبرى، ويشير البعض إلى أن سبب اعتراضه هو اعتقاده بفشل هذا الهجوم وذلك لأنه لا يملك العدد الكافي من الجنود، بالإضافة إلى خوفه مما قد يحدث إن نزل قرطبة بجنوده، فربما يلحقه باديس بن حبوس أمير غرناطة لينجد حلفاءه من بني جهور أمراء قرطبة، ويقع إسماعيل بجنده بين طرفي رحا، وقد ناقش والده في ذلك، لكنه وصفه بالجبان وأجبره على المسير إلى قرطبة، وهدده بالقتل إن لم يفعل، وقد أشعل فتيل ثورته تلك الوزير الكاتب “أبو عبد الله البزلياني” حيث أغراه ليثور على والده ويستقل بالجزيرة الخضراء، فبعد أن خرج بجنوده من إشبيلية في اتجاه قرطبة، عاد إليها مرة أخرى مع الوزير البزلياني وثلاثين فارساً، خادعاً رؤساء الجند بأن والده أرسل في طلبه، فلما عاد كان والده في حصن الزاهر على الضفة الأخرى من النهر، فأخذ في جمع الأموال والذخائر وأخذ والدته ونساءه وحمل كل ما طالت إليه يده على دواب، وقام بحرق الزوارق الراسية على جوانب النهر حتى يمنع وصول الخبر إلى أبيه، ورحل في اتجاه الجزيرة الخضراء، لكن قام أحد فرسانه بالتسلل وعبر النهر سباحة ليُبلغ خبر تمرده لوالده، الذي أرسل عدداً من الفرسان لاعتقاله وأرسل إلى قواد الحصون يحذرهم من إجارته، وقد حاول إسماعيل اللجوء إلى أحد قادة حصون كورة شذونة – يقال أنها قلعة ورد- والمُسمى بابن أبي حصاد، فأجاره ظاهرياً؛ حيث لم يسمح له بالصعود إلى القلعة ونزل إليه مع رجاله ليستقبله ويعرض عليه أن يتوسط له لدى والده ليسامحه ويعود إلى إشبيلية، والظاهر أن إسماعيل قد أدرك فشل محاولته تلك، فوافق على عرض ابن أبي حصاد الذي أرسل بدوره إلى المعتضد يخبره بوقوع إسماعيل في يده وندمه على ما فعله ويطلب منه مسامحته، فوافق المعتضد على ذلك وأعاده إلى إشبيلية ليلاً حيث عزله في قصر ومنع أي أحد من الوصول إليه وكأنه وضعه تحت إقامة جبرية، وأمر بقتل الوزير البزلياني مع مجموعة من خواص إسماعيل.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد أصاب إسماعيل الرعب بعدما قُتل البزلياني ورجاله، وظن أنه التالي فقرر الوثوب على والده مرة أخرى ولكن هذه المرة كانت بمساعدة القائمين على حراسته، فاستطاع دخول القصر ليلاً مع أعوانه في الوقت المفترض أن يكون والده نائماً فيه، لكن الأمر لم يتم له هذه المرة أيضاً فقد وقع في يد والده مباشرة فلم يصفح عنه وقرر قتله بيده، فلم يشهد مقتله أحد ولم يُعرف له مكان رفات، وتتبع المعتضد أعوان ابنه بالقتل والتعذيب ولم ينج من ذلك حتى نساؤه، ولم يهدأ حتى قطع دابر ولده، وأرسل إلى ابنه محمد “المعتمد” الوالي على مدينة شلب لينصبه ولياً للعهد مكان أخيه، وأغلقت صفحة الأمير المنصور إسماعيل إلى الأبد.
وبسبب فعلته تلك وتخلصه من ابنه بدم بارد، فقد خاف ابنه المعتمد من رد فعله عقب هزيمته في إحدى المعارك فقرر هو وأخ له الهروب وعدم العودة إلى إشبيلية، خوفاً من أن يلقيا مصير إسماعيل، إلى أن استطاعا أن يجعلا والدهم يسامحهم ويمنحهم الآمان للعودة مرة أخرى إلى إشبيلية.
وبالرغم من تلك القسوة التي عُرف بها المعتضد حتى على أقرب الناس إليه، وندمه لاحقاً على قتله لابنه بتلك الطريقة، فإن وفاته كانت غير متوقعة، فقيل إنها كانت بسبب حزنه على وفاة ابنة له، كانت من أحب أبنائه إليه، حيث توفيت قبل وفاته بيومين فقط، وقيل أنه عقب دفنها عاد شاكياً ألماً برأسه، واعتراه نزيف دموي كاد أن يودي بحياته، فأشار عليه الطبيب بالفصد، لكنه أجله لليوم التالي، فكان ذلك من أسباب وفاته في سنة 641ه/ 1069م.