لماذا تركت الديك وحيداً؟
سهيل كيوان | فلسطين
هل كان على ملايين الأوكرانيين النازحين أن يبقوا في وطنهم، وأن يقاوموا الغزاة، وإلا فإنهم لا يستحقون هذا الوطن الذي يتباكون على خطر فقدانه لحريته؟ أعتقد أن شاعرة الوطنية الأوكرانية المستقبلية، التي تبلغ الآن خمس سنوات من عمرها، تمسك بيد والدها على الحدود البولونية، ستكتب بعد نصف قرن، قصيدة تحمل ملامة مُضمرة: لماذا أخذت الكلب وتركت الديك وحيداً يا أبي؟
ـ كي يؤنس البيت يا ابنتي.. فالبيوت تموت من دون سكانها.
من الملاحظ أن كثيرين من الأوكرانيين النازحين حملوا كلابهم وقططهم معهم، ولم يتركوها وحيدة، وهذا حقٌ وواجب أخلاقي على النازحين تجاه حيواناتهم الأليفة.
نزح من أوكرانيا إلى دول الجوار أكثر من ثلاثة ملايين إنسان حتى الآن، ومن المتوقع أن يصل قريباً إلى خمسة ملايين، وفي اعتقادي أنه إذا شغّل أشقاؤهم الروس آلتهم العسكرية بكل ثقلها، بالقصف العشوائي الهادف إلى دب الذعر والفوضى، كما فعلوا في غروزني وفي مدن سورية، بمئات آلاف الغارات الجوية، وهو ما بدأوا يلوحون به لخاركوف وكييف وغيرهما، فإن أعداد النازحين سوف تتضاعف، وقد تصل إلى عشرة ملايين، على الرغم من الاجتماعات والمؤتمرات الصحافية اليومية المتابعة للوضع مباشرة، في عواصم أوروبا المتاخمة، وفي واشنطن والأمم المتحدة، والإعلان كل بضع ساعات عن زيادة الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا، بكرم غير مسبوق، وتشديد العقوبات على روسيا التي طالت حتى القطط والرياضيين والموسيقيين والأدب الروسي والفودكا والكافيار، ويتسابق الغرب في تقديم المكافآت للأوكرانيين على صمودهم، ولأجل دفعهم إلى مزيد من المقاومة، والتسبب بمزيد من الخسائر للروس، وفي الأساس لإضعاف اقتصادهم، وهو كما يبدو الهدف الأساسي الذي بات نصب أعين أمريكا وحلفائها ،وليس وقف نزيف الدم الأوكراني والروسي والمُرتَزقي.
ينزح الملايين ولا لوم عليهم في هذا، رغم أن مساحة أوكرانيا حوالي 600 ألف كيلو متر مربع، أي أنها تشكل عشرين ضعفا من مساحة فلسطين التاريخية، وأكثر من ثلاثة أضعاف مساحة سوريا، والحرب بعيدة عن الأرياف، وروسيا نفسها تفتح طرقاً آمنة، لمن يرغب في الدخول إلى أراضيها، وقد دخل بالفعل أكثر من 260 ألف أوكراني إلى روسيا حتى الآن، يعاملون بِوُد لا يقل عن ذلك الذي يعامل به من لجأوا إلى دول الجوار الأخرى. كثيرون من الأوروبيين ومن العرب كانوا وما زالوا يلومون السوريين والفلسطينيين من قبلهم، «لماذا لم تبقوا في وطنكم للدفاع عنه»؟ وذهب بعض الأغبياء أو المزاودين أو الرداحين من الفلسطينيين والسوريين أنفسهم ليقولوا: إنهم يستحقون ما يجري لهم، كان عليهم أن يبقوا في سوريا وقبلها في فلسطين بكل ثمن. هؤلاء يتجاهلون حق الإنسان العربي بأن ينجو بروحه، وأن يحمي أسرته من الموت، خصوصاً عندما يكون مدنياً يقابله عدو همجي لا يعترف بأي قوانين لا في الحرب ولا في السلام، ويفضلون أن يحترق في غارة روسية أو أمريكية أو داعشية أو نظامية، كي يحظى بمقولة» نأسف لوقوع ضحايا من المدنيين». قُدم للأوكرانيين حتى الآن أكثر من ثلاثة عشر مليار دولار لدعم صمودهم، وفي هذه الأيام بالذات، رفض الاتحاد الأوروبي تمرير مساعدة بقيمة 214 مليون دولار لسلطة رام الله، بناء على طلب من مندوب هنغاريا في الاتحاد الأوروبي، وذلك بزعم وجود مواد تحريضية ضد إسرائيل في مناهج التعليم الفلسطينية! أما بالنسبة للحركات التي ما زالت تعلن أنها تقاوم وستقاوم، فهي في قائمة الإرهاب، ومحرومة من أي تعاطف معها ودمها مهدور. أوروبا وبعض العرب وآخرون، يريدون من الفلسطينيين أن يرضخوا لواقع الاستيطان، وأن يغضوا الطَرف عن الطرد السكاني والقتل الذي يمارس يومياً، وأن يقبلوا بتذويب هويتهم القومية والوطنية، وأن يعتبروا ممارسات الاحتلال خيراً وبرَكة، كي يتصدقوا عليهم بالدعم.
لو أن ما دخل إلى أوكرانيا في هذا الشهر من أسلحة متطورة مضادة للدبابات والطائرات، دخل إلى قطاع غزة أو إلى بيروت عندما حوصرت عام 1982 أو إلى المخيمات والمدن الفلسطينية عام 2000، لرأينا إسرائيل تهدد بالنووي ما لم تتوقف الحرب فوراً. أما للشاعر الذي تحمل قصيدته ملامةً مضمرة لوالده، بسؤاله الذي يبدو طفولياً: لماذا تركت الحصان وحيدا يا أبي؟ أقول: لو حظي آباؤنا بعُشر الدعم الذي حصل عليه الأوكرانيون، لما تركوا حصاناً ولا ديكاً ولا ثوراً، ولا حتى صرصاراً وحيداً يا محمود سليم الدرويش.