عن الحب والحرب والذاكرة.. في نص للشاعر مفتاح العلواني
جبّار ونّاس | ناقد
قُيِّضَ للذاكرة لِأنْ تكونَ المرجعَ والخزّانَ الذي سَتُفكُ عند بابها كلُّ طلاسمُ الإشتباك حين يُصارُ إلى إسترشادٍ يتوخى تبصرَ مراتبَ الحقيقةِ وإختزالَ تفاصيلَ دقائِقها التي تراكمتْ بين دفاتِ خزّانها حتى يُصبحَ ذلك الخزانُ ناطقاً يُرشدُ مَنْ يبحثون بدقائقَ ذلك الإشتباكِ ومدياتِ تمظهراته على سطحِ الواقعِ لِيُعطى لهم من مساراتِ الحقيقة ليتمعنوا عن قربٍ وخبرةٍ ودرايةٍ آنيةٍ عن مقدارِ النجاحِ والتبني حين تبدو عمليةُ الإختزالِ والتبصرِ عن قربِ لكلِّ ما حوته أحضانُ هذه الذاكرةِ وهو يبدو متسمراً بوجوده بغضِ النظرِ عما يحمله من سماتِ الحضورِ والأثرِ سواءٌ كان بغثه أو سمينه..
وقد سار الشاعر الليبي ( مفتاح العلواني) عبر نصه المنشور في موقع (نصوص أدبية) على الطريق السالك نحو تلازمِ ما هو متناقض ما بين محدداتِ الحربِ كفاعل يمضي بآثارِه عميقا في الهدم والخراب وبين فروضاتِ الحبِّ كتجلٍ إنساني يريدُ له نصوعاً آدمياً يوازي بوجوده تلك المساحةَ التي تمدد عبرها فعلُ الهدمِ والخرابِ القادمِ بفواعلَ الحربِ وكلِّ لواحِقِها المدمرةِ وهو بهذا الإشتغالِ الفني والأدبي أراد أن يفضحَ لنا كلَّ الدروب واللحظاتِ ودقائقها لأن تُصبحَ الذاكرةُ حاضرةً كحاضنٍ وكشاهدٍ وكمرجعٍ يُؤرشفُ من دون أنْ يبتعدَ عن براهين الحياد عند الرجوع إليه في النبشِ والتبصرِ وقراءةِ ما هو مؤرشفٌ بعينِ الحقيقة وتجلياتها الناطقة بوضوح..
والشاعر العلواني يمشي بنصه أيضا وفق عملية يتوازى فيها أثرُ الحربِ وتواصله وكذلك تواتر الحب كمشروعٍ يرادُ له أن يتسامى في التواجد هو الآخر رغم ضيق البلاد على قلبيّ الشاعر وحبيبته وهذا يشكل عتبةً واضحةً جادت بها أسطرُ العلواني ونحن ندخلُ معه في عملية تلقٍ مباشرةٍ لم نجد فيها ما يعكرُ صفوَ تلقينا ذلك أنَّ الشاعرَ هنا توخى لنصِه أنْ تكون دواخلُه واضحة..
فنداء الحب وسطَ أجواء الخراب والهدم لابد له من أن يكونَ مميزاً يعلو بعاطفةِ الإنسانِ حين يرتقي إلى مَنْ يُحبُّ وكما وجدنا في هذا النص فإنَّ حيازاتِ ذلك النداء قد تجلت عبر السؤال وإستمالة المستقبل من خلال تكرار حرف السين والذي تعزز أيضا بعملية الإبتهال :
ونبتهلُ…
نبتهلُ لِأنَّ الحربَ ابقتهم لنا..
وكذلك تبدو عملية التعزيز والتلازم المثير من قبل الشاعر بتماسك تكرار حرف السين لسبع مرات مع ولادة الأطفال الذين سيقوم بعدهم بعد نهاية كل يوم وبعد إنتهاء أثر الحرب وفي هذا إشارة لإيمان الشاعر بحيوية الحياة وسر وجودها وتعويله على تفاعلٍ حرٍّ سيحصلُ لاحقا من جراء ترسيخ مفعول الإيمان لديه..
ومما عوّل عليه الشاعر في بث كمية من الالم حين تُصبحُ الذاكرةُ عتبةً تدلي إلى مقبرةٍ وهذا من مخاضات الحياة حين تكون هي الأخرى حبلى بما ينتج الألم وبصورة صارخة في الحضور والتداول اليومي إذ كان هذا النص سادرا مع تشعبات ما تفور به روح الشاعر فصار يتشاطر ما بين إسلوب الشرط ( عندما يصير لنا منزل…) ليربط هذا الشرط بجواب يتشاذرُ مع المستقبل ( سنجري – ستختبئين) وهو إستقبال يشي بالقلق إذا ما وصلنا إلى خاتمة النص لنجد تلك الذاكرة وقد إستحالت إلى مقبرة
وعندي ان هكذا نصوص هي رسائلُ تتماسك بديمومةِ التذكيرِ بما هو مؤلم سيكونُ شاهداً على مآسٍ راحتْ تركسُ وتغوصُ بين أحضان هذه المجتمعات ( العربية) والتي كُتبَ عليها لأن تشهدَ على واقعها وهو يتمزق بأمراضِ الطوائف والديكتاتوريات والتخلف والخرافات فباتت مجتمعاتٍ كالحةً طاردةً لكل ما يدعو لتبني الحلم في حياة تتعافى بروح الإنسان كفاعل وسيدٍ ومتفانٍ في بناء وجوده الآدمي..
ومفتاح العلواني حين يؤثث سطورَ نصهِ هذا أمامنا فذلك نابعٌ من أحاسيسَ ومتبنياتِ شاعرٍ وإنسانٍ يطمحُ لأن ينتمي إلى وطن يشعر بداخله وكأنه يحقق من مقدار وجوده الحيوي بذاكرةٍ تتقاطع مع تلك الذاكرة التي تكدست بقتلى وضحايا الحروب المستمرة وبعنوناتٍ متناسلةٍ ومضنيةٍ في آثارها وخرابها وقد غلَّفَ مدار نصه لنا بغنائية تستميلُ من عواطف المتلقي لأنْ يسيحَ معها بمرونةٍ إنسانية والسير مع سطور النص والذي إرتأى كاتبه العلواني أنْ يكونَ خالياً من تمركزاتِ العنوانِ ليعطي للقارىء مهمةَ التأويلِ والإستنتاجِ في إستخلاصه لِما تمخضَ به متنُ النص..
٠٠٠٠٠٠٠٠
مفتاح العلواني | ليبيا
عندما يصير لنا منزل
واسع..
في بلاد كادت تضيق على قلبينا..
سنجري فيه..
وستختبئين خلف الأبواب مثل طفل صغير..
سأناديك بعد انتهاء الحرب
بأسمائك التي دسستها
تحت لساني كي لا تموت..
وستركضين نحوي مثل أم وحيدة..
سنعُد أطفالنا كل نهاية يوم
ونبتهل..
نبتهل لأن الحرب أبقتهم لنا..
ستسألينني: هل أبدو كمقبرة؟
سأنظر لوجهك قليلاً..
ثم أتذكر أن كل الذين قتلتهم الحرب
تكدسوا بذاكرتنا.