المنظور السوسيولوجي في الخطاب القصصي السردي علي السباعي أنموذجا

سليمان البكري | ناقد من العراق

تطبيق على مجموعة (إيقاعات الزمن الراقص)

إيقاعات الزمن الراقص مجموعة قصص قصيرة صدرت عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق”2003″ حققت فيها المنظومة القصصية عبر خطابها القصصي السردي اهتماما بموضوعة السوسيولوجي في القصة القصيرة كرؤى ومفهومات تتعلق بالواقع في مفردات الحياة اليومية التي تعيشها شخصيات القصص،في دراستي لموضوعة السوسيولوجي في خطاب المجموعة سأبدأ من”الإيقاعات”الكلمة الأولى في العنوان،التي مفردها”إيقاع”وتعني لغوياً”اتفاق الأصوات وتوقيعها في الغناء”كما في قاموس(المنجد في اللغة) في طبعته العشرين – بيروت 1960. كيف وظف القاص علي السباعي هذه المفردة في مجموعته القصصية بعد أن حوّلها إلى صيغة الجمع”إيقاعات“.

إيقاعات القصص لم تتفق أصواتها وبلغت حداً كبيراً من الاختلاف ،وبذلك فإن الرؤى الداخلية في الخطاب القصصي مارست نوعاً من التماهي بإزاء المعنى اللغوي القاموسي ووظفت الإيقاعات في رؤيا حملت إطرافها صراعا وحركة من اجل تجاوز واقع سيء بائس إلى واقع أخر يحقق مشروعا إنسانيا هو في حقيقته أفكار القاص حيث تختفي فيه سلبيات الحياة والصراع الدائم فيها وظهور الواقع الجديد النظيف واقع الأمل الذي انتظره الناس طويلاً.
هذه الرؤيا تنطلق من قانون الجدل السوسيولوجي القائم على الصراع غير المنظور في المجتمع،الذي تتحول فيه الإلية الاجتماعية من حال لآخر دون إن يدركها الإنسان كحالة مادية ملموسة”إيقاعات الزمن الراقص”تشكل تجسيداً حياً لمفهومات القاص في هذا الجانب الفلسفي الثقافي وتوظيفه فنيا في الخطاب القصصي السردي عبر مفهومات تقدمية إنسانية حملت روح الثقافة والحضارة والإنسان.

خطاب القصة السردي في افتتاحية قصص المجموعة”إيقاعات الزمن الراقص”يلقي الضوء على إشكاليات العصر التي يعاني منها الإنسان في الصراع الكبير الذي وجد فيه نفسه بعد أن انطوت صفحات تاريخية طويلة منذ لاسكندر المقدوني وصولاً إلى البيروسترويكا عبورا إلى العولمة في النظام الدولي الجديد.

كل هذه الصفحات كانت تمارس الازدواجية في سلوكها بإزاء الإنسان وتضع الأقنعة في شعاراتها المزيفة،هذا يكشف عن صراع سوسيولوجي حقيقي بين:(القديم والجديد البداوة والتكنولوجيا،المألوف واللامألوف)ص7.

وجه الصراع يوضحه الخطاب في استخدام آلية الحرب التكنولوجية من أجل الهيمنة على العالم رغم انتهاء الصراع الإيديولوجي.البنية الفنية لخطاب القصة اعتمدت الحوار بين محاضر/دكتور في قسم التأريخ وطلابه في محاضرة تكشف عم واقع المأساوي الذي يفرض وجوده على العالم.الخطاب بشكله الفني يرفض هذا الواقع ويدينه بسخرية تنطلق من”فقاعات الزمن الجديد”ص9هي “فقاعات سوسيولوجية “أن جاز التعبير من أجل بداية تاريخ جديد!هذا يجد حالة اغتراب الإنسان والمثقف بشكل خاص وهو يعاني أزمات عامة تتحرك من حوله وتحيطه من كل جانب لتأخذه إلى القعر حيث الدوامة تتحرك بشكلها الدائري المرعب تغرق كل الأشياء من حولها وتأخذها بعيداً عن العلاقات الإنسانية إلى القعر حيث الموت والدمار، بهذا تتضح”إيقاعات زمننا الراقص/البائس/المدمر/القذر/الذي يٌهلك الإنسان ويقتله.

في قصة “عرس في مقبرة”حالة اغتراب يعيشها السارد/حارس المقبرة مع امرأة مجنونة تنبش احد القبور ومفاجأة الحارس دعوة المرأة له ليكون عريسها الليلة وسط هياكل وجماجم الموتى في احتفالية غرائبية تنطلق من أفكار المرأة المجنونة مؤشر الواقع الأخر الايجابي الذي يحقق شمولية إنسانية.

في قصة”الخيول المتعبة لم تصل بعد”مثلث علاقة متناقص الأفكار يوضح البنية الفنية لخطاب القصة السردية من خلال المواقف شخصيات القصة وهم كالآتي:-  هرون الرشيد/ الشابة دموع/عبدالامير الشحاذ/واختلاف الرؤيا بين شخصية وأخرى.السرد يكشف عن تحولات الشخصية التاريخية/ هارون الرشيد/ كنموذج يمتد عبر مئات السنين صعوداً إلى الزمن الحاضر حيث الكثير من الملوك والأباطرة والرؤساء في فرديتهم ودمويتهم وقتلهم الآخرين، وتكون شخصية وأخرى/ دموع/ رمزاً يتبع القوي في ضعفها واهتزازها وخوفها، في حين يكون/ عبد الأمير/ صوت الرفض الذي يدعو للتغيير وإزالة أوهام الفردية المقيتة لدكتاتوريات عصفت بالتاريخ الماضي وصولا إلى زمننا المعاصر الذي نعيش مأساته الآن.الخطاب القصصي في تاريخيته يكشف عن واقع مأساوي دموي ارتبطت به النظم السياسية في الماضي البعيد والقريب ودعوة مقنعة في رمزية فنية مختفية وراء القناع لأنها تلك الأنظمة والخلاص منها.في قصة”هكذا وجدت نفسي”يتحدث في فضاء مغلق يقترب من اللامعقول عبر حوارية تأخذ حيزاً مؤثراً في خطاب السرد بين نموذج القصة”وجع”وحماره الذي يقترب في”حواره”من حمار”جحا”.بين وجع الواقع الذي يعيشه نموذج القصة في فقدان زوجته وفراغ حياته ووجع الحمار اليومي في الجهد والحركة والنقل والجوع والعطش تنطلق المقولة التي يٌنهي بها الخطاب سرده الفني:”تستطيع صنع قدرك الجيد بالإرادة”ص21لتضع خاتمة لمعاناة”وجع”وحماره جراء علاقات سوسيولوجية سلبية بائسة وهي نهاية تفتح نوافذ الأمل للإنسان وهو يعيش معاناة يومية تضيق عليه الواقع ودعوة لتجاوزها وإقامة جديد تتحقق فيه إنسانية الإنسان المصادرة من الآخرين.
في قصة “طائر الهزار”تداخل المادي بالروحي والمعقول باللامعقول والتراث بالمعاصر،هذا التداخل الجميل في البنية الفنية القائمة على حوار مفترض بين اجل إنقاذ نفسها وشهرزاد الساردة التاريخية لـ(إلف ليلة وليلة)وحكاياتها مع الملك من شهريار.”السرد الشهرزادي”يؤسس بارقة أمل للخلاص وبشارة لمستقبل وضاء سعيد يتوازي مع الأمل الذي يصنعه طائر الهزار مع شهرزاد العصر وهي تعيش،إشكاليات حياتية كبرى.الخطاب القصصي تألق في طرح عالمين متوازيين في المعاناة والبحث عن الخلاص،عالم تراثي/تاريخي وعالم آخر معاصر والية بحث عن الخلاص مستمرة من دون توقف في قصة”قطار اسمه غاندي”حوارية افتراضية بين الواقع والخيال بين نموذج القصة”غاندي”وخياله.الخطاب الحواري/القصصي يوظف جانبا من حياة الشخصية التاريخية الشهيرة”غاندي”في محاولة لسير أغوار الواقع السوسيولوجي المريض الذي يفرض وجوده على الآخرين بعيدا عن الانفعال القصصي يحقق كشفا ورؤية واضحة يُفهم منها ان”الحياة ليست سوى مزاح ثقيل/مبتذل/بليد/ولعب اخرق بالألفاظ”وفق الشاعر”يرمنتوف”الذي استند إليه خطاب القصة.

حالة التوازي بين”غاندي”في الخطاب القصصي وبين خياله المفترض والحوارية الدائمة بينهما لا تحقق رؤية فنية تتعامل مع الواقع المريض المعقد البائس أنها تكشف فقط ،لكنها – الرؤية – لم تبلغ مستوى توظيف شخصية تاريخية مثل “غاندي”في فتح أبواب النفق المظلم للواقع المأساوي المريض وإيقاد ضوء فيه ومحاولة عبوره.الخطاب القصصي وظف الخيال ثيمة ناجحة وتعامل من خلالها على وفق بنية حوارية فنية لكنه لم يحقق التوظيف الفني المطلوب لشخصية غاندي على وفق رؤية واقعية سوسيولوجية معاصرة.

يواصل الخطاب القصصي السردي في تعامله مع المنظور السوسيولوجي الواقعي في رؤى فنية متعددة منها”القصة القصيرة جداً”وهذا المصطلح الفني كان وما يزال إلى دائرة الإبداع القصصي العراقي فهو”يعبر المسافة بين الخبر الاعتيادي مستقيلا لان حدثها وشخصيتها يتوهجان فنيا وإنسانيا بحساسية بالغة ويرتبطان بالواقع حيناً وبالتجربة حيناً آخر”القاص علي السباعي وظف قصصه القصيرة جداً برؤية مبدعة تحقق مفهومات القصة القصيرة جداً ضمن اتجاه مجموعته القصصية ذات المنحى السوسيولوجي وعبر مفهومات متناقضة كالحياة والموت في حركة ورقة في الشارع حولها مجموعة من الصبيان في قصة”ورقة”ودموية شيخ العشيرة وهو يقتل سائس الخيل بتهمة النظر إلى زوجته في قصة”دم اخضر”ومأساة الطفل الذي تمزقت طبلة إذنه جراء صفعة قوية من والده لأنه أكل رغيف الخبز الأخير المتبقي في البيت دون حق لأن الرغيف الأخير”هو حصة شقيقه الصغير في قصة”آخر رغيف“.

يسخر خطاب القصص القصيرة جداً من الأشرار الذين يوظفون الآلية العلمية في تدمير وخراب العالم في قصة”صيد حديث”ويدعو الخطاب إلى تحرر المرأة من الشيء المسمى بـ”النقاب”ويرى في النموذج الإنساني الذي تطرحه القصة امرأة مظلومة لأنها تعيش وضع لا حرية لها بسبب الممارسة الآثمة التي يمارسها البعض في التعامل معها في قصة”مظلومة”.في حين يكشف النص القصصي الجميل “رجل أنيق”عن تحولات الشخصية من حال لأخر في مواجهة الرعب والخوف من الآتي الشرير الذي يحمل صوت الدمار والموت.

بهذه الرؤى في خطاب القصص القصيرة جدا تتضح مواقف سوسيولوجية وتنكشف أخرى يتراوح نسيجها الفني بين السلب والإيجاب في تعامل نماذج القصص فيما بينهم أو بين غيرهم خارج نطاق دوامة الصراع اليومي للإنسان في همومه الحياتية وبحثه عن الخلاص الذي ينقذه من مأساته،فضاءات

العلاقات السوسيولوجية المأساوية تتسع أكثر في القصص اللاحقة فتبدو أشبه بالأسطورة في قصة “إلف ليلة وليلة”حتى سقوط النظام وظهور ما يسمي نفسه بالمجاهد وهو يقتل الآخرين ظلما وعدوانا.

في قصة”مملكة الغضب”توظيف لأسطورة الموت الذي تمارسه المرأة ضد الرجل!هل كان اسطرة الموت ونجاة نموذج القصة منه يؤدي الوظيفة الفنية لما يريد أن يقوله النص؟الجواب كلا لأن العلاقة بين قراءة نص قرآني مقدس وبين موضوعة الموت لم تكن واقعية على وفق البنية الفنية للقصة ومفردات الواقع أيضا بل هي على المستوى الواقعي/الحقيقي تكون عامل طمأنينة وهدوء نفسي لمن يقرأ القرآن الكريم وليس خلاصا من الموت كقدر.اسطرة الحدث بين النموذج والمرأة والقلعة والنساء الثلاث إلا الأخريات لم يحقق رؤية أسطورية توظف الموت كحدث نهائي للإنسان بل وظف السرد النص القرآني في حالة تجاوز للواقع نحو أفكار روحانية إيمانية تعمل على إنقاذ الإنسان من إشكالية الوضع المأساوي الذي يهدده بالموت وبهذا يتحقق تناقص في الحدث وبنية الصراع يتوافق مع ما أسميته بــ” أسطرة الموت في القصة“.

في قصة” بندقية الحاج مغني”سرد لواقع سوسيولوجي ريفي متخلف يمارس فيه الأبناء الضغط على أبيهم في عملية خطف زوجته السادسة ذات السمعة السيئة التي تزوجها على أمهاتهم من اجل إطلاقها وإنقاذ سمعة العائلة.هذا الطقس الريفي ليس غريبا داخل المنظومة الاجتماعية الريفية لكن الغريب في الخطاب السردي القصصي هو المواجهة المسلحة بين الأب والأبناء في إطار محاولة الأب إعادة زوجته السيئة السمعة المخطوفة من قبل الأبناء الأكثر غرابة هو – الحوار الشعري – ان جاز التعبير الذي أطلقه السارد على لسان الأب وزوجته بعد أخذها من أبنائه،الحوار يتجاوز الشخصية الريفية المتواضعة اللغة الفقيرة الكلام وينطلق نحو شعرية عالية ليس في مقدرة شخصية”الحاج مغني”النطق بها.

توظيف الحوار بهذا الشكل لم يحقق قناعة المتلقي في الشخصيتين المتحاورتين”الحاج مغني”ذي السبعين عاما و”زوجته”السيئة السمعة وقد أثقل الحوار حدث القصة وشخصيتها وعلى البندقية”أيضا التي ظلت صامته من دون إطلاق رصاصة واحدة وهي التي حملت”عنوان القصة”بإزاء هذا لا للحوار ان يكون بمستوى الشخصية الفكري والثقافي لكي يحقق المراد منه في التوظيف الفني لبنية الخطاب القصصي.

في قصة”النافذة”يتألق الخطاب في طرح إشكالية الحياة المعاصرة وتعدد ألوانها ومصادرة الحرية فيها على مختلف المستويات،السارد وهو يفتح صفحات كتاب حياته بكل خيباتها يجد في المقابل المعادل الموضوعي المعاكس للخيبة وهو الأمل -.

صوت السارد مع صوت المرأة يتفاعلان بحوارية مدهشة جميلة تختلف كليا عن حوارية الحاج مغني وزوجته في القصة السابقة فيحقق الحوار الذكي مؤشرات وخيبات الحياة وايجابياتها وسطوعها وتألقها في الإصرار على التفاعل معها وتحقيق وجود الإنسان كعنصر فاعل يتجاوز كل الخيبات التي تصادفه وقد تألقت”النافذة”بحضور فكري مدهش جميل وظف الحوار فيها توظيفاً فنياً في كشف رؤية القصة والمعنى الداخلي/ الذاتي بها.

وبين الحزن والتقاليد الاجتماعية والمخاوف اليومية تأتي قصة”الأيادي المتعبة”وهي تطرح موضوعة الازدواجية من خلال شخصيتي القصة.البنية الفنية اعتمدت الحوار على حساب السرد في محاولة لتوظيف أسطورة الطائر الذي نصفه امرأة ذلك الطائر الغريب الذي حاور الشخصيتين بغرابة لم توضح الموقف الفكري للخطاب وتركته مفتوحاً على فضاءات وتفسيرات متعددة غير واضحة.

يُنهي القاص مجموعته القصصية”المدنية”حيث الخطاب القصصي يعتمد اللقطة السريعة التي تقترب من القصة القصيرة جداً.اللقطة السريعة التي يؤشرها الخطاب في بنيتها الفنية تجمع آلية المشهد المكاني/ الحياتي/ اليومي/ في الشارع والسوق والمقهى تتفاعل فيما بينها التحقق بالتالي البعد الفني للقصة.

امتياز قصة”المدينة”هذه عن قصص المجموعة يتحقق في اعتماد بنية السرد لخمسة إحداث كل حدث له استقلاليته الخاصة في المكان والزمان والشخصيات،وفي تعدد الإحداث باختلاف الزمكانية وانبثاق شخصيات جديدة تتحقق قناعة للمتلقي لدى الانتهاء من قراءة الحدث الخامس انه يقرأ قصة واحدة وليس خمس قصص يتفاعل مع الخطاب عبر رؤية توحد الأقسام الخمسة من خلال توحد البنية الفنية للسرد.لقد كانت المدينة واقعاً اشر الخطاب سلبياته المنتشرة والمتعددة في أجواء سلبية طغت في مرحلة قاسية في أعوام الحروب والحصار والدمار.
بهذه الإشكال القصصية وعبر تباين النية الفنية فيها واختلافها الواضح للواقع السوسيولوجي إلا أنها شكلت حضوراً مؤثراً في الشكل والمضمون والبنية الفنية السردية،هذا الشكل المتحقق في إبداع القاص علي السباعي يؤشر فهم القاص لعلاقة القصة بالمجتمع من خلال توظيف المكان والزمان في الخطاب القصصي وبنيته الفنية وتجسيدها عبر أساليب التشخيص السوسيوجي في فضاءات عراقية تطمح من خلالها شخصيات القصص تحقيق الصيرورة الحياتية الإنسانية لواقع مأساوي ظلت تعاني منه الكثير في حقب طويلة.


________________________
*
إيقاعات الزمن الراقص/ قصص علي السباعي/ اتحاد الكتاب العرب – دمشق2003
 *
سليمان البكري/ نقد القصة القصيرة جداً/ جريدة الجمهورية –  بغداد19/آب/

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى