من غواية السيرة الذاتية |(2)

د. كاميليا عبد الفتاح | الإسكندرية – مصر

صورتي، بعدسة ابني مهاب، بعد رجوعي من جامعة الباحة بالمملكة العربية السعودية إلى مصر عام 2014 

أطال الدكتور العشماوي النظر في فصول الرسالة التي تراصت فوق بعضها على المنضدة ، وقد كُتب على كل منها بخطّ يده: يُجازُ ويُطبع -وأبدى قلقه من تجاوز حجمها الورقي ألفَ صفحة، مؤكدًا أنّ بعض الأساتذة في لجان المناقشة سيتوجسون من هذا الحجم، الذي أثبتَ – في حالاتٍِ كثيرةٍ – عجز الباحث عن التحكم في مادته العلمية، ووقوعه في التكرار، أو الإفراط في الاقتباسات، وخروج لغة البحث من انضباطها العلمي وتقيدها المُصطلحي إلى الخطابية والبيان المُترهل . أخرج ( البايب) – الذي اشُتهر به بيننا في الكلية – وبدأ في حشوه بالتبغ:
وضعتِ البيض كله في سلة واحدة يا كاميليا .. وده سبب تضخم حجم الرسالة في رأيي.. كان لا بد من الاحتفاظ ببعض شغلك في المعري لمرحلة الدكتوراة ، وبحوث الترقية ..
أكمل وهو يُشعل ( البايب ) : مينفعش نطبع الرسالة في جزئين أو تلاتة أبدا .. افتحيها تاني ، واجتزئي منها ما لا يُخل بها علميًّا ..واستفيدي بيه في الدكتوراة .!
أبعدتُ كأس العصير عن فمي ، و كنتُ أهمّ بارتشافه ، قلتُ دون تردد :
مستحيل أجتزئ أي موضع من دراستي حتى لو تم رفضها .. ومستحيل أكمّل الدكتوراة في المعرّي …! ..أنا آسفة يا دكتور ..مع احترامي لحضرتك . .
ترك (المستحيل) الأولى ، وتوقف عند الثانية ، وأشار بيده أن أكفّ عن الكلام وأهدأ :
أمرِك عجيب ..مش هو ده المعري اللي تمسكتي بيه، وضيعتي فرص التسجيل 3 مرات عشان أوافق إنك تشتغلي في شعره ؟! ..
في توتر: وتعلقي بيه زاد بعد شغلي في الرسالة ..لكني عايزة أنتقل من خلال الدكتوراة للشعر المعاصر ..!
متعجبا: دراستك للمعري في الدكتوراة حتوفر عمرك ، لإنك امتلكتِ الأرضية المعرفية الخاصة به ، امتلكتِ (المِهاد العلمي) …!
تشاغلتُ بارتشاف كأس العصير وأعماقي تصطرع فيها هذه الاختيارات المصيرية . مراوغٌ هو وجهي الذي لا يرى فيه الآخرون – وعلى رأسهم المقرّبون – إلا ابتسامتي – ولا يرون ما يُخفيه من اشتباكاتي الداخلية العنيفة . أُطيلُ الصمتَ حين ينهشني انفعال حاد ، فما العمل في حجم الرسالة الذي لم أتوقع أنْ يكون مشكلةً في ذاته ، والذي فتح الباب لمشكلاتٍ أخرى ؟!

هبطَ بي مصعد عمارة الأوقاف – حيث يسكن الدكتور العشماوي – وأخرجني إلى الهواء البارد ، وأنا أرجو الله رجاءً مُضحكا أن يجعل ما بيني وبين يوم المناقشة كما بين المشرق والمغرب.! جلستُ في مقعدي في الترام الأزرق شاردةً : أريدُ أن أبحث وأدرس وأكتب حتى يوم القيامة ، بشرطٍ واحد: ألَّا يَتحكّمَ الآخرون في ما أكتب ..أبْعِدُوني عن مناخ الاختبارات و المدارس وكل ما يُوقف طلاقتي في القراءة والنقد والتحليل – والكتابة بأسرها – فقد عقدتُ من خلال قراءتي للمراجع وأمهات الكتب – طيلة أربع سنوات متوالية – صداقة مع قامات فكرية ونقدية فذة – غربية وشرقية – أضافت إلى نزعتي الفطرية للحرية المزيدَ من التوطين والحدّة . كم كنتُ أتمنى أن أعيش في زمن المصريين القُدامى : أتلقى العلم في بهو المعابد ، ثم أجدفُ في مركب من خشب الجميز أبادل النيل عشقي وغزلي الصريح ، كم كنتُ أتمنى أن أتلقى العلمَ في أروقة مساجد العصر العباسي، أشهد المناظرات الفكرية والشعرية والتباري في حل معضلات النحو ، أتنقلُ بين هذا العمود وذاك مُريدًا بين يدي شيخ جليل لا ينفد مُدهِشُه المعرفي ، تتأرجحُ رأسي يمينا ويسارا وأنا أقرأ عليه الأسفار ، ثم أثبُ إلى جاره في العمود المجاور ، دون تثريبٍ ، دون توقف ، دون قيودٍ. كم كنتُ أتمنى أنْ أوجدَ في أحد كتاتيب العصر العباسي ،على سجادة لُغويٍ كبير من مُؤدّبي أبناء الخلفاء، في أروقة مكتبة المأمون، بجوار علماء مجلس هارون الرشيد، ومناظرات المعتزلة ، و مرصد “الشماسيه” – في بغداد – أُرهف السمع لألحان الموصلي وشجى زرياب ، وتساؤلات ابن سينا عن الروح ، ووثبات الجاحظ العقلية، وعبقرية الجرجاني . وكم كنتُ أتمنى – في الوقت ذاته – الالتحاق بإحدى الجامعات الغربية ، وتلقي دروس الأدب والنقد – في مدارسهما الحديثة والمعاصرة – على يدٍ غربيَّة . كنتُ أغبطُ المُبتعثين إلى الغرب، أطيل قراءة هذه المرحلة من ” أيام ” طه حسين حتى أشتفي، أعيد قراءة الرسائل المُتبادَلة بين توفيق الحكيم وصديقه أندريه ، تُرهقني مرارات الحكيم ويأسهُ من الشرق ، أفهمه تماما وأتفق معه وأعشق عقلَه .
أشعر بغصة موجعة حين أضطر للبحث عن ترجمة حاذقة لمؤلف نقدي – أو إبداعي – غربي . شغفي بقراءة الأفكار في لغتها الأصلية دفعني إلى دراسة الأسبانية بدلا من الإنجليزية طوال سنوات الليسانس ثم السنة التمهيدية – بحثا عن لغة جديدة – وها أنا قد هجرتُها انشغالًا بالمعرّي ، ولم أعد أذكر منها إلا أطيافها ، مثلما حدث مع اللغة الفارسية التي درستها ثلاث سنوات في الكلية ، بل مثلما حدث منذ أربع سنوات مع اللغة الفرنسية ، حين أرادت ابنتي – عند التحاقها بالثانوية العامة – الحصول على عدة دورات في اللغة الفرنسية من المركز الفرنسي – في شارع النبي دنيال – Institut français d’Egypte à Alexandrie ، فجلستُ بجوارها في مقاعد الدرس في المستوى الأول ، فالثاني ، واضطررتُ إلى الانسحاب تحت ضغط مسئولياتي ومعاركي الكبرى من أجل الحياة – والتي حالت دون تركيزي في الفرنسية – لكن بعد أن أثخنتُ المودموازيل – التي تُدرسنا -بالعربية الفصحى رغم إلزامها للجميع بالتحدث بالفرنسية داخل قاعة الدرس .ارتفع صوتُها -وصوتُ كل من في القاعة – بالضحك حين رأينا حشرة طائرة من النافذة ، فأشارت لي أن أردد خلفها بالفرنسية :
un insecte aile
فقلتُ بعد محاولات نطق الكلمة : إنها هَوامٌ ، وكفى .!
لديّ وفرةٌ ظاهرية في اللغات، لكن لا لغة اصطحبتُها طوال رحلتي إلا اللغة العربية . لا أزهو بهذا الأمر ، بل أراه كارثيا، ولعل سببه الأول – الخفي – افتقادي للشعور بالاستقرار . فالاستقرار الذي يتقد كياني احتياجا إليه أكبر من جدران البيوت ، أكبر من شوارع الوطن ..!
اتخذتُ قرارًا بإبقاء الرسالة بحجمها الراهن – دون اجتزاءٍ – مع تحمّلي المسئولية كاملة والاعتراف أمام لجنة المناقشة بمخالفتي توجيهات المشرف في هذا الصدد . اتفقتُ مع أحد المكاتب الخاصة بكتابة الرسائل الجامعية – أمام مجمّع الكليات بالشاطبي – على كتابة الرسالة ، وتجليدها ، والزمن الكافي لكل هذا ، وحددتُ مواعيد مراجعتي اليومية للكتابة ، ثم أسرعتُ إلى شئون الدراسات العليا لأتأكد من عدد النسخ المطلوبة للمناقشة، ولأستكمل أي إجراء إداري آخر .فوجئتُ بالموظفة المسئولة تؤكدُ لي أنّ شهادة ” توفل ” المعتمدة على رأس الأوراق المطلوبة لاستكمال إجراءات مناقشة الرسالة ، وتحديد موعدها ، وأنها لن تُقبل إلا من مركز اللغة الإنجليزية في كلية الآداب ، لأنه قد شاع أمرُ حصول بعض الباحثين عليها بمقابل مادي ، دون دراسة أو إتقان للإنجليزية .
لا وقت للبكاء منّي أو الثورة عليَّ ، الخطأ خطئي وحدي ، فأنا المحبوسة داخل جدران مكتبة البلدية ، حيث ظننتُ أن إعداد الماجستير ليس إلا الاستغراق في المراجع والمصادر ، لم أفكر لحظة واحدة في مراجعة شئون الدراسات العليا كما يفعل زملائي وزميلاتي ، كنتُ أظن أن إجراءات المناقشة لن تتعدى دفع الرسوم والتوقيع على بعض الأوراق وطباعة نسخ الرسالة وتجليدها .لم أطارد الحاصلين على الماجستير – أو الدكتوراة – لأفيدَ منهم – كما كان يفعل الزملاء – كنتُ أظن المطاردة كانت بهدف السؤال عن كيفية تحليل النصوص أو الاقتباس من المراجع ، فاستنكفتُ هذا ، واعتمدتُ على تجربتي وجهدي .

هرولتُ مضطربة إلى مركز اللغة الإنجليزية في الكلية لأسجل اسمي مع الراغبين في الحصول على الـ “توفل”، يساورني شعور غامض بالقلق ، تبيّن لي صدقه حين طلب مني المسئول إجراء اختبار القبول أولا . أنا لم أقربْ الإنجليزية منذ الثانوية العامة .
أمي مستاءة : مفروض تكوني متابعة كل أمورك أول بأول .إنتي مش صغيرة ..!
أبي وهو يرتدي قفطانه الأبيض استعدادا لصلاة الجمعة :
العيال اللي بيلعبوا جنب معبد الأقصر بيرطنوا مع الخواجات انجليزي وطلياني وفرنساوي ..وممكن تلاقيهم مدخلوش مدارس من أصله .أبويا كان بيتكلم لغتين بطلاقة ، وآخر تعليمه الكُتَّاب .. و الكتاب الوحيد اللي مسكه بإيده القرآن الكريم ..
– المشكلة إن وقتي ضيق وإنّ المعري …
– إنْشَفِي .. يا إمّا تُفضِّيها سيرة .. !
نِشفتْ . أسرعت إلى مقر المركز البريطاني British Council لإعادة تأهيلي في الإنجليزية ، اخترت البدء من المستوى الأول ، وعقدتُ العزم – كما في بدء علاقتي بكل لغة – على عدم هجرها مهما حدث . كان المركز في نهاية شارع البطالسة – للقادم من شارع فؤاد – مُشرفا على كلية طب الأسنان ، قبل أن ينتقل إلى “كفر عبده” . درستُ على يد أساتذة بريطانيين ، كانالشرح بالإنجليزية بالطبع ، لكنّ الشارح كان يستعين بتعبيرات الوجه ، والحركة، والإشارة ، ممَّا ذكّرني بالجاحظ الذي قسّم الدلالة إلى أقسام ، من بينها الإشارة باليد ، والعين، والحاجب، والرأس ، والمنكب، والسيف، والثوب .
وُزِّعت أيامي بين المركز البريطاني – مرتين أسبوعيا – ومكتب إعداد الرسائل الجامعية ، حيث كنتُ أجلس أمام الحاسوب نهارا كاملا، لأراجع الصفحات التي كُتبت، وأصوب الأخطاء، وأتابع كتابة صفحات جديدة. أمّا الإنجليزية، فقد توسّط خطيبي بيني وبينها بعد أن استأذن أبي في مساعدتي. حقيقة لا أتذكر تاريخ ارتداء خاتم الخطبة، ويُدهشني هذا، لكني أتذكر – بوضوح – تاريخ عقد قراني وتاريخ زفافي.
اتفق معي على متابعة القناة الثانية بصفة دائمة – وهي القناة الناطقة بالإنجليزية – والاستماع إلى نشرتها الإخبارية يوميا والاعتماد عليها في التعرف على الأحداث، مع الإصرار على ترجمة الكتب صغيرة الحجم ما أمكنني، والاستماع إلى الإذاعات الأجنبية. كان مهووسا مثلي بالسينما، يعلم تعلقي ببرنامج “أوسكار” الذي يعرض فيلما من الأفلام الحائزة على الأوسكار مساء كل خميس، وبرنامج “نادي السينما” الذي يعرض فيلما من روائع السينما العالمية – مساء كل سبت – تعقبه استضافة د. درية شرف الدين – مقدمة البرنامج – أحد نقاد السينما ، ليطرح لنا تحليله النقدي للفيلم. نصحني بمشاهدة هذه الأفلام دون الاستعانة بشريط الترجمة العربية ، على أن نجلس في اليوم التالي – في قصر ثقافة الشاطبي – أو الحرية – للحديث عنها ومراجعة ما تعلمتُه من المفردات من خلالها . شاهدنا: غاندي، الإمبراطور الأخير ، و” آن ملكة ألف يوم ” – وغيرها، أما بعد عقد القران – وبعد الزواج – فقد شاهدنا في السينما : صمت الحِملان ، الرقص مع الذئاب ، القلب الشجاع ، الجمال الأمريكي ، وغيرها . كنّا نسرعُ بعد انتهاء حديثنا السينمائي إلى قاعة الموسيقى – في القصر – لننضم إلى مجموعة من أصدقاء الموسيقى، وكنا نتفق دائما على موسيقى عمر خيرت : اللقاء الثاني . أهدى لي جهاز ” هيدفون ” ومجموعة من أشرطة أغاني ديميس روسوس – وساندرا – للتدرب على سرعة إدراك الجملة وسرعة ترجمتها. كان ديميس يشدو على طول الكورنيش من قصر ثقافة الشاطبي وصولا إلى الجندي المجهول في المنشية . كثيرا ما أوقفني أمام المارة منحنيا أمامي بوردة حمراء ، أو باقة فل – ممّا يحمله الباعة على طول الكورنيش – وهو يردد مع ديميس :
Ever and ever, forever and ever you’ll be the one
that shines in me like the morning sun.
Take me far beyond imagination
You’re my dream come true, my consolation.
إلى الأبد ستكونين منْ يضئ مثل شمس الصباح ، ستكونين ربيعي، وقوس قزح، والأغنية التي أشدو بها .
حين عرفتُ خبر موته – منذ عامين – تساءلتُ في ذهول: أو كان يُصدقُ أنَّ هناك “أبد” وهو يشدو لي مع ديميس روسوس؟! وحين رأيتهم يُخرجونه من النعش ملتفا بالكفن الأبيض دون وجهٍ، انبعث الصوتُ شجيا قادما من قاعة الموسيقى – بقصر ثقافة الشاطبي – يدندن على إيقاع عمر خيرت:
ولمّا تتلاقى الوشوش مرتين ..مبيتلاقوش يوم اللقا التاني
عمر الوشوش ما بتبقى بعد يومين نفس الوشوش / دي بتبقى شيء تاني !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى