حكايا من القرايا.. فول قرطاسي

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

دار أبو الصادق معزّبين بغنمهم خارج البلدة… عائلة أبو الصادق عائلة نشيطة ومكافحة… تخيل أولاد أبو الصادق: خليل، وسعيد، ورجا، والابنة سعاد يذهبون يومياً من عزبتهم إلى المدرسة… يأتون من وراء الجبال، ويقطعون الوديان، بين الصخور والأشواك… ولا يقاطعون المدرسة… أما صادق وصدقي، فيساعدان الوالد والوالدة في زراعة الأرض، والعناية بالأغنام… يسكنون في خشّتين من الطين واسعتين، يعيدان تطيينهما وترميمهما بداية كل شتاء… في موعد مطرة المعدّلات… وخشّة صغيرة بمثابة حمّام… وطابون… ينقلون الماء من عين قريبة بالقِرَب على ظهور ثلاثة حمير… لهم بيت في البلدة… بيت جميل… أربعة غرف تعلوها عليّة… ولكن لا غنى عن حياة البرية، ففيها رزقهم ومعاشهم ومناشطهم…
يحلبون الغنم في الصباح الباكر، ويسرح الولدان بها تأكل من حشائش الأرض، ثم يردان بها على العين… يسقيانها، ويعيدان حلبها في المساء… أبو صدقي وأم صدقي يتعاملان مع الحليب، فيغليانه، وينظفان شرايط الجبن، ويجبّنانه… ثم يقوم أبو صدقي بدور ربص الجبن وتمليحه… وبعد ذلك يصفط الجبن في أوعية من تنك… ويحمل على الحمير ليشحن لبيعه في المدينة… أما أطفال المدارس فلا هم لهم إلا الدراسة والنجاح… وقد يساعدون في أعمال هامشية، كنقل الماء مثلا على الحمير… من العين إلى العزبة…
زرعوا القمح، والقطاني، وفي تلك السنة زرعوا دونمات من الفول… ما شاء الله… والكريم أكرمهم بالأمطار الغزيرة… وكان عاماً خيّراً بالغلال… يأكلون يومياَ الفول الأخضر الطازج… وقد يشوونه هويسة لذيذة، أو يسلقونه ديوكاً رائعة… ويطبخونه باللبن ومع الأرز… والبيض… غلال تكفيهم وتزيد عن حاجتهم… وفيها ما يطعم أغنامهم وحميرهم… ما شاء الله… وفيها مؤونة طابونهم من القش والقصل… غربة وبتستاهل، كان يرددها أبو الصادق، ويذكّر بحياة القرية التي كانوا فيها… ويقول ” شايفين بقينا عواطلية في البلد، نجري ورا خمس ست عنزات وتيس… والله يا ناس الحركة فيها بركة” أكرمنا الله من يوم عزّبنا هون… في هذه المحل المبارك… الحمد لله… ووين ما ترزق الزق…
كل أسبوع كان يحمل تنكات الجبن على الحمير الثلاثة، ويسير بها إلى البلدة ويكون بمرافقته صادق أو صدقي، حتى إذا وصلوها فسخوا أحمالها، وانتظر الحج السيارة التي تنقله وبضاعته إلى المدينة، ويرجع الولد بالحمير إلى العزبة… يصل المدينة فيبيع بضاعته لزبونه التاجر، ثم يكسدر في شوارع المدينة يشتري ما طلبه الأبناء أو ما احتاجه البيت… وفي كل سفرة لم ينس هدية الأولاد… وكانت هديتهم الحلوى مثل: الكنافة، والهريسة، والنمّورة… أو من الحلاوة القرعية والجوزية… أو التمرية… ويمكن أن تتجاوز ذلك كله إلى فاكهة الموسم كالموز والتفاح… وغيره… وكان الأولاد ينتظرون بفارغ الصبر عودة الرابح من بيعه… ويستقبلون الوالد وهديته… وذات يوم من أيام الربيع، عاد بتنكاته الفارغة وهو يتصبب عرقاً، وهجم الأولاد، هجم خليل وسعيد ورجا وحتى سعاد على التنكات؛ ليروا مفاجأتهم من الهدايا… نظروا في الأولى والثانية فوجدوهما قاعاً صفصفاً… الثالثة كانت ثقيلة… قالوا: هنا… هنا… هنا الهدية… فتحوها وكانت مفاجأة المفاجآت… لقد امتلأت إلى نصفها فولاً أخضر… غيمات من الخيبات أمطرتهم… ما هذا يا أبي؟ فول! ألم تجد في المدينة غير الفول لتشتريه… طيب مهو الفول عامي اقمارنا عمي… الصبح فول والظهر فول… والمغرب فول… وكمان ما ظل علينا إلا نشتريه… زاد عرق الرجل… وزاد تصببه، وكأنه عرف أنه وقع في واد من الخطايا… عرف أنه كان مظبوعاً، ووجد من ضربه على راسه… قال بتثاقل: ولكم هذا فول قرطاسي، مش مثل الفول البلدي اللي زارعينه… وتابع : شو بدكم بالطويلة… والله شفت هالفولات قلبي رقش الهن… واشتريت رطل ونص فول… مقمع جاهز… تفاجأت بالمنظر أم الصادق، وصاحت: عزا بوهدك… مهو الفول طامرنا طمر… وبنبيع فول… عزا شو صرلك تا شريت الفول، الله يرمّلها أمك زود ما ترمّلت؟!… فبهت الذي تيّس، ولكن بعد أن وقعت الفاس بالراس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى