انقطاعات الموت.. جدلية الثنائيات: الموت الحياة، الملائكة _ البشر، الشر _ الخير
د. عبير خالد يحيى
ماذا لو أُعلن أن الموت سيتوقّف في بلد ما، مع انتهاء آخر دقّات منتصف الليل عشية رأس السنة؟!
هل سيصدّق أحدٌ هذا الأمر؟! وماذا لو أن الإعلان غدا ساري المفعول مع أول لحظة من العام الجديد؟! لم يمت أحد في أول يوم من أيام السنة الجديدة! أي أن الإعلان سلك مسلكًا إجرائيًّا خارجًا عن المنحى الافتراضي متحوّلًا عن مصطلح افترض suppose
إلى مصطلح حدث done
كيف ستكون ردّة فعل الشعب؟
وكيف ستكون ردّة فعل الحكومة؟
السلطات الدينية؟والمنظومات الصحية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية؟
ولو فرضنا أن الشعب سيستقبل هذا الأمر بفرح غامر، حيث لا خوف من موت آجل.
هذا الفرح سيقابله خوف من كل المؤسسات التي تعتاش على الموت ومستلزماته، شركات التأمين التي ستتوقف فيها بوليصات التأمين على الحياة أن الناس لن يحتاجوها، مكاتب الدفن، كذلك المؤسسات الدينية التي ستهتز مصداقيّتها، وستفقد إيمان الناس بالمعتقدات التي تبني أساس وجودها عليها، والموت والقيامة من أبرز تلك المعتقدات …
المنظومة الصحية، كيف ستتعامل مع إناس عالقون بالاحتضار من دون أن يدركهم الموت أو يدركوه؟! بيوت العجزة كيف ستكتظ بالوافدين الجدد من غير أن يرتحل عنها أحد! وغيرها من التساؤلات التي يأخذنا إليها (سارماجو) في رواياته (انقطاعات الموت).
يعد ساراموجو من أبرز الكتّاب الذين اعتمدت كتاباتهم على العصف الذهني، وقاموا بإشراك المتلقّي فيما يكتبون، على امتداد الرواية من العنوان إلى النهاية، يحترم كل الافتراضات والأسئلة المحتملة التي من الممكن أن ترد على ذهن المتلقي، بل يطرح أكثر مما قد يرد على ذهنه، ويتعامل معها بجدّية كبيرة قد تدعو إلى السخرية، وقد يخيّل للقارئ أنه يقرأ رواية عبثية، لكن الحقيقة غير ذلك إطلاقًا، هو يجذّر الحقائق، بمعنى أنه يفلسفها، فمن خلال طرحه لانعدام الموت فلسف حقيقته، وأبرزه نعمة لا تقل قيمة عن نعمة الحياة، حتى أن الناس الذين تنعّموا بانعدامه في بلدهم تحايلوا عليه بإخراج من علقوا بمرحلة الاحتضار خارج حدود البلاد ليموتوا بعد أن أصبح الموت أغلى أمانيهم، وهنا غدا الموت رحمة ممنوعة على أهل ذلك البلد. فلسف أيضًا الحياة وسلوكيات الناس غير المتوقعة وغير المجرّبة قبلًا!
كل ذلك كان من خلال النصف الأول من الرواية! التي جاءت في هذا النصف أقرب لأبحاث وتقارير علمية على كل المستويات منها للرواية، أما النصف الثاني ففيه كانت مجريات الأحداث الروائية، حين تتوقّف عدميّة الموت، ويستأنف سيره كإجراء حتمي، لكنّه ليس عادي، بل برسائل مسبقة يتم تسليمها على شكل جوابات ورقية موضوعة بمغلفات بنفسجية، يجدها المرسلة إليه بين يديه دونما آلية أو واسطة بريدية مرئية! مفادها أنه سيموت بعد أسبوع وعليه إخلاء ذمته من الحياة عبر دفع ضرائبه وديونه وتجهيز وصيته وتوديع أهله، فمن تراه يلتزم بذلك، هنا يبدأ الكاتب بتعريفنا على سلوكيات إنسانية متغايرة، أسوءها من يستغل فترة الأسبوع للاتيان بكل الموبقات وإنهاء حياته بالانتحار!
لنقف على حكمة الله في إخفاء الآجال.
ثم تظهر الشخصية الرئيسة والتي جعلها الكاتب من جنس الأنثى وهى ( المنية أو الموت) وهي الكائن الأثيري موكّل بقبض أرواح البشر في ذاك البلد بالذات( هكذا جاء وصفها وتسميتها وتجنيسها في الرواية)، ترسل الرسائل البنفسجية التي تكتبها بيدها بهيأتها المادية المتعارف عليها أسطوريًّا (هيكل عظمي يرتدي عباءة بقلنسوة تغطي الجمجمة). كل الرسائل تصل لأصحابها، إلا رسالة واحدة ترسلها وتعود، تعيد إرسالها مرة ثانية وتعود الرسالة بعد ثوان، ما جعلها تتحرى عن هذا الرجل الهارب من الموت لتجده عازف فيولونسيل في فرقة الكونشيرتو الوطنية، كان من المقدّر أن يموت عند إتمامه عامه ٤٩ كما هو مكتوب في سجلّه العمري عند (موت) لكنه بلغ سن الخمسين منذ أسبوع! عندها قررت (موت) أن تترصده، ذهبت إلى بيته بهيئة أثيرية غير مرئية، تعاني فيها الكثير لأنها تتبعثر على امتدادات المكان، وتجد صعوبة كبيرة في لملمة كيانها الأثيري فيما بعد، لتجد أنه عازف بسيط يتدرب على المقطوعات الموسيقية التي تقدمها الفرقة في حفلاتها، ينام على سرير يشاركه فيه كلبه الذي أمكن له ان يراها وأن ينام بحضنها حينما جلست على الأريكة تراقب العازف!
تغادر لتعود إليه لاحقًا بعد أن عدّلت في سجل عمره، عادت لتلقاه بنية الإغواء متخذة هيئة شابة في الثلاثينات غاية بالجمال والأناقة، تجلس على شرفة على الجانب الأيمن للمسرح بحيث يكون العازف كن مرمى نظرها، تلفت نظر كل المتواجدين بالمسرح بما فيهم العازف الذي أتاح له قائد الفرقة فرصة العزف منفردا فأبدع، تختفي (موت) بعد الحفلة لتلتقيه على باب الخروج بعد حديث مجاملات تطلب توقيعه وتعتذر عن عدم حملها (أوتوغراف) تطلب توقيعه على الرسالة فيمتنع لأنه لم يعتد أن يكون له معجبين أو معجبات يوقع على دفتر ذكرياتهم، تستدرجه لركوب سيارة الإجرة معها توصله إلى بيته وتكمل إلى الفندق، تاركة إياه هائمًا في هيلمانها الغريب! تتصل به ليلًا ويدور بينهما حديث يعتبره غريبا وعبثيًّا تطغى فيه فوقيّتها على فهمه العادي، وتعده أن تحضر حفلته يوم السبت، وأنها ستغادر البلدة يوم الاثنين، يأتي السبت وتنتهي الحفلة ولا تأتي ليجدها الأحد تجلس على المقعد الذي اعتاد الجلوس عليه في المنتزه الذي اعتاد الذهاب إليه مع كلبه أيام الآحاد، يدور بينهما حديث يكاشفها فيه بأنه وقع في شراك حبها، وتخبره أنها لن تبادله هذا الحب، يتذمّر من أنها ستغادر غدًا، فتخبره أنها ستغادر اليوم، وتخبره أنها تركت له رسالة في الفندق، يظنها رسالة غرامية فيطلب منها أن تحرقها! فما من داع لها، تغادر المنتزه فجأة من غير أن يراها، يعود إلى بيته ليُطرق بابه في منتصف الليل وتكون هي بكامل هيلمانها أمامه، يبهت وتطلب الدخول وتدخل، تطلب منه أن يعوضها عن خسارتها بعدم حضور حفلة السبت، تطلب منه أن يعزف وتختار معزوفة صعبة علمت أنه يرى صورته في تلك المعزوفة، وهي معزوفة حزينة جدًا يشذّ عزفه في إحدى انحناءاتها، تصرّ عليها، وتؤكد له أنه سيعزفها أفضل من مؤلّفها، وفعلًا تنطلق كفاه بالعزف، وتفكّ هي اشتباك كفيها اللذين تعقدهما دائمًا فوق صدرها، تتلامس الأكف تلامسًا ينتهي بلقاء حميمي، تقوم إلى المطبخ تبحث عن عود ثقاب عادي تحرق به الرسالة البنفسجية، مع أنها كانت قادرة على حرقها بحركة من يدها، لكنها أحرقتها بعود ثقاب عادي، وعادت لتنام في سرير العازف، في اليوم الثاني لم يمت أحد !
ماذا أراد الكاتب؟ هل كتب رواية عبثية؟!
لم أجده فعل ذلك أبدًا! وإنما أكّد لنا حقيقة، أن الملائكة مخلوقات منوط بها مهام من الله الخالق المصور لغاية الحفاظ على توازن الكون، وهي تختلف عن طبيعة البشر، وإن حدث وشابهت البشر تخرج عن ملائكيّتها، فهل تختار هذا الفعل؟ ومتى؟ ولماذا؟
طبعًا لا يمكن الجواب على السؤال الأول إلى إذا كان افتراضًا للنقاش والجدل الفلسفي فقط، وعليه ومنه يتبرعم السؤالان اللاحقان، متى، عندما يكون الحب متسيّدًا في حياة البشر، ولماذا؟ لأن الودّ فطرة الخالق في متشاركَي الحياة من البشر.
النتيجة : كلٌّ مخلوق لما أنيط به، وكل ما نشهده من خلل هو بسبب خروقات تخلّ بالاتزان الذي أقامه الله في كل ما خلق.
طبعًا تلك هي الأفكار التي وصلتني، مستفيدة من الدلالات، بغض النظر عن طريقة العرض والتمثيل، واختلاف المعتقد.