فكر

بول فاليري.. أحد زعماء المدرسة الرمزية في الشعر الفرنسي

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

لم تكن تجربة بول فاليري 1871 – 1945 وليدة موقف فلسفي معيَّن، حيث تشبَّع بقوة الحدْس، والانضباب على الواقع النامي، فكان جرّاء ذلك أنه تفلَّتَ نهائياً من ربقة العقلنة الديكارتية، ومن خناق المثالية الجوفاء. ولم يكن من الذين يقرِّبون أنفسهم وقرابينهم على مذبح الزخرف والميوعية أو التخلُّق، حيث كان يطبق الباصرة ويفتح البصيرة التي تقوده كالحدْس الذي لا يخطئ نحو مواطن الغثاثة والسِّمن، سواء في شعره هو أو في مَنْ أعمَلَ حاسته النقدية بشعرهم. وكالصانع المرن الماهر كان يقلِّب الدُررَ واليواقيت بين يدية فتتألق، والماس يتوهَّج بعد صقله بحروف الحب الإنساني الطاغي ، فقد كان مشبعاً غير متخماً، مشبعاً من الحب، كما شبع عقله من المعرفة.
كل هذا جسَّده الشاعر بول فاليري في نصوصه التي تناولها النَقَدةُ والشُرّاح الذين يسلِّطون مجهرهم على ذرّة من حياة ليحللوا من ضمنها، ويعللوا من ورائها حياةً كاملةً تزخر بالاعتمالات والأبعاد والمكامن الحميمية الثرية، ولهذا كله فقد تربَّع الشاعر بول فاليري على عرش الشعر الفرنسي بعد أن اختزل في روحه المشبعة بالثقافة الفرنسية معظم نتاجات ما قبل الحرب العالمية الأولى من شعر وأدب، وهو المولود في سيت الواقعة جنوب فرنسا عام 1871، حيث درس في مونبيلييه، واتصل بمالارمه الذي جاءه إلى باريس ولم ينقطع عنه ،وكان بول فاليري قد ألّف عملين هامين توقف بعدها عن الكتابة مدة عشرين عاماً، حيث مرَّ في مرحلة كمون لينشر أربعة أعمال أخرى،منها (بارك الشابة) فقد اعتبره الفرنسيون بداية حياته من تلاميذ مالارميه أو بكل بساطة الشاعر الذي سيرث عظمة مالارميه في كتابة الشعر الصعب والمبهم والمليء بالرموز والإيحاءات، و(الفذلكات) اللغوية التي لا يمكن أن يفهمها إلا القارئ المتمرس ، لكنه تحوَّل في عز مجده إلى دراسة الرياضيات والعلوم وبعدها،إلى البحث جدياً عن معنى الإبداع الفني في دراسات عميقة كان أهمها: (مدخل إلى أسلوب ليوناردو دافينتشي) عام 1895، وبحث أيضاً في الفلسفة والفكر حيث كتب دراسة كبيرة بعنوان: (سهرة السيد تاست) عام 1896، ليعود بعدها إلى الشعر مدججاً بأسلحة العقل التي اعتبرها أقوى سلاح يعود به إلى رهافة الشعر، كما كتب مذكراته المعروفة التي دوَّنَ فيها تفاصيل حياته اليومية حتى وصلت إلى تسعة دفاتر عُرِفَتْ بـ(الدفاتر الخاصة بمرحلة 1894 – 1914) نُشرت عن دار غاليمار في باريس.
كما كتب بول فاليري (بارك الشابة) وهي أشهر مجموعاته عام 1917، إنها فتاةُ قد لا تمت بصلةٍ إلى سيماتها في أسطورة الإغريق. ترمز إلى وجدان الوجدان، إلى وجدان الجسد، إلى وجدان الكون بأسره، شأنها شأن (موسيوتست)، و(ليوتار دي فنسي) و (نرسيس)، أي إنها شخصنةٌ لحياة فاليري العقلية،أحد زعماء المدرسة الرمزية في الشعر الفرنسي، الذي تألَّق قبل الحرب العالمية الأولى، واستمر بنشر الدوواوين الشعرية مثل: (سحر، اوبالينوس، روح الرقص، المقبرة البحرية، فاوست، نرجس) محاولاً تكريس مدرسة الرمزية التي ازدهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وقد قامت لتناهض مذهب البرناسية الذي يرفض التعبير عن المشاعر الفردية، وقد دعا بول فاليري مع مجموعة من الشعراء وهم استيفان مالارميه، ويول فيرلين، وأرتور رامبو، وجان مورياس إلى قصيدة جديدة تعبِّر عن العالم الخارجي للشاعر، وتُطلق ما في النفس من رغبات، وما في الذهن من أحلام، وما في القلب من أحاسيس.
من هنا يتمظهر مفهومه المزدوج للكوني والفردي. ملحمة النَفس ؟ إنها لكذلك. فهي أبداً إلى أمام، تتعرى من الحوادث وتصفو في الشعر. ثم إنها، في غمزةٍ من الساق، تمسح برأسها ملاعب النجوم يقول بول فاليري :

العظيمُ العنقودُ يأتلق الآن لشوقي نحو امتصاص البلاء.
يا نجوماً غريبة ذات حولِ لا يُجاري ولا مفرَّ لرائي،
أنا لا أدري أيَّ صفةٍ رحيبٍ، أيَّ شيئٍ محجبٍ علويِّ
ترتضين انبلاجه يتهادى في البعيد المدلَّل الزمنيِّ،
أنت يا من تغرقين في مطاوي الأنام حتى الدموعِ
هذه الدفقةَ الدَّريرة من نور متسامي، ومن سلاح منيع،
وانطلاقتك القصية تعدو في فجاج من عمرك الأبديّ،
معكِ إني وحيدةٌ، أتداعى، قد تخلَّيتُ عن سريري الطري…

نعم لقد تخلت (البارك) عن سريرها إلى رفقة النجوم التي يوجع صفاؤها ويوقظ الفكر،لا سبيل من بعدُ إلى تملّق الأفعى التي تلسع كل ليلة ٍ كلَّ حواء َ، مبدأ الحيوانية ينقلب وعياً لذاته، وبالتالي تنكُّراً لهذه الذات.
لقد انبرى بول فاليري المفكر والباحث والشاعر والمنظِّر في اللغة وفي الموسيقى والتشكيل والعلوم،لتحقيق مشروعه بجديّة كبيرة، فقد أنهى حياته في كتابة (منوعات ) ما بين 1924 – 1944، كما كتب أيضاً (الروح والرقص) حيث الحوارات الفلسفية على أشدها على طريقة سقراط، وترك المؤلف مخطوطاً بعنوان:(فاوست كما أراه) نُشر بعد رحيله، أما دفاتره فكانت مختبره الخاص حيث التجارب الشعرية والعلمية والفكرية قد وصلت إلى ذروتها في كل هذا، لم يبقَ من حيِّز لترصد فصول حياته الشخصية أو بالتحديد حياته العاطفية. هذا ما يحاول قوله فرانسوا برنار ميشال في كتابه (إحذروا الحب: ملهمات ونساء بول فاليري) الصادر عن دار غراسية في باريس.

لقد احتلت مجموعته الشعرية (البارك الشابة) المكانة المرموقة في الشعر العالمي بعامة والشعر الفرنسي بخاصة، والتي يعتبرها بول فاليري وصيّته الأخيرة لخوفه من اندثار التراث الفرنسي، نتيجة الحرب العالمية الأولى الطاحنة التي أودت بحياة عشرات الملايين، لقد أراد بول فاليري من مجموعته تلك أن تكون خاتمة لشعره،مودعاً بها الشعر الذي أراده أن يبقى، فيما لو هُدرت اللغة الفرنسية جملةً، شاهداً أمام التاريخ على عبقرية هذه اللغة، بخاصة وأنَّ الشاعر بول فاليري كتب عن البديهيات من حيث إنها ذلك الغامض الذي تهرَّب منه الإنسان ومضى بعد ذلك يجتهد في تعريفات الأشياء والموجودات ،وقد تكون سنوات انقطاع فاليري عن كتابة الشعر ليست بسبب ما قيل عن تصوره للشعر الخالص أو الشعر المحض، بل لأنَّ ما وقعت عليه حواسه لم يكن مفهوماً خارج التواطؤات المعرفية التي حاولت تدجين العالم بأفكار وملخصات موروثة.وهو القائل في (بارك الشابة):

أيها الذَكر، يا وقوداً هواه عسجدياً يهبُّ ملء جبيني
أنفُخُ الأرجوان فوق قناعي لوَِّن الرفضَ أيما تلوينِ
أن أكون الأنا، وقد اشتعلت ذاتي، خلافاً لما مضى من حياتي
إقتربْ يا دمي، هلمَّ وحمِّر من قديمي ألوانه الشاحبات
إنما اللازورد كان عليه يغدق النُّبل من بعادٍ مهيبِ
يا دمي، واصبغ السواسن من عهدٍ تقضَّى، عَبَدْتُهُ بلهيبي
أدنُ وامْسَحْ هذا العطاءَ المعفَّى فوق جسمي، هلُمَّ كيما أُفاجئْ
من جديدٍ وأُبغضُ الطفلة الخفراءَ، هذي، وذا السكونَ المواطئْ
والكديرَ الشفّاف يغطسُ في الغاب ويطفو… وفي جليديّ صدري
فليعاود نداءَهُ ذلك الصوت ُ مرنّاً، فما أنا كنتُ أدري
فيه بُحّاً، وقد تغلَّفَ بالحب خفيتاً،مثل الحفيفِ المهادي
إنما الأغيَدُ المدلَّلُ جيدٌ في طِلاب المجنَّحِ الصيَّادِ.

لابد الكف هنا عن تنضيد المكعبات المرئية والكائنة أمامنا لبساطتها، والعبور إلي المنطقة ذات المكعبات المفروزة تواً والغرائبية الملمة بجديدها الجمالي، وبالتالي لابد هنا من رؤية اللا مرئي والمخفي الوجود، وقراءته بنظارات شعرية لا مكبرة أو مجهرية فحسب، بل بنظَّارات سحريةٍ تجيد فهم وقراءة الماهية الشعرية وأسبابها الإنسانية الخفية للحراك ورغبتها في الخروج والانطلاق قولاً وكتابة.
هي نظارات يرتديها العقل الذائقي والنقدي عموما، لفرز باقي الضباب وإزالته عن هذه المعادلة الصعبة من قضية الشعر في زمنه الحديث، و من أجل قراءة مجهول الموجود الهجسي،، هذا الأمر الإرادي والميتا إرادي كذلك، كما هو في حراكه الميتا حسي والميتا وجودي، والذي يرغم البيالوجيا الشعرية لدى الشاعر والشاعر المتلقي كذلك، في تنشيط مفاصلها للامتثال لتلك الأكوام الملمومة والمرابطة عند خزينة الشاعر اليومية، والتي أشار إليها الشاعر-بول فاليري-(إنها ألوف القضايا التي تمر في قوقعة العقل، إنها بذور السأم، بعوض الخيال، ذارات الإرادة الوانية والشك والوسواس التي تعذب كل دقيقة من اليوم)، لينطق الشاعر هنا قولته الشعرية العالية (الشأن)، الملزمة لصفاء توفير وتوظيف الكل العقلي للشعر للامتثال وأول(كله) هو الإذكائية العقلية الشعرية والقابعة في الذهنية والتي بدورها تدفع المخيلة وتحيلها إلي الزمن الطارئ، كما تقوم بتفعيل الذاكرة الخاصة والملمة بالجانب الشعري، وهي من مناطق العقل الشعري العام الذي أشار إليه-خزعل الماجدي-تلك الإشارة المولدة لمصطلح-العقل الشعري- علي الساحة الفكرية للأدب. هنا يقال…كيف يتم أو ما هو العمل في هذه اللحظة الشعرية المرتبكة، وهي لحظة الولادة لوضع حجر أساس النص المقدس والآتي بعد التنظيم الشعري للنص، كإذكائية تعبيرية للغة أو التصويرية وانتقائية المفردة وما يريده ذلك الشاعر المولِّد والمتماهي في صومعته.
هنا وعلى الرغم من حالة المخيلة والذهنية الشعرية في وقتها الطارئ والذي تحيطه الكثير من المتاهات والدروب المجهولة الصعبة في اللغة نتيجة الارتباك، أو دوامة ما يمكن تسميتها بالفرح المرتبك من لزوميته لأتيان وقول المفروض على العقل الحسي من الدواخل المتسلطة من لحظتها هذه وبواسطة هذه اللحظة الولادية المشبعة بالهيجان والحدس والميتاليات وأولها الميتا عقلية.
ومن عمله المميَّز (المقبرة البحرية) التي هي إيقاع، منه ميلادها، ومن طَرْقِها المُلِحّ، لأنها وليدة النغم الساحر، وهي نشيد الكبرياء الذي لم يُكْتَبْ بعد، لكنَّ فاليري دوّزَنَ الأوتار لعزفه، دوزنها في (نرجس)،وفي (الراقصة)،وفي (سميراميس)وفي (نرسيس)، وهي كـ (البارك الشابة) تنطلق في علاياته،وخطُّ المقدمة للكبرياء يوم فرَّق بينها وبين العجرفة الجوفاء، فهي جهدٌ عقلي، وإجهادٌ للعقلِ من جمود الأبدية اللاواعي، إلى احترار الوجدان، إلى علامة استفهام متحركة عن الموت والحياة، إلى الظفر المرتاح في لعبة الخلق الشعري، تقفز مقاطع (المقبرة البحرية) الأربعة والعشرون، تقفز ولا نقفز، كأخيل َ الجامد في خطاه الوسيعة.. يقول بول فاليري:
الهادئ ُالسَّطحُ هذا، حيثُ حمامٌ تدرَّجْ،
يخفقُ بين الصنوبرْ، يخفق بين القبورِ،
العادلُ الظهرُ فيه بالنَّارِ راح يخدِّر
البحرَ، بحراً طريراً في كل ِّ آنٍ جديداً
يا حسْنهُ من ثوابٍ غِب َّالتَفَكُّر حينا
طرْفٌ طويلٌ تملَّى سكون كلِّ إلهِ

قد تكون (المقبرة البحرية) شيخاً حكيماً عاركته الأيام فابتسم لها.وقد تكون (البارك الشابة) فتاةً يسوقها دمها وتقودها العروق. أما (نرسيس)فإنه فتى أتمَّ نيساناته العشرين وراح يقطف من أجنّاء عقله كما تقطف القوافي الفاليرية بعضها بعضاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى