تجلي مفهوم المواطنة منذ صيرورته الأولى وعبر سيرورته التاريخية
عماد خالد رحمة | برلين
في خضم المساءلات الكبرى في تاريخنا الحديث، يظهر مفهوم المواطنة الذي تعرَّض لمحاولات التشويه والابتسار،ظاهراً للعيان وممتداً أفقاً وعمودياً. مما يدفع باتجاه العمل الجاد لإعادة المصطلحات والمفاهيم إلى أصولها الأولى الصحيحة ،وإزالة أي تشويش لمدلولها وما تعرضت له من تشويه. فكانت ضرورة إبراز حقيقة وجوهر المواطنة وعلاقتها بالوطن ،وبالدولة الوطنية ،من خلال القوانين والتشريعات الناظمة ،والفكر ،والممارسة العملية المسؤولة. وما يقتضيه من مسؤوليات جمة على الدولة والفرد .وفهم حقيقي مستفيض لواقع وتجسيد مبدأ المواطنة في وطننا العربي ،سواء في نصوص القوانين والتشريعات والدستور العام للبلاد ،أو في أحكام القضاء المتعلقة في حياة الشعب اليومية بشكلٍ مباشر. ولأنَّ المواطنة هي علاقة متبادلة بين الدولة والأفراد الذين ينتمون إليها ،عليهم أن يُقدّموا لها الطاعة التامة والولاء المطلق، ليُحصلوا على مجموعة من الحقوق المدنية، والاجتماعية، والإنسانية، والسياسية، والاقتصادية. ففي حقيقة الأمر تتجلى مقومات المواطنة نتيجة لتعدّد الثقافات فيها وتنوعها، مع اختلاف القيم والعقائد والمبادئ بين المجتمعات، مع العلم أنّ هناك مجموعة كبيرة من المقوِّمات الرئيسية والمشتركة للمواطنة تختلف بين قطرٍ وآخر، وهي كالمساواة وتكافؤ الفرص كلٌ حسب قدراته ،ومستواه ومكانته ،وإتاحة جميع الفرص أمام المواطنين دون تمييز باختلاف انتماءاتهم السياسيّة والاجتماعية، وعقائدهم الدينية ومذاهبهم وطوائفهم، ومعتقداتهم الفكريّة، حيث يُمكن تحقيق ذلك من خلال ضماناتٍ تشريعية وقانونيةٍ. وقضاءٍ عادل ونزيه يُنصف كلّ من تتعرّض حقوقه الإنسانية بكل ألوانها للانتهاك. كما يجب أن تفتح المجال لكافة المواطنين دون تمييز للمشاركة الفاعلة في جميع المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بدءاً من حق الطفل في تلقي التربية والتعليم والرعاية الصحية الكاملة، مروراً بحرِّية الأفراد الفكرية والثقافية والمعرفية ،وحقّهم الطبيعي بالاستفادة من الخدمات العامّة التي تقدمها الدولة، ومشاركتهم الفاعلة بالأنشطة الثقافية والاجتماعية المختلفة، وانتهاءً بحقّ المواطن في الانخراط بحريةٍ في الأحزاب والقوى السّياسيّة، وتولّي المناصب العليا في الدولة، والمشاركة العملية الفاعلة في صنع القرار وتفعيله. والاعتقاد الدائم بأهميّة التقيُّد التام بالالتزامات والواجبات والقوانين والتشريعات الناظمة تجاه الوطن.
ويبدو أنّ الجدل ما يزال مستمراً حول مرجعية المواطنة كجزء رئيسي وهام من الحقوق الإنسانية، بخلفيتها الثقافية والفكرية ،والتربوية، والفلسفية ،والحقوقية ،والقانونية والتشريعية ،بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو المذهب أو القومية (الإثنية) والجنس واللون والرأي والرأي الآخر ،والفكر السياسي ،والأصل الاجتماعي ،والانتماء القبلي أو العشائري أو الأبوي.
هذا الموضوع تتجاذبه اتجاهان إثنان: الاتجاه الأول حداثي وهو الذي يعتبر الحداثة بما فيها من تنوع واختلاف هي الأساس في تبلور مفهوم المواطنة بشكله المعاصر القائم على عدة عناصر تتمثَّل بالحرية، والعدالة ،والمساواة، والمشاركة العملية الفاعلة. والاتجاه الثاني :هو اتجاه تقليدي يُرجع كل شيء في الحياة التي نعيشها الآن إلى الماضي، وحتى الماضي السحبق، والبعض من هؤلاء أتباع الاتجاهين يعتبرون الحداثة والمعاصرة ليستا سوى التعبير الأخير والنهائي عن مفهوم المواطنة التاريخي، ويستند في ذلك إلى الأهداف والمرامي الجوهرية للأديان السماوية التي هبطت على أرضنا العربية، إضافةً إلى المعتقدات القديمة التي تزخر بالكثير من القوانين والتشريعات التي تضمن الحقوق، وتؤكد على الأهداف والغايات نفسها ،وإن كانت قد وصلتنا بإرهاصاتها الأولى بحالتها البكر.
وبغض النظر عن هذين الاتجاهين الذين يتفارقا كمفهومين في هذه المسألة لأنهما بتعلقان جوهرياً بمحور الحق التاريخي للإنسانية في مقاربة ضمنية تأخذ بعين الاعتبار تطوّر مفهوم المواطنة الراهن الحداثي والمعاصر، عبر سيرورة تاريخية ،وتدرّجه في نسقٍ معيَّن، وصولاً إلى العصر الحديث، بخاصة أن بعض هذه الحقوق بل ربما جلّها ضاربة في عمق التاريخ البشري منذ صيرورته الأولى، وهي الرسالة الخاصة التي بثتها الأديان بين البشر.وانتشرت لتنشر العدل والحق ضمن سياق منهجها ذاته.
كما أنَّ مفهوم الدولة الوطنية الحديثة التي عرفها العالم منذ القدم، وجسدها بشكلٍ عملي على أرض الواقع خلال القرون الثلاثة الماضية، يقوم على فكرةٍ واضحةٍ وصريحةٍ، هي أنَّ الدولة كيانٌ ضروريٌ جداً وأساسي لحياة البشر على الأرض. وأنها تُبنى وتتعمّق وتترسّخ على أساس فكرة جوهرية واحدة هي أنّ (الدولة لكل مواطنيها) دون أي تمييز بينهم على أساس الدين أو المذهب أو المستوى الاجتماعي أو الجنس أو العرق، أو أي تباين في أي من الصفات الإنسانية والسمات الاجتماعية والثقافية والسياسية. وحسبما ورد في نصوص القرآن الكريم وسنة النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، ووفق التعاليم الإسلامية الحقة التي تؤكّد أنه لا تستقيم الحياة دون حقوق تصون الكرامة الإنسانية وتوفّر الشروط الموضوعية لإدارة شؤون الناس على الأرض استخلافاً عليها لتدبير شؤونها ومن عليها وإعمارها : ورد في الكتاب العزيز ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيّ ٱلصَّٰلِحُونَ) سورة الأنبياء الآية 105 أ 106 .
في حقيقة الأمر نجد أنَّ الحقوق إن كانت حقوقاً تاريحية أو حقوقاً آنية فإنها تختلف من عصرٍ إلى عصر. كما تختلف من دين إلى آخر. وكذا تختلف من دولةٍ إلى دولة أخرى. فبعض الأديان تعمّقت في الحقوق وتوسّعت فيها بشكلٍ كبير، وبعضها جاء عليها كرموز وإشارات وتلميحات محدودة، أو وردت ضمن سياق حقوق أخرى، ولعلَّ جوهر ولب هذه الحقوق يتعلّق بالمساواة والعدل والكرامة الإنسانية، وإحقاق الحق الإنساني ،حتى وإن تناقضت أو اختلفت الممارسةالطقوسية والشعائرية في التطبيقات اليومية أو الموسمية أو الأعياد الخاصة بما يجرّدها من محتواها ومضمونها بل يعمل بالضد منها وبشكلٍ عدائي أحياناً.ونحن من خلال قرائتنا العميقة للحضارات الشرقية القديمة وفلسفاتها ومناهجها وتكويناتها نجد أنها جاءت على ذكر الحقوق الإنسانية بمعظم تفاصيلها، فالحضارة العظيمة التي عرفتها الصين خلال ردحٍ طويلٍ من الزمن ومن خلال كونفوشيوس الذي اشتهر بالحكمة والرصانة، لاسيما بتمجيد قِيَم المحبة العدل والمساواة والإخاء ونشر تعاليم الأمن والأمان والسلام بين البشر، وعبرعدد كبير من بلدان العالم، ووقف ضد التعالي والتطاوس والكِبَر ،والتعاظم بالدعوة بشكلها الكلّي للتماثل والتساوي والتقارب بين الناس ،ليصبح العالَم كلّه قريةً واحدةً يختار فيها ذوو العقول النضرة ،والمواهب المميزة ،والفضل في المستوى والكفاءة الذين يعملون معاً على نشر السلم والأمن والأمان والمحبة والوئام بينهم، بحيث يأخذ كل إنسان حقّه دون نقصان أو انتقاص على نحو من التقدير والاحترام. للرجل والمرأة على السواء، فلا يُعتدى على المرأة ولا تظلم وتتشارك جنباً إلى جنب مع الرجل لصنع الحياة .
لقد حفل تاريخنا القديم بحضارةٍ إنسانيةٍ وصلت الآفاق شهدت خلالها البشرية أعدل القوانين والتشريعات الإنسانية في ذلك الزمن . فقد كرّس حمورابي شريعته التي اعتبرت أوَّل مدونة للقانون الجنائي على الأرض. تلك التشريعات التي عرفت بقوانين حمورابي أو شريعة حمورابي والتي بلغ عددها 282 مادة قانونية سجلها حمورابي سادس ملوك بابل الذي حكم (من سنة 1792 قبل الميلاد إلى سنة 1750 قبل الميلاد) ونقشها على مسلة كبيرة أسطوانية الشكل. فكانت دعوة ضد شريعة الغاب. وهي دعوة إلى العدل والمساواة وإبعاد حكم الطغيان والاستبداد ، كما أَنصفت قوانين حمورابي المرأة، تلك القوانين والتشريعات كانت تشكّل لبنات أولية وأساسية للمواطنة التي نتحدث عنها بمفهومها الحداثي والمعاصر.
ختاماً نؤكد أنّ حضارتنا العربية القديمة وحضارات الشرق القديم أسهمت في تأصيل قيَم الأخلاق والمحبة والمساواة والعدل والخير. وهي التي قامت على احترام الإنسان وحقوقه السامية.وهو ما شكّل بدرجةٍ كبيرةٍ الخلفية المرجعية الأساسية لمفهوم المواطنة الذي انطلق وتجسّد بعد الثورة الفرنسية عام 1789 م وتعاليم جان جاك روسو ،وشارل لوي دي سيكوندا المعروف بمونتسكيو، وفرانسوا ماري آروويه الشهير بفولتير، لاسيما أهداف الحرية،والمساواة والمحبة والعدل وإحقاق الحق .