إدوارد سعيد بين (الأوتوبيوغرافيا) والسيرة الغيرية Biograph
عماد خالد رحمة | برلين
كثيراً ما يدور الحديث عن السيرة الذاتية للأدباء والمفكرين والعلماء والمثقفين والشخصيات العامة،هذا الموضوع دفعنا لأن نتساءل حول ما إذا كانت السير الذاتية أحد الأجناس الأدبية، ففي أدبنا العربي الحديث نماذج كثيرة منها لا تعدّ ولا تحصى، ليس فقط ما يتم تدوينه في الويكيبيديا العالميةعن الشعراء والروائيين والكتّاب والمسرحيين إلخ، بل ما تم تدوينه في الكتب والروايات التي تعتبر كسيرة ذاتية بامتياز. والسيرة الذاتية أو(البيوغرافيا الذاتية) أو(أوتوبيوغرافيا) هي نوع من أنواع الكتابة الأدبية، والتي تعني فن سرد الشخص لسيرة حياته الشخصية أو جزء منها، ويصعب تحديد تعريف معين لهذا النوع الأدبي، لكونه أكثر مرونةً وانسياباً من الأنواع الأخرى، وأقل وضوحاً، فهي إما أن تتراوح ما بين سرد لأجزاء من حياة شخص ما ،له دور هام في المجتمع، أوعرض ليومياته، أو اعترافات شخصية، كأن يعترف الكاتب بالأخطاء التي ارتكبها في مرحلة ما من حياته أو يسرد بعضاً منها.والشاهد على ذلك ما قرأناه في حياتنا مثل كتاب (الأيام) لعميد الأدب العربي طه حسين، حيث سرد في طياته قصة حياته وطفولته في قريته ،بما تحمل من معاناةٍ وقسوةٍ، ويحدثنا عن الجهل المطبق على الريف المصري، وما فيه من عادات حسنة يحبها وعاداتٍ سيئة كان يكرهها في ذلك الوقت.كما يحدثنا في كتابه (الأيام) عن شقاوته مع شيخه، ثم الانتقال إلى أعمدة الأزهر ساحباً إيانا في رحلةِ حياتهِ التي عاش فيها بين أعمدة الأزهر وقبابه، ورأى فيها ما رأى .فقد كان من الطبيعي أن يكون لشهرة طه حسين دورها في شهرة هذه السيرة بالذات بين تجارب السيرة الذاتية العربية المتعدّدة، لقد عرف أدبنا العربي الحديث نماذج أخرى مهمة في كتابة السيرة الذاتية، من أبرزها رواية (رأيت رام الله) للكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي، التي حازت على جائزة نجيب محفوظ للإبداع الأدبي عام 1997. هذه الرواية تعدّ سيرة ذاتية للكاتب ،وتمثل رحلة العودة إلى موطنه فلسطين بعد ثلاثين عاماً من الغربة. وكتاب (أثقل من رضوى) للروائية المصرية رضوى عاشور زوجة الروائي الفلسطيني مريد البرغوثي،التي تسرد سيرتها الذاتية بين مشاهد من الثورة وتجربتها في مواجهة المرض العضال طوال السنوات الثلاث الأخيرة والآلام التي عاشتها،والتي تربطها بسنوات سابقة وأسبق. تحكي عن دراستها في الجامعة وعملها كمدرسة في الجامعة الأمريكية، والتحرير والشهداء. كما تحكي عن نفسها، وتتأمل فعل الكتابة.وكتاب (أثقل من رضوى) مليء بالمواقف الحزينة والمواقف المضحكة. يتنوع أسلوب الكاتبة فيه بين الأسلوب الجاد الرصين والأسلوب الساخر البسيط. وهو نموذج محبب للكثيرين ،كما يمتلئ الكتاب بأسماء الكثير من الأدباء والفنانين والشعراء وغير المشاهير.وكتاب (التجليات) للروائي المصري جمال الغيطاني، حيث تعتبر تلك التجليات علامة فارقة في تاريخ الرواية العربية ،وإبداع أدبي أصيل هام يصل الحديث بالقديم فكراً وأدباً وأحداثاً وفناً ولغةً. ليس للكتاب بناء خطي تبدأ الأحداث فيه عند النقطة (أ) وتنتهي عند النقطة (ب)، ولكنه كتاب ينحو باتجاه بناء غير نمطي على الإطلاق. ويمكنك أن تفتح الكتاب في أي صفحة وتشرع في القراءة ولا تحتاج إلى العودة إلى ما سبق، حتى تنخرط فيها وكأنها الصفحة الأولى كي تتعرف من خلالها على الأحداث بكامل مفاعيلها التي لا تبدأ ولا تنتهي وتشعر في الوقت نفسه بأنك في قلب الكتاب ومع الحدث ومستغرقاً فيه منذ أمد بعيد. هذه الرواية بطلتها الأولى والأساسة هي اللغة والكلمات. ورواية (الخبز الحافي( للأديب محمد شكري،هي رواية تعدّ من أشهر ما أنتجه الأديب الراحل محمد شكري. كتبت سنة 1972 ولم تنشر روايته باللغة العربية حتى سنة 1982 م ،وترجمت إلى ثمانٍ وثلاثين لغة أجنبية. وهي سيرة ذاتية بامتياز. و(البئر الأولى) للكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا. وهو فصول من سيرة ذاتية الأولى حيث يعتبر البئر الأولى بئر الطفولة التي تجمعت فيها أولى التجارب الحياتية للكاتب، وكذلك كتابه بعنوان (شارع الأميرات). وكتاب (امرأة الأرق) للكاتبة المصرية ميرال الطحاوي التي تحكي فيه عن المكونات الثقافية الأولى، وتسرد كيف تلقت أبطال روايات عميد الأدب العربي طه حسين، وتوفيق االحكيم ،وعباس العقاد ،ومصطفى لطفي المنفلوطي، وكيف تعرفت على فرانس كافكا ،وجان بول سارتر ،وتشيكوف، ودستويفسكي ،وتولستوي، وكيف تقاطعت مع أفكار هؤلاء الكُتًاب.وكتاب (أرق الروح) للدكتورة اللبنانية يمنى العيد، التي فاجأتنا بهذا الكتاب الذي ينتمي إلى السيرة الذاتيّة، وهو كتاب هام ولكنّه يتجنّح بالمتخيّل ليمحي كل ما عداه.وهو كتاب يبحث عن أرق الروح الذي تتجاوز حساسيّته الفردي إلى الإنساني بشكلٍ عام .وغيرهم.
في هذا السياق لا نعلم إلى أي مدى يمكن أن ندرج كتاب (خارج المكان) في خانة أدب السيرة الذاتية العربية الذي كتب عن حياة المفكر العربي الفلسطيني الأصل أمريكي الجنسية إدوارد سعيد الصادر عام 2000 م ،نقلته إلى اللغة العربيّة “دار الآداب للنشر والتوزيع”، وقام بترجمة إلى العربية فوّاز طرابلسي ، كون صاحبها كتبها أساساً باللغة الإنجليزية، ولكن المؤكد أننا في هذه السيرة نتعرف إلى حياة مفكر عربي بالدرجة الأولى، حتى لو وضع جل كتبه باللغة الإنجليزية، كما أن للمكان العربي حيزاً كبيراً في هذه السيرة، بالنظر إلى نشأة المفكر إدوارد سعيد في عدة مدن عربية بينها القدس والقاهرة وبيروت. في هذا الكتاب من الكثير من الجمال الذي تركه إدوارد سعيد وقدرته على المزج في الكتابة بين نمط (المذكّرات) ونمط (السير الذاتيّة)، فعلى الرغم من اختيار المؤلّف صنف المذكّرات في العنوان الفرعيّ للكتاب، إلّا أنّ القارئ يجد نفسه أمام خليط منسجم ومتناغم من الأحداث والمواقف الشخصيّة، والّتي تتبلور كلّما تنقّل القارئ بين سطور الكتاب وصفحاته.
لذا يمكننا أن نجد شكلاً آخر من كتابة السيرة، غير السيرة الذاتية، أي تلك التي لا يقوم صاحب السيرة بكتابتها عن نفسه وحياته، هو ما يعرف بالسيرة الغيريةBiograph، وهي سيرة حياة شخص تمت كتابتها بواسطة شخص آخر،وهي شكل من أشكال الأدب، والتي تُعتبر عادةً غير خيالية، و موضوعها يتمحورحول حياة شخص معين بشكلٍ مسبق، حيث تعد السيرة الغيرية من أقدم أشكال التعبير الأدبي في أدبنا العربي، والتي تسعى إلى إعادة تشكيل حياة إنسان ما من خلال الكلمات والجمل والعبارات عن طريق المنظور التاريخي أو الشخصي للمؤلف، حيث تعتمد على جميع الأدلة والبراهين المُتاحة، كالأدلة المحفوظة في الذاكرة والحياة اليومية، أو المكتوبة في الكتب والمجلات المحكّمة ،والمقالات الصحفية، أو الشفهية، بالإضافة إلى المواد التصويرية على غناها وتوثيقها ووفرتها .وفي هذا الشكل من الكتابة يندرج كتاب (إدوارد سعيد.. أماكن الفكر) الذي وضعه تلميذه وصديقه الأكاديمي الأمريكي تِمُثي بْرنن وترجمة محمد عصفور. الذي صدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت ضمن سلسلة (عالم المعرفة).الدكتور رشيد الخالدي الأستاذ بجامعة كولومبيا يصف هذا الكتاب الذي جاء في 528 صفحة بأنه يقدم صورة المفكر إدوارد سعيد بكل أبعادها، ويكشف الزوايا العديدة لحياته وأعماله التي يجهلها أقرب المقربين له، ويقول إن المؤلف يعطينا فيه صورة رثائية مرهفة لشخصية هامة من أبعد شخصيات القرن الماضي تأثيرًا. فقد كان إدوارد سعيد شخصية محبوبة لم يختلف الناس بشأنها، وكان رائداً لدراسات ما بعد الاستعمار الكولونيالي، وناقداً أدبياً موسوعياً وواسع الثقافة ،لا تزال كتبه، ولاسيما كتاب (الاستشراقOrientalism) الذي ترك أثرا بليغا في الطلبة والمفكرين في هذه الأيام.
وإذا ما استثنينا ملحق الصور والصفحات التي على متنها نشرت عناوين مئات المراجع والمصادر والهوامش التي استعان بها مؤلف الكتاب الأكاديمي الأمريكي تِمُثي بْرنن، فإننا نكون إزاء كتاب هام يكاد عدد صفحاته يبلغ أربعمئة وثلاثين صفحة هي بمثابة سيرة غيرية Biograph لإدوارد سعيد، وتصدرت الكتاب بترجمته العربية مقدمة وضعها الباحث محمد شاهين. وليست غاية هذه السيرة إعادة ما قاله المفكر إدوارد سعيد عن نفسه في كتاب (خارج المكان) (إدوارد سعيد.. أماكن الفكر) على لسان شخص آخر، إنما تقديم الرجل كما بدا في عين شخص آخر عرفه عن قرب وتعايش معه وتعلّم منه الكثير.
الجدير بالذكرأنَّ المفكر إدوارد سعيد هو باحثٌ وكاتبٌ فلسطيني حاملٌ للجنسية الأمريكية، وهو مُفكرٌ أدبي وأكاديمي كتب عدة كتبٍ هامة حول النقد الأدبي ،وقضايا ما بعد الاستعمارية الكولونيالية،والنقد الموسيقي.وكان أكثر المدافعين عن الحقوق الإنسانية تأثيراً في الولايات المتحدة الأمريكية ،وقد شارك في العديد من المظاهراتٍ من أجل الحقوق السياسيّة واستقلالية شعبنا العربي الفلسطينيي. وتمت تسميته باسم (الصوت الأكثر قوة) لأجل فلسطين والشعب العربي الفلسطينيي.كما عمل كأستاذٍ جامعي للغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا لمدة أربعين عاماً، واشتُهر بتأليفه كتاب (الاستشراقOrientalism) عام 1978. تحدث فيه عن افتراضات العالم الغربي التي تؤدي إلى سوء فهم حضارة الشرق الغني ورموزها ، خصوصًا الشرق الأوسط. تُرجم الكتاب إلى عدة لغات، ويتم تدرسيه في العديد من صفوف العلوم السياسيّة في جامعات العالم .كما وضع المفكر إدوارد سعيد أيضاً عدة نظرياتٍ في الموسيقى ،وألّف عدة كتبٍ في هذا المجال. وقد أظهر المفكر إدوارد سعيد اهتماماً كبيراً بالسياسة ،وعمل كعضوٍ مستقل في المجلس الفلسطيني الوطني Palestinian National Council (PNC).
لعل قراءة هذه السيرة الهامة والخاصة والتي يمكننا أن نطلق عليها أنها سيرة غيرية Biograph)) بامتياز، تمكننا من تبين الفرق الكبير بين شكلي السيرة، الذاتي والغيري Biograph، فهي ترينا أن كتابة الكاتب عن ذاته ليست هي نفسها كتابة شخص آخر عنه، حتى لو كان من موقع الإعجاب والحب والوفاء، كما هو شأن مؤلف هذا الكتاب في علاقته بالمفكر إدوارد سعيد.