المواطنة والدولة الحديثة.. من دولة الحماية إلى تأكيد وتعزيز دولة الرعاية
عماد خالد رحمة | برلين
ارتبطت فكرة المواطنة بالدولة الحديثة باعتبار الدولة منجز حضاري ،ومن أهم المنجزات العظيمة التي عرفتها البشرية. بخاصة وأنَّ المواطنة أخذت أبعادها الفكرية والثقافية والاجتماعية والحقوقية منها، إضافةً إلى أساسها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الراهن. ولأنَّ الدولة جاءت من أهم منجزات البشر على الأرض. بخاصة في المجال الاجتماعي الهادف إلى حماية أرواح وممتلكات المواطنين، وحفظ الأمن والأمان والنظام العام، والمعلوم أنَّ فكرة المواطنة اعتمدت بالدرجة الأولى على بناء الدولة كان ذلك في القرن الثامن عشر، في سياق الأفق الليبرالي الذي نشر فكرة أنَّ للفرد قيمة كبيرة. لذا كان إعلاء شأن الفرد والحرية الفردية والسوق في مجال سيادة القانون، أما في القرن التاسع عشر، فإنه شهد تطوراً متسارعاً في فكرة المواطنة من خلال تأكيد وتعزيز الحقوق العامة وأولها الحقوق السياسية بعد إقرار شيئاً من الحقوق المدنية،وتطور مفهوم الديمقراطية الذي ظهرقبل مبدأ الانتخابات العامة والاقتراع .
توسّعت فكرة المواطنة في القرن العشرين لتشمل مبادئ حقوق الإنسان الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بعد المستجدات التي حصلت بإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قبل هيئة الأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول عام 1948،خاصة بتطور الحقوق المدنية والسياسية ولهذا حظيت فكرة المواطنة باهتمام أكبر مما كان متوقعاً لاسيّما بانتقالها من فكرة تأسيس دولة الحماية إلى تأكيد وتعزيز دولة الرعاية.وهكذا نجد أنَّ المادة الثانية من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان تقول بأن (كل دولة تعتبر طرفاً في هذا العهد ،وتتعهد باحترام الحقوق المعترف بها فيه، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها ،والداخلين في ولايتها، دون أي تمييز بسبب العرق، أو الجنس، أو اللون، أو اللغة، أو الدين،أو الطائفة، أو الرأي سياسياً أو غير سياسي، أو الأصل الاجتماعي أو القومي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب)
لقد سعت العديد من الدول بخطواتٍ واثقة على طريق تأمين الحقوق العامة والخاصة والحريات المدنية والسياسية، واستمرت تسير متسارعةً في تعزيزالحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، لتأكيد ديناميكية وحيوية فكرة المواطنة بمزاوجة الحقوق العامة والحرّيات بالعدالة والمساواة، وهو الأمر الذي نطلق عليه (المواطنة العضوية)، وهو مصطلح سبق للثورة الفرنسية إبداء الحماس الكبير لاستخدامه. فالمواطنة بالفرنسية (Citoyenneté) ومصطلح (المواطنة العضوية) يعني الفرد الذي يتمتع بعضوية بلد ما، ويستحق بذلك ما ترتبه تلك العضوية من امتيازات واستحقاقات. وفي معناها السياسي، تُشير (المواطنة العضوية) إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها، والالتزامات والاستحقاقات التي تفرضها عليه، أو قد تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه وماهيته بفاعلية، وما يشعره بالانتماء إليه.
من هنا تعبِّر المواطنة في ركيزتها الأساسية المستندة على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وأمام القوانين والتشريعات الناظمة ودون تمييز بسبب الدين أو اللون أو الجنس أو المنشأ الاجتماعي أو اللغة أو العرق أو لأي سبب آخر.
كما ترتكز المواطنة على قاعدة الحرّية كقيمة عليا ولا يمكن تحقيق الحقوق الإنسانية الأخرى بدونها،لأنَّ الحرية هي جزء من الفطرة البشرية، فهناك أنفة طبيعية عند الإنسان لعدم الرضوخ والخضوع وإصرار على امتلاك زمام القرار المستقل. لكن هذا النزوع قد يصطدم بحواجز وعوائق وسدود نتيجة قمع واضطهاد وظلم متواصل تمارسها أنظمة شمولية استبدادية طاغية، أو أنظمة دينية متشدِّدة كما كانت عليه الحال في أوروبا في ظل سطوة الملوك والقياصرة والنبلاء والكنيسة، لكن على الرغم من ذلك فإن المطالبة بالحريات وحقوق الإنسان قديمة قدم التاريخ الإنساني العريق التي تعود إلى أيام حمورابي سادِس مُلوك السُلالة البابلية الأولى وأول مُلوك الإمبراطورية البابلية، قبل نحو ثلاثين قرناً الذي سعى لإقامة عدالة لمنع الأقوياء من ظلم الضعفاء.
وفي حقيقة الأمر الحرية هي المدخل والبوابة الضرورية للحقوق الديمقراطية السياسية، بما فيها حق التعبير عن الرأي والرأي الآخر، وحق تأسيس الجمعيات والهيئات والمؤسسات والأحزاب، وحق الاعتقاد ،وحق المشاركة السياسية في إدارة الشؤون العامة في الدولة ،وتولّي المناصب العليا، وإجراء انتخابات نزيهة بشكلٍ دوري، إلى حق التنقل والتملك وعدم التعرّض إلى الحجز والسجن والتعذيب … الخ .
كما أنَّ المواطنة ترتكز على فكرة العدالة بجميع أشكالها وصنوفها، وفي جوانبها القانونية التشريعية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فمع الفقر والحرمان لا تستقيم العدالة، ومع عدم إعطاء المرأة حقوقها سيبقى فعل المواطنة ناقصاً ومبتوراً، ومع القفز على حقوق المجاميع الثقافية والدينية والإثنية وغيرها، ستكون العدالة مشوّهة وغير صحيحة، ولعلّ مقاربة فكرة العدالة يمكن أن تتحقق من خلال التنمية التي تضع الدول برامج وخطط لتطويرها وتجسيدها عملياً في الواقع، وهو ما أطلق عليه التنمية المستدامة: الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المستندة إلى قاعدة الحريات والحقوق المدنية والسياسية، التي تتوافر فيها المعرفة الغنية و تملك القدرات التي تحتاجها التنمية إضافةً إلى تنمية القدرات لاسيّما القدرات التعليمية وتأمين حقوق المرأة وحفظها من نوازع الصراع الذكوري،كما تستند التنمية المستدامة على الأقليات التي تتشارك في بناء الدولة ،كما تعمل الدولة عندما تثبت فكرة المواطنة على تقليص الفوارق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية بالحدود المطلوبة.
وهناك ركيزة أخرى هامة للمواطنة تستند فيها على الحق في المشاركة الفاعلة دون تمييز، إذ لا مواطنة حقيقية دون الحق في المشاركة العملية الفاعلة.إنَّ فكرة الدولة حديثة جداً في المنطقة العربية، هو تعبير عن فكرة المواطنة التي تعتبر بدورها أكثر حداثة منها لأنها انبثقت عنها. وعلى الرغم من وجود تجارب يمكن أن نطلق عليها (دولتية) أو ما يشابهها في العهد الراشدي الأول أي في عهد الخلفاء الراشدين وما بعده أوعند تأسيس الدولة الأموية (41 – 132 هـ / 662 – 750 م) وهي أكبر دولة وثاني خلافة في تاريخ الإسلام، وواحدةٌ من أكبر الدُّوَلِ الحاكِمة في التاريخ وكانت عاصمة الدولة في مدينة دمشق. فقد حفلت الدولة الأموية بالدوواوين المؤسساتية وقدراتها على صيانة بنية الدولة ومراتبيتها الإدارية التي توسَّعت وتطوَّرت في ظل الدولة العباسية. والتي جاء بعدها الدولة العثمانية، بخاصة في الفترة الأخيرة من تاريخها حين وهنت وضعفت وأطلق عليها (الرجل المريض)، لكن هذه الدولة كانت قد تأثرت بمفهوم الدولة المعاصرة في أوروبا وبالأفكار الدستورية والقانونية والتشريعية الحديثة، لاسيّما فكرة المواطنة التي ازدهرت في القرن العشرين، باعتبارها (حقاً) هاماً وأساسياً من الحقوق الأساسية للإنسان.
لقد تم تأكيد وتكرّيس مبدأ الحق في المواطنة في أواسط القرن العشرين بخاصة بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأوَّل لعام 1948 م، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية العام 1966 الذي اعتمد وعرض للتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 (ألف) )د-21) المؤرخ في 16 كانون الأول 1966م. وفقا لأحكام المادة 49. والعديد من الوثائق والمعاهدات الدولية، التي أكَّدت على أنَّ لكل فرد يعيش في أي مكان من هذا العالم الواسع الحق في أن تكون له صلة قانونية وتشريعية ودستورية بدولة من الدول.