مقاربةٌ شعريَّةٌ تحليليَّة لقصيدة الدمع أول اليقين للشاعر والأكاديمي د. جاسم العجة
بقلم: د. محمد الواضح
أولا – نص القصيدة
مررتَ على التاريخ؟ لا أتذكّرُ كفاني من التاريخِ أنيَ أشعُرُ
ومالي وللتاريخِ، حسبيَ تربةٌ مآثرهم فيها كتابٌ مسطّرُ
مررتَ على التاريخ؟ كلا، فشوكهُ كثيرٌ، وصوتُ الوردِ خافِ ومضمر
ومن ير رأي العين عالي قبابهم كفاهُ عن المظنونِ كشفٌ مؤزرُ
ركبتُ ضباباً لا أعي كيف جاء بي ولا أين يمضي بي؟ وأيّانَ يَسفُرُ؟
وغبتُ وهم يلقونَ أقلامَ رأيهم فهذا يزكيني، وذاكَ يُكفّرُ
فكيف إذن تنجو؟ وأيُّ سفينةٍ تقلك نحو الله؟ إن جئتَ تعبرُ
وجدتُ بآل البيتِ نوحَ دلالتي وأيوبَ أوجاعي، وها أنا أصبرُ
ومن يمش مهديّاً بمشكاةِ ربه فماضرَّ ممشاهُ الزجاجُ المكسّرُ
مررتَ على التاريخ؟ كلا، ولم، ولن… فأمّي من التاريخ أهدى وأبصَرُ
لأنَّ دموعَ الأمَّهاتِ أَدلّةٌ ودَرْبٌ إلى باب الحقيقة أقصرُ
جلستُ إليها كي تلقن حيرتي وأدمعها وحيٌ، وقلبيَ دفترُ
سألتُ وبي طفلٌ على اللونِ مدمنٌ: لماذا بعاشوراءَ دمعكِ أحمرُ؟
ستكبرُ ياطفلي فإن لم تشِب هدى على حب آل البيتِ إياكَ تكبرُ
تقولُ ويمناها تغالب دمعها: عليٌّ رجولاتٌ وحقٌّ ومغفرُ
عليٌّ غيوث الأرضِ من آل بيتهِ تزخّ شهاداتٍ، وبالطهرِ تمطرُ
عليٌّ إذا الهيجاء نادت رجالها فلا الخيلُ منجاةٌ، ولا الدرعُ يستر
وياولدي كلٌّ يقاتل مفرداً وزندُ عليّ الله جيشٌ وعسكرُ
وياولدي ما ذو الفقار كغيره وياولدي الكرارُ لا يتكرّرُ
إذا أعملَتْ فيكَ الرواياتُ شكّها فأصدقُ من يفتيكَ قلب ومحجرُ
فيامانح الدنيا كتاب طلاقها تصحرَت الدنيا ، وذِكرُكَ أخضرُ
متى كانت الدنيا صديقةَ صالحٍ ؟ وزوجةَ ذي رأي يرى ويفكرُ
وما أنت والدنيا وزيف فتونها ؟! فلا أنتَ كِسراها ، ولا أنت قيصرُ
إذا القيمةُ العليا تولّت ربيبها ففوزٌ رَداها، والشهادة أيسرُ
فيا بابَ داحي البابِ؛ بالبابِ شاعرٌ يَقلُّ على مدح (الكثيرِ) ويصغرُ
أخبُّ إلى معناكَ كيف أحيطُه ُ بقلةِ ما عندي ، وبعضكَ كوثرُ؟!
وحسبي إذا طهرتُ باسمكَ أحرفي تضيٍءُ يدي والأبجديةُ تُقمرُ
أتيتُ، ولي في طهرِ كوفاكَ شَهْقةٌ ولي دمعةٌ ترتاح إذ تتحدّرُ
أحار على الشبّاكِ حين أهزُّهُ أرِقُّ فأبكي .. أم أهابُ وأفخرُ
ثانيا – المقاربة النقدية
بين سؤالات التاريخ وأقبية الروح يتحدّر (الدمع أول اليقين)
هذه المعنونة قراءةٌ أو مقاربةٌ شعريَّةٌ تحليليَّة لقصيدة الشاعر والأكاديمي المبدع د. جاسم العجة (الدمع أول اليقين) أُلقِيتْ لمناسبة ميلاد الامام عليٍّ ع في مهرجان العتبة العلوية المقدسة الموافق 13 رجب 1443، وهي بثٌّ شعريٌّ نَسجَ فيه الشَّاعرُ نَسقًا ثقافيًّا شعريًّا يجمع بين التاريخ بوصفِهِ سؤالاً ومرجعًا ظنيًّا ملتبسًا، وحاكمًا على العقيدة البشرية بغضِّ النَّظر على ملابساته، والإصغاء إلى نقاء الروح، وفطرة الأُمَّهات أدلَّةً غير مشوبةٍ أو مُلوَّثةٍ بظنيَّات التاريخ المكتوب بالأقلام غير المنصفة ، عبر حوار شعريٍّ يرتكز على خطاب روحيٍّ عرفانيٍّ مكّثف، مُتَّخذًا من الدَّمع ثيمةً أساسيَّةً في نسيجه الشعريِّ، تكشف عن أسرار التعرُّف والولوج إلى عُمْق شخصيَّة الإمام عليّ ع صاحب الذكرى والميلاد، ناظمًا قصيدته على البحر الطويل؛ نظرًا لما يتوافر في إيقاعاته وتفعيلاته من سَعَةٍ ومساحة تستوعب بَوْح الشاعر وغرضه، مصنِّفًا قصيدته على أربعة مقاطع شعريَّة.آثرتِ القراءةُ أن تتناولَ كُلَّ مقطعٍ شعريٍّ بنَحْوٍ مُستقلّ، وتحليله بما يناسب مبناه ومعناه على ماسيتبيّن إن شاء الله تعالى.
أما قبل فـ : تصدير شعري (١) :(يقول الشاعر : إن استطعت أن تجيب عن أسئلة الطفل، فأنت في عمق الحقيقة)
رَجْع نقدي (١): (أن يُصدِّر الشاعر قصيدته بسؤالات الطفل؛ فذاك الطفل فيلسوف صغير، أو قُلْ شاعرًا أصغرَ يشقق بسؤالاته وَجْهَ الغيم فلاتَ حينَ مطر!)
تصدير شعري (٢) : في المعنونة (الدمع أول اليقين)
رَجْع نقديٍّ (٢): (إنَّهُ أول إعلانٍ لإسقاط لماذائيَّات الشك؟؟؟ فالشكُّ قَنْطرة الروح، وعَتَبة المعنى نحوَ الولوجِ إلى فضاءٍ يُعبِّده الدَّمع يقينًا يتهجّى أسئلة الإيمان الشاعرة).
المقطع الأول: التاريخ يسائل الشعر!:
في هذا المقطع الشعريِّ يبرز التاريخ استفهامًا مُخيفا يفزّز يقين القصيد، قلق القصيد؛ فلا غروَ إنْ شَحَّ عنه شاعرٌ يطرب على صوت الورد؛ إذ لافرار من سؤالات التاريخ: لعنتِهِ، أسطرتِهِ، دسائسِهِ، فالتاريخ مقبرة المعنى، لا سبيل لعبوره إلا بالسكينة والغفران والنزوع نحو هدءة الروح، رسالة يحملها شاعر يلوذ من التاريخ وظنّياته بعاليات اليقين، وسامقات القباب الخضر، فما رآءٍ كمن وَهِما!
مرةً أخرى يهمّ الشاعر بالتاريخ، مستحضرًا شَكّياته، تائهًا في حَوْمة أسئلة، أسئلة تُشظّيه على هيئة ألسن تتقاذفه من مرسى الهداية إلى مرسى التضليل، ولاتزال الأسئلةُ تؤرِّق الباثّ، تعوم في مِخياله عميقًا؛ حتى يبصر ضفة النجاة نحوَ الله، وهنا نجد الشاعر “العجة” يتوسَّل برمزيَّتي نُوحٍ والحُسين رُبَّانَي سفينة منجاته، ليستهديا متاهته في عتمة هذا البوح الموجع،كأَيُّوب يفتُّه عطش الصبر. هذه الرَّمزيّات التي وظِّف فيها التناص- تشد من أَزْر النص، مختتمًا هذا المقطع بقرآنيّةٍ بليغةٍ يَتشرَّب فيها النصُّ الشعريُّ لفظة المشكاة دالَّةً تُوقِد في الرُّوح ضياءً يهتدي إليه السائرون.
المقطع الثاني: في أسرار الدمع :
في هذا المقطع نلحظ أن التاريخ لم يَنفكَّ يُطارِدُ مِخيال الشاعر ويستفزُّه سؤالا، يَفرّ منه هذه المرة، ليواجه قلقَهُ وشكوكَهُ بدالّات النفي الباتّة (كلا ولم ولن) متوسلا بدموع الأمهات وأسرارهِنَّ، ونقاء فطرتهِنَّ.
فدموعُهُنَّ يُمثلْنَ مسارب الإيمان، والباب الأدنى نحو الحقيقة. تبرز ألفاظ الدمع في هذا المقطع مُهيمنةً نصيَّةً تفكُّ شيفرات المعنى، وتبدِّدُ حيرة الشاعر؛ إذ تجده يوظِّف هذه الألفاظ بعنايةٍ وقصديّة عبر تزاوجٍ تركيبيٍّ دالّ على مايريد. ترد تلك الألفاظ باستعمالات مختلفة إفرادًا وجمعًا (دمع، دموع، أدمع) وليست الدموع دليلا إلى الإيمان فحسب، بل هي مصدر التلقين الحقيقي لحيرة الشاعر المنطوية على مضمراته (تلقن حيرتي) فالتلقين هو الإفهام والتعليم، ومنه تلقين الشهادة! فأية شهادة تلك التي تلقن حيرة الشاعر؟! (أدمعها وحي) و(قلبي دفتر) يضع الباثّ المتلقي المتأمل لهذين التركيبين في دائرة التأويل -ورطة التأويل- بانتقاءِ لفظ الوحي بمعناه الإيحائي الذي تتداعى معه قرائن الاستعمالات الدينية الوحيانية، وإن أراد منه معنًى قريبًا، ألا وهو الإشارة أو العلامة للفهم الأولي لإيمانه، مُؤثِرًا القلبَ دفترًا، ومساحةً لإقرار هذا الإيحاء الإيمانيّ.
ويستدعي الشاعر بسؤاله عن ثيمة (دمع أمه الأحمر في عاشوراء) سيميائيَّة اللون في مشهد عاشوراء، وإن بدا سؤالا مصوغا بلذاذةٍ شعريَّةٍ رقيقةٍ وطريَّة يمكن تسميتها –مجازا- بطفل الشاعر أو صوته الداخلي- (وبي طفل على اللون…) لينفذ بسؤاله إلى بلاغة الدم والدمع، منظومةً قيميَّةً وأخلاقيَّة كامنةً في قضية عاشوراء الحسين ع، وهي بمنزلة نتائج لمقدِّماتٍ، قرابينها حُبّ الآل منهجًا واقتداءً. وفي واحدة من جماليّات اللعبة الشعرية ومفارقاتها لدى الشاعر قوله: (ستكبر يا طفلي فإن لم تشِب هدًى على حُبِّ آل البيتِ إيَّاكَ تكبرُ) وترتكز هذه المفارقة في قوله (إيَّاك تكبر) وهنا الشاعر خرق -عن قصد- أمرين في النص ، وانزاح فيهما لفظا ومعنى؛ ليصنع الدهشة ويصوغ الجمال بنحو مختلف، أما الخرق الأول: فلفظيٌّ؛ إذ حرَّر جملة الشرط من الفاء (فإياك…) ليحرّر معها مساحة القراءة والانفتاح على المعنى، ولهذا مقصده الذي لايقتصر على ضرورة الوزن، لاسيما أن الشاعر “العجَّة” لايعجزه الوزن والعروض الذي عرفه شاعرًا وأستاذا له، أما الخرق الثاني: فمعنويٌّ؛ إذ جعل ما لايُستطاع كونيًّا يُستطاع شعريًّا، أو في أقل تقديرٍ قابلاً للفَهْم من منظورٍ شعريٍّ جماليٍّ، فالتحذير المشوب بالمفارقة نهْيٌ عن أن يَكْبُرَ ولده على غير حُبّ أهل البيت ع، فهل يملك الإنسان إرادة البقاء صغيرا دون أن يكبر؟! وهذا التصوير الفني اللافت يحسب له صياغة وصورة وإبداعا مغايرا يحدث هزةً لدى المتلقِّي.
وفي المقطع نفسِه ينهال مع الدَّمع سَردٌ لمفاخر عليٍّ وميِّزاته، لافتًا في إحدى صوره الجميلة التي يُسجّل فيها أحقيَّة قيمية وتاريخية وروحية، بأن جعل عَليًّا وآل البيت عناوينَ للإباء والمجد والفداء، تستغيث بهم الأرض العطشى لشهادتهم وتضحيتهم. وفي إلماعةٍ جميلة يقول فيها “العجة” و(ويا ولدي كلٌّ يُقاتِلُ مُفرداً وزندُ عليِّ الله جيشٌ وعَسْكرُ) ويخطف في قوله (مفردا)، و(زند علي الله) ضوء الإجادة التصويرية، لتحضر مع هذه التراكيب مفاهيم الشجاعة، والإيثارية غير الأَنوية، فضلا عما تبثُّه مُوحياتُ الإضافة (زند علي الله) والنسبة، من دلالاتٍ تؤكِّد التماهي العَلَوي مع اللهِ تعالى إخلاصًا، واستمدادًا للقوَّة والعزم. فهو مع الله -فردًا- جَيشٌ ومُعسكرٌ لا تغالبه الأعداء. وما قوله (الكَرَّار لايتكرَّر) إلا تأكيد على هذا المعنى، فتوظيف الاشتقاق اللفظيّ الموحي بشجاعته وإقدامه من جهة، وبوصفه غير قابلٍ للمشابهة والتَّكرار من جهةٍ أخرى.
المقطع الثالث (علي والدنيا):
في هذا المقطع يستحضر الشاعر علاقة عليٍّ بالدنيا، مستثمرا مقولاتِهِ وحكمه الرائدة في هذا الباب شعرا، ومنها مقولته المشهورة: (إليك عنّي يا دُنيا، غرِّي غَيْري، إليَّ تعرّضتِ أم إليَّ تشوّقتِ؟ هيهاتَ هيهاتَ! فإنّي قد طلَّقْتُك ثلاثاً لا رجعةَ لي فيك …)) ليعيد توزيعها في قوالبَ شعريّةٍ جديدة، وهو امتصاصٌ شعريٌّ لمعاني هذه الحكمة فنيًّا.
المقطع الرابع: نجوى الشاعر وتطهرُّه الرُّوحي
يختتم الشاعر قصيدته بمقطع يقف فيه متصاغرا لفظا أمام كثرة معنى علي ع، موظفًا لفظة الباب في قوله (فيا بابَ داحي البابِ بالباب شاعرٌ…) بطريقة تبدو متداخلةً شكلا، بيد أن علائقية التداخل أراد الشاعر منها أن يربط بين معنى اللقب الأشهر للإمام علي ع، ألا وهو (داحي الباب) في إشارة إلى الحادثة التاريخية قلع باب خيبر اليهود، والباب الرمز بوصفه عتبة الولوج إلى بيوت الصالحين، ليكون عليٌّ بابَ الأبواب إلى الله.
وأخيرًا أقول:
يترك معنى عليّ وهيبته لدى الشاعر تَلبُّثًا ومكوثًا شعريًّا يقصر فيه قليلُهُ الشعريّ عن إيفاء ذلك المعنى الهائل، فهو هالةٌ من نور، ومشكاةٌ من حروفٍ وكلماتٍ تبرقُ فيها الأبجديَّات، لتنساب روحُ الباث الشاعرة شهقةَ عشقٍ وتراتيلَ حُبٍّ، تحار فيه ذاته المرسلة في حضرة الطهر، فما إن يهزّ الشاعر شُبَّاك الضريح حتى اهتزَّت له روحه الغضة بكاءً وهيبةً وجلالاً.